الأحد، 1 نوفمبر 2009

شخصية ومصير - أيوب السختياني


ميثم الجنابي

إحدى الشخصيات التأسيسية الأولى للزهد الإسلامي والتصوف العملي. بمعنى من أولئك الذين ارسوا أسس التصوف الإسلامي من خلال تمرين الروح والجسد بمعايير الخروج على ما هو مألوف وعادي في فهم إشكاليات الوجود الاجتماعي والسياسي والأخلاقي. فقد شارك إلى جانب المئات ممن يمكن دعوتهم بالرعيل الأول الذائب في نحت الأفكار الجزئية والقيم العملية التي تناسبها. وهي النسبة التي يمكن رؤيتها في المقارنة والعبارات التي استعملها الحسن البصري عنه، وما قاله أيوب السختياني عن الحسن البصري. فقد قال الحسن البصري عنه مرة: "أيوب سيد شباب أهل البصرة"، كما لو انه يوازي بالمعنى التقليدي العبارات الوجدانية المتنوعة عن الحسن والحسين باعتبارهما سيدا شباب أهل الجنة، أو أبو بكر وعمر باعتبارهما سيدا كهول أهل الجنة أو مختلف الصيغ المشابهة. فالمضمون جلي. ومضمونه بقوم في محاولة البحث عن نماذج مثلى للتاريخ الفعلي من خلال رفعها إلى مصاف "السعادة التامة". وإذا كانت هذه "الأحاديث" النبوية، بما فيها الموضوعة (أي التي جرى صنعها لاحقا ووضعها على لسان محمد كما هو الحال بالنسبة للحديث المذكور أعلاه عن أبي بكر وعمر)، فان "حديث" الحسن البصري هو أولا وقبل كل شيء موقف فكري روحي لا نزاع فيه لمعترك العقائد والتحزب. بل ينبع من إخلاص الروح ومنطق التاريخ الفعلي للحياة نفسها. بعبارة أخرى انه لا يتكلم عن "سيادة" وهمية متعالية ومقدسة، بل عن نموذج واقعي - مثالي لأهل البصرة. وهو موقف كوني أيضا. والقضية ليست فقط في أن البصرة آنذاك (وما زالت في أعماقها) هي قاعدة الروح الثقافي العربي الإسلامي، بل ولحدسها العميق القائل، بان المتعالي والمقدس تاريخي بالضرورة وفرداني بالمصير. وليس مصادفة أن نسمع السختياني مرة يقول عن الحسن البصري:" هذا سيد الفتيان"! وهي عبارات تعكس رؤية الفرق بين الأبعاد المحلية والكونية. فقد كان أيوب السختياني محليا وجزئيا بمعايير الرؤية الكونية التي بلورها الحسن البصري. لكنه المكوّن الضروري الذي جعل منه عنصرا فعالا في بناء صرح المرجعيات الروحية المتسامية للثقافة العربية الإسلامية. فقد كان أيوب السختياني بنظر الكثيرين "جهبذ العلماء"، و"افقه أهل البصرة في دينه" وأصدقهم. فقد كان ابن سيرين يقول عنه "حدثني الصدوق". بل تحول إلى قبلة الاستلهام العملي لأولياء الثقافة الروحية المتراكمة في مجرى تصادم المثقف والسلطة المميز للمرحلة الأموية. فعندما قيل لأحدهم:
- نراك تتحرى لقاء العراقيين في الموسم؟
- والله ما افرح في سنتي إلا أيام الموسم! القي أقواما قد نوّر الله قلوبهم بالإيمان. فإذا رأيتهم ارتاح قلبي! منهم أيوب (السختياني)!
وهو لقاء ينبغي فهمه ضمن سياق المكانة التي احتلها أيوب السختياني في سلسلة الزهاد المصنوعة من معاناة التأمل العميقة لإشكاليات الوجود الفعلية والحياة العامة والخاصة. وليس مصادفة أن يقول بعضهم عنه "ما وعدت أيوب موعدا إلا وجدته قد سبقني إليه". بينما يقول عنه شخص آخر "ما رأيت رجلا قط اشد تبسما في وجوه الرجال من أيوب". وهي البسمة التي تعكس بكاءه الروحي. كما أنها المفارقة التي يمكن تحسسها في وعيه الذاتي ونقده للنفس، أي مراقبتها بالشكل الذي يجعل منها كيانا مخفيا من ملاحقة العيون المتطفلة. من هنا قوله "ذكرت وما أحب أن اذكر"، وانه "إذا ذكر الصالحون كنت عنهم بمعزل". بل نراه يقول عن يزيد بن الوليد بعد توليه الخلافة، وقد كانوا أصدقاء قبل ذلك "اللهم انسه ذكري". وهو موقف مبني على فكرته القائلة بأنه "لا يستوي العبد (الإنسان) حتى يكون فيه خصلتان، اليأس مما في أيدي الناس، والتغافل عما يكن منهم". وهو موقف لا يأس فيه ولا انزواء بقدر ما يعكس تراكم المبدأ النظري والعملي في تنقيه النفس وجعلها روحا. من هنا بناءه هيكل الفضيلة الروحية والعملية بصمت. وهو المبدأ الذي وضعه في عبارة تقول "ليتقي الله رجل وإن زهد، فلا يجعلن زهده عذابا على الناس، فلأن يخفي الرجل زهده خير من أن يعلنه". ووجدت هذه المعادلة تعبيرها فيما يمكن دعوته بالنفي الدائم للسمو الروحي بوصفه طريق السير الأبدي صوب الحق، كما نراها في فكرته عن الزهد. فقد قال بهذا الصدد "الزهد في الدنيا ثلاثة أشياء: أحبها وأعلاها وأعظمها ثوابا عند الله، الزهد في عبادة من عبد دون الله من ملك وصنم وحجر ووثن. ثم الزهد فيما حرم الله من الأخذ والعطاء. ثم يقبل علينا فيقول: زهدكم هذا يا معشر القراء فهو والله أخسّه عند الله! الزهد (الحقيقي) في حلال الله!". ويحتوي هذا الموقف في أعماقه على احتمال بلورة الفكرة القائلة، بأن حقيقة الزهد هي الزهد في الزهد. غير أن تجربة السختياني كانت تدور آنذاك في تنقية اللسان والتفكّر بمعايير الروح الأخلاقي. من هنا إجابته على طلب احدهم أن يوصيه بشيء، قائلا:أقلّ الكلام! بينما أجاب في حالة أخرى على سؤال عن عدم مشاركته في جدل الآراء الدائر آنذاك في البصرة بعبارة: قيل مرة للحمار: ألا تجتر؟ فقال: اكره مضغ الباطل". وهو السبب الذي جعله يرد مرة على رجل من أهل الأهواء:
- أكلمك كلمة؟
- ولا نصف كلمة!
من هنا أفكاره المناهضة لجدل اللاهوت الفارغ والانهماك المتعصب في شحذ كل ما يمكنه العمل على إفراغ العقل والروح من مهمة العمل. فنراه مرة يقول "ما ازداد صاحب بدعة اجتهادا إلا ازداد من الله بعدا". وليس مصادفة أن يربط هذا "الابتداع" الزيف بكلمة الاجتهاد، أي الانهماك في مهنة التحريف والتخريف التي ميزت ما كان القدماء يدعونه بفن أو صنعة القصص والقصاصين. لهذا نراه يقول، بأنه "ما افسد على الناس حديثهم إلا القصّاص"، وانه "لا خبيث أخبث من قارئ فاجر". وهو موقف جعله مرة يتهرب حتى من حديث أبي حنيفة. إذ ينقل عنه حادثة كيف أن أبا حنيفة دخل عليه مرة وهو بين أصحابه، فقال لهم:"قوموا بنا! لا يعدينا بجربه"! وهو سلوك لا تهرّب فيه، بقدر ما انه كان يضع الحرف والكلمة على ميزان المعاملة الروحية. وهي معاملة تختزن المعرفة وتضعها دوما على محك التجربة الذاتية وتختبرها بامتحان الإرادة. لهذا نراه ينصح احد مريده قائلا: "انك لا تبصر خطأ معلمك حتى تجالس غيره. جالس الناس"! بينما نسمعه يقول عن نفسه بهذا الصدد "لقد جالست الحسن البصري أربع سنين فما سألته هيبة له". وهي المفارقة التي كثفها في عبارة تمثلت تجاربه بهذا الصدد عندما قال "إذا لم يكن ما تريد، فأرد ما يكون". وترك لنا هذه المفارقة في سلسلة روح المثقفين الأحرار وغيب التصوف.
***


 
Free Hit Counter Search Engine Submission - AddMe