السبت، 7 نوفمبر 2009

نقد التاريخ المقدّس عند هشام جعيط

بقلم محمد المزوغي




1 ـ السيرة النبوية. الوحي والقرآن والنبوّة:

في مقدمة كتابه "الوحي والقرآن والنبوّة" يقول المؤرخ التونسي هشام جعيط بأنه يرغب في إعادة كتابة السيرة النبوية بطريقة علمية مغايرة لكل السّير التي كُتبت قديما أو حديثا. فهو يَعِدُ القارئ العربي، أو الغربي اللائكي الذي يبحث عن عمل تاريخي مغاير وبديل لتواريخ السيرة المكرّرة دون ملل عبر الأجيال، بأنه سيطّلع هذه المرّة على تاريخ يتصف بالموضوعية والدقة العلمية. جعيط يقدّم ضماناته المنهجية بهذه العبارات: « هذا الكتاب وما سيتبعه علميّ وليس بالدراسة الفلسفية، ويَعتبر بالتالي كمعطى ما هو لبّ الدين الإسلامي: الوحي، الإيمان، البعث. وسواء كان المؤرّخ ـ المسلم وغير المسلم ـ مؤمنا أو خارجا عن الإيمان فمنهجه الصحيح هو هذا، أي اعتبار المعطى كمعطى ومحاولة تحليله لا أكثر [1]»، ثم يضيف، مدعّما توجهه الفكري الجديد: « وقد حاولنا في هذا الكتاب الاعتماد على المعرفة واستنباط منهج عقلاني ـ تفهّمي لم نجده لا عند المسلمين القدامى من أهل السير والتاريخ والحديث ولا عند المسلمين المعاصرين. وأكثر من ذلك، إن المستشرقين، على سعة اطّلاعهم، لم يأتوا ببحث يذكر في هذا الميدان. وتبقى دراساتهم هزيلة، مقارنة بفحول الفكر والتاريخ في الغرب … وعلى كلّ، فالتعريف ـ بوجه المقارنة ـ بالحضارات والأديان الأخرى، إنما أرجو منه خروج العرب والمسلمين من تقوقعهم وضيق أفقهم الفكري».

هذا من حيث المنهج أما من حيث الأسلوب فإنه يَعِد القارئ باتّباع " الدّقة وجزالة الخطاب" ويؤكد على هذا النهج غير ما مرّة قائلا: « ابتعدتُ عن الأسلوب الوهّاج المَشوب دوما بالضبابية [2]». لقد جعل المؤرخ التونسي من مثاله الأعلى ونموذجه، في أسلوب الكتابة، نص القرآن، والسبب الأساسي أنّ القرآن هو النص الوحيد الذي: « جمع بين دقّة التعبير والكلمة المثيرة والعمق الكوسمي والوضوح الكامل البين. وهذا من أهمّ خصائصه».

لا يَخفى على أحد بأن هذه القواعد المنهجية في كتابة التاريخ والأسلوب النثري المتبع تُعدّ فضائل نظرية نادرة في وقتنا الحالي، لأنا نرى ونعاين المشهد المزري الذي تخضع له كتابات السيرة وكيف آلت، في أيدي أناس فاقدين لشروط البحث العلمي الحديث، إلى سَيل من الخطابة وضحالة في المضمون ليس كمثلها ضحالة.

بالإضافة إلى القرآن كمرجع أوّلي من حيث الأسلوب والإثارة والعمق، فإن جعيط يستثمر آخر ما توصلت إليه أدبيات التاريخ المقارن للأديان ومناهج التأويل الحديث. ويبدو، إن لم أخطئ، أن غرضه يكمن أساسا في تحصين أعماله من أي منعرج إيماني قد يؤدي به إلى التنازل أمام أطروحات الإيديولوجيا الدينية التبريرية. وهذه العملية الوقائية لها أبعاد معرفية إيجابية لأنها تفتح باب البحث العلمي وتشجّع على التحرّي وتقصي الأسباب الموضوعية للأحداث التاريخية.

النقطة الأساسية التي يحوم حولها النزاع بين المثقفين العلمانيين، من مؤرخين وفلاسفة، وبين جميع أطياف الكتاب المسلمين، تتلخص في الموقف المنهجي الذي يختاره الباحث من القرآن والنبوّة: موقف تقديسي أو دنيوي. الباحث مُجبر أن يموقع عمله ويختار منهجه بدقة: إمّا أن يتخذ موقفا علميا واحدا ومستقرّا لا يحيد عنه ويجعل بذلك من القرآن وثيقة تحمل معطيات وقائعية حدثت في فترة زمنية معينة وفي رقعة جغرافية محدّدة وبالتالي فهو، ككل الوثائق الإنسانية المكتوبة، يخضع لقوانين التأويل والتحليل الفيلولوجي والنقد التاريخي، وإمّا أن يتعامل مع القرآن كنصّ مقدّس ومنزل من الله حرفا ومضمونا؛ كلام الله السرمدي الذي لا يخضع للتغيّر والتبديل. الموقف الأول يُنتج معرفة علمية ومحررة من أسر التراث اللاعقلاني والثاني يقف عند حدّ التبرير، مكرّسا ذهنية التقوقع والأسطورة، وغير عابئ بشروط التقدم العلمي. لكن محاولة الأخذ بالموقفين والجمع بينهما، هي الأخطر على المفكر، فالتأرجح بين الموقفين قد يُولّد نوعا من الالتباس وقد يخلق توترا بين الاعتقاد الإيماني وبين روح العلم، وهما الضدّان اللذان لا يجتمعان أبدا.

على كل حال مشروع جعيط يبدو أنه مشروع جديد في مجال الدراسات العربية الإسلامية، ومنهجه العلمي المسنود بتاريخ الأديان وبالعلوم الإنسانية الغربية، ـ لا بتواريخ المستشرقين ـ، يُثلج صدر الباحث المجتهد ويَنزع عنه حجاب أفكاره المسبقة. وهو عمل خطير بمعنى ما لأنه قد يؤدّي إلى مراجعة شاملة للتاريخ الإسلامي وبالأخص لتاريخ المدوّنة القرآنية والبعثة النبوّية، وإلى هَدمٍ لمقدّسات راسخة وتَعريةٍ لخلفياتها الأسطورية وزيفها التاريخي. وليس للقارئ العلماني إلاّ أن يُثني على هذا التوجّه الفكري الجديد وأن يعتبره مثالا يُحتذى به، وبرهانا مُفنّدا للنقاد الغربيين ومن جرى مجراهم، مِن أولئك الذين يدّعون أن كُتاب السيرة العرب لا يملكون أيّ حسّ نقدي، ويجهلون أبسط قواعد الموضوعية العلمية غير ملمّين بالعلوم الإنسانية، من تاريخ أديان، وفيلولوجيا، وأديان مقارنة، وفينومنولوجيا. وبحقّ عُدت أعمالهم غير جدّية بالمرّة ولا أحد من المستشرقين استشهد بها أو أخذها بعين الاعتبار.

لكن نشوة القارئ، حين الغوص في نصّ جعيّط، لها حدود لأن موضوعية الكاتب لها حدود أو بالأحرى وضع لها هو نفسه حدودا. لقد عنون الفصل الأول من كتابه هكذا : " القرآن ككتاب مقدّس ". وهذا العنوان بمفرده يثير في ذهنية القارئ العلماني شيئا من الاحتراز؛ لأن الرّجل حول فكرة أن القرآن كتاب مقدّس، والتي بدأ بها تحاليله وتخلّلت كل أطروحاته، لا يتزحزح أبدا، ولا يعتبرها فكرة خاضعة لأية مساومة أو تنازل. فهو يتعجّب كيف لم يصل المستشرقون (يستثني البعض منهم) إلى قناعته تلك: « لكني أعجبُ من بعض المستشرقين ـ وليس كلهم ـ الذين ليسوا بمسلمين، وبالتالي نظروا إلى الإسلام والقرآن نظرة خارجية ومجرّدة من كلّ إيمان فاعتبروه أثرا من محمد [3]». هذا أمر يُنكّل بعقولنا أشد التنكيل قبل أن يُنكّل بالمستشرقين الصابئين. فالمؤرخ الحديث يعيب على العلماء الغربيين أشياء ليست من مشمولاتهم ولا تدخل في تكوين أسس التفكير العلمي، أعني فقدانهم الإيمان بالوحي والمُعجزات وتعالي القرآن، التي هي في الطرف النقيض من ذهنيتهم الوضعية. الاعتراض الوحيد ضد هؤلاء المستشرقين "الكافرين" يقدّمه جعيط هكذا: « من خلال هذه النظرة لم يشعروا [المستشرقون] بسعة علم النبي ومقدرته الفذة في معرفة التراث الديني واللغات العبرية والسريانية واليونانية …إلخ».

أنا أحتكم إلى الحسّ العقلاني للقارئ وأتساءل هل أن اعتراضا من هذا القبيل يحلّ المشكلة ويُبدّد شكوك العلماء من أن القرآن هو من صنع رجل واحد؟ وهب أننا سلّمنا باعتراض جعيط، واعتبرناها فعلا أمورا مستحيلة على شخص واحد، ألا تُتيح لنا هذه المحالات تَغيير وجهة نظرنا، والبحث في جهة أخرى، أي اعتماد أطروحة بعض المستشرقين الذين اعتبروا القرآن عملا جماعيا متأخرا، فيه استدراكات وحذف وإضافات، وأنه لم ير النور على حالته الراهنة إلاّ في القرن الثاني للهجرة؟ لكن هذا الرأي إن لم يكن من باب الكُفر والهرطقة، فهو بالنسبة لجعيّط من الخيال والجهل بمكان: « ولستُ من الذين يعتقدون أن النص القرآني يتطوّر مع الزمان والظروف. فالأساسي فيه لا يتغيّر من الأوّل إلى الآخر [4]». موقف كلاسيكي لكل المؤمنين، وهو من باب المنافحة التبريرية وبالتالي غير قادر على الإجابة الضافية أو حلّ كل المعضلات المطروحة. لكن جعيّط يتعجّب من المستشرقين الذين لا يؤمنون بما يؤمن به هو، الشيء الذي يدعونا فعلا إلى التوجّس منه، لأن المؤرّخ بما هو كذلك ـ وهذا أمر مبدئي لا جدال فيه ـ لا يعترف بالألوهية والمقدّس والتعالي، وهي ليست بالفرضيات الداخلة في مشمولات علمه وخارجة تماما عن مناهجه وأهدافه. المؤرخ الجدّي يترك هذه المعتقدات لصاحب اللاهوت والفقه، أمّا التاريخ والفلسفة وعلم الأديان المقارنة فلا شأن لها بذلك.

القرآن، كخطاب ورسالة دينية، مربوط بالوحي. ما الوحي؟ إن رجل العلم الذي يبغي اكتناه كلّ شيء بعقله لا يركن إلى التفسيرات الماورائية وإلى العلل الغيبية، ولا هو مستعدّ أن يصادر ملكاته الذهنية لحساب الأسطورة: كلّ شيء يمكن تحليله وفهمه عن طريق بسيط العقل، وما من شيء يخرج عن سلطانه. المؤرخ جعيّط، لا يرى هذا الرأي، فمنذ تناوله إشكالية الوحي، التي وَعَد التكلّم فيها بموضوعية وروح علمية، يُقلع عن إعمال آلة العقل صادّا أمامها أيّ منفذ وذلك في تناقض مع ما وعد به القارئ وأعلنه مسبقا بشيء من التباهي. الوحي بالنسبة إليه هو: « العملية التي تمّ بها التبليغ إلى الرسول والتجربة الفريدة التي عاشها. وليس همّنا أن نستكنه هذا بالعقل فهو أمر مستحيل ولا حتى أن نسوق نظرية فلسفية حول الوحي في الإسلام [5]».

لا تاريخ الأديان ولا الفلسفة ولا علم النفس ولا العلوم الإنسانية الأخرى، من علم اجتماع وأنثروبولوجيا، ولا العقل ومبادؤه بمقدورها استكناه حقيقة الوحي، لأنه أمر متعال وفريد من نوعه، وغير قابل للخضوع إلى أي نوع من أنواع المعرفة الإنسانية. السؤال إذن: ماذا تبَقى مِن كلّ تلك العلوم الحديثة؟ وما دور العقل في اكتناه حقائق الأمور؟ لا شيء، فالطريق إلى الوحي مسدود من الأساس. وقد يكون هذا المنحى الذهني الذي اتبعه المؤرخ، وصدّ به الأبواب أمام العقل، سببا لعدم حمل كلامه على محمل الجدّ وعدم الثقة بما رواه عن منهجه الذي أفصح عنه بهذه العبارات: « سَيتّجه مجهودنا إلى مقاربة تاريخية مُعتَمدة على النصوص وعلى المقارنة، وإلى مقاربة ظواهيرية [6]». ونحن نتساءل مرة أخرى: هل أنّ المقاربة التاريخية للوحي وللقرآن والاعتماد على النصوص واستخدام الظواهيرية هي أمور عقلية أم لا؟ إن كانت كذلك، فإن القول باستحالة إدراك الوحي بالعقل، هو تناقض صريح مع المقدّمات. أما إن كان هذا العمل لا يعتمد على العقل فما المغزى من إدخال تلك العلوم ومناهجها والتقيّد بالمعطيات العينية؟ وما الجدّة التي فاق بها كتّاب السيرة القدامى والمحدثين؟

كل المسلمين المتشبثين بمعتقدهم من أولئك الذين لا يملكون حسّا نقديا ولا وعيا بتاريخ الأديان وبمبادئه اعتبروا الرسالة المحمّدية خاتمة لسيرورة وحي إلهي استمرّ منذ بدء الخليقة، وكتابه هو كلام الله الأزلي المهيمن على الكتب المقدسة الأخرى، تلك الكتب التي طالها التحريف وفقدت بالتالي من مصداقيتها. هذه الأطروحات مبثوثة في مؤلفات الإسلاميين على جميع مشاربهم ومنذ القديم حتى يومنا هذا، وهي في جوهرها تهجّم على الأديان الأخرى وعلى كُتبها وتعاليمها ومؤسّسيها، ليس من موقع عقلاني نقدي، بل من موقع نقيض، أي إيماني ديني. وقد نبحث بفارغ الصبر عن تواريخ مغايرة وبديلة في الأدبيات الإسلامية عند العرب القدامى والمعاصرين ولكننا لا نجد شيئا منها. والكاتب المؤرّخ جعيّط، بعد أن وعد بتاريخ جديد، ها هو يعود ويَنهل من نفس تلك الأطروحات التي ادّعى تجاوزها، بل هو، في بعض المواضع، يُكرّرها دون تحريف.

بخصوص الوحي، يُحيلنا المؤرّخ إلى كتاب له صدر منذ سنوات عديدة بعنوان "الشخصيّة العربية الإسلامية والمصير العربي [7] " حيث تطرّق لتلك الظاهرة من منظور فلسفي. ويبدو أن الموضع من الكتاب المذكور الذي تناول فيه ذاك الموضوع جاء تحت عنوان "الإصلاح والتجديد في الدين"، الفصل الثاني بعنوان "تجديد الرؤية في الإيمان" والذي يحتوي على أربع فقرات: الأولى بعنوان تاريخية الدين، الثانية: التفسير الفلسفي للإسلام، الثالثة: قراءة ميتافيزيقية للقرآن، الرّابعة: روح الإسلام ومصير مؤسسه.

تجديد الرؤية في الإيمان، هو فصل يَعجّ بالشواهد الفلسفية (من هيجل إلى ميرلوبونتي) على الرغم من أنها جاءت على شكل تحليل شبه فلسفي لأنها ممزوجة بكلّ عناصر الوجد الدينية. وهذه الملاحظة مشروعة لأن الرجل لم يدّع في يوم ما بأنه فيلسوف، وما عدا بعض الاستشهادات المتفرّقة، فإن أقواله جاءت على شكل خُطبة واعظ: فيها كلام خطابي رنّان يوافقه عليه، سواء من جهة الأسلوب أو المحتوى، أي إسلامي، معتدل أو متطرّف: « ولذلك فإن ظهور الرسالة هو أكبر عنصر تاريخي في الإسلام. إن الإيمان الذي هو ثقة يصبح من خلال ذلك ثقة في الرسول. وهو نفسه ليس بالإنسان الزمني وحسب، المولود بمكّة حوالي 570 والمتوفى بالمدينة سنة 632 . بل أصبح ما أرادته أجيال من المسلمين أن يكون، أي كتلة هائلة من المثل والحبّ والوفاء. إنه يزن بوزن كلّ تلك الدّموع والاندفاعات. وقد نادى باسمه كثير ممّن كانوا في النزع الأخير من كائنات بشرية بسيطة طيبة ذكروه وهم على شفة الموت. إن التاريخ يثقل بكلّ وزن البشري وبكلّ قيمته، شخص الرّسول وكلامه. لقد كان الدين روح العالم والإسلام وروح الأمّة الإسلامية، وهو ما زال قوّة حيّة ملموسة ملتصقة حميما بالمجتمع الإسلامي تخترقه من طرف إلى آخر [8] ».

ثمّة استدراك وتراجع مُحتشم، في تضارب واضح مع مقدّماته، وهناك أقوال لا تمُتّ بصلة إلى كلامه السابق بل تنقضها جملة وتفصيلا: « لكن بما أن الدين مرتبط بالماضي، فإن عناصر كثيرة يتضمّنها أو يتشكّل منها لا يقبلها العقل إطلاقا، ولا الفكر وحتى ذهنية الإنسان الحديث. فقد أبرز العلم والفلسفة والنقد التاريخي بديهيات تهاجم النواة الدينية ذاتها، أو على الأقلّ كساءها الأسطوري [9]». هشام جعيط هو رجل علم، ويبدو أنه لائكي في توجّهه السياسي، ليس هو من معتنقي الدين بالمعنى الإيماني البحت للكلمة [10]؛ يَتغبّن على حالة العالم العربي بالمقارنة مع الكنيسة الكاثوليكية التي استطاعت بجدّ أن تصمد أمام النقد العقلاني للدّين الذي اجتاح أوروبا منذ القرن الثامن عشر، ويشيد بمقدرتها على استعمال أدوات الفلسفة والعلم للدّفاع عن حقيقتها والاندماج في العصر الحديث. لا شيء من هذا القبيل حدث في العالم الإسلامي: « ما أعظمه من سُبات ومن عدم أو يكاد في وضع الإسلام، بعد الصّمت المفاجئ للحركة الإصلاحية وحركة التحديث [11] ». المحالات والمعضلات التي تواجه الفكر الدّيني، بما فيه الإسلام، جمّة والكاتب يطرحها بكلّ موضوعية وبروح نقديّة متحرّرة مُلخّصا إيّاها في الجانب الميثولوجي المكوِّن للوعي الديني الذي لا يقبله العقل ويتضارب مع مبادئ العلم الحديث [12]. لكن هذا العَرض الموضوعي (لا أدري هل أن الكاتب يتبنّى الشكوك التي أوردها أم لا) يَجد له صدّا أو كبحا قويّا عندما ينتهي إلى نتائجه القصوى، أي الشكّ في مصداقية الأديان بما فيها الإسلام وفي مدى قدرتها على مسايرة العصر. لو أن الرّجل واصل مسار شكوكه وتمسّك بمبادئ العقل الوضعي لأخلص إلى الريبية والإلحاد في الدين. ولكن جعيّط، على الرغم من أنه مؤرّخ متشبّع بتعاليم الوضعية، كبَح جماح اعتراضاته وفسخها أمام اعتبارات شخصيّة وقناعات إيمانية ثاوية في تفكيره منذ سنين: « لكن شك العقل النقدي الموحِّد المُسوّي لكلّ الأديان يُسبّب حقا دوارا. ذلك أن مظهرا رئيسيا من حياة البشرية قاطبة يكون قد شُيّد على كذب أو افتراء، أو على وهم في نظر الناس الأكثر تفهّما. ويزيد التناقض بين التاريخ والإنسان حدّة، لما للدين ولغاياته السامية من دور تاريخي عظيم! [13]».

لكن، بعيدا عن الوجد الإيماني، يمكن لأي مفكر علماني أن يُذكّر جعيط بأن منطق العقل النقدي الذي يُولّد، حسب زعمه، دُوارا لم يُثن المفكرين العرب من التشبّث بتلك الأطروحة التي ترى أن الأديان متكافئة وأن عقائد البشرية هي فعلا ركام من الأكاذيب والأوهام. لم يُصِبهم أي دوار، ولم يختلجهم أي غثيان، بل إنهم قدّموا الشكوك والمُعضلات وأقاموا البراهين على أقوالهم. والغريب في الأمر كيف تغاضى جعيط عن هذه الحقائق التي اخترقت تراث المفكرين العرب منذ القديم. كان عليه أن يفتح اللزوميات للمعرّي كي يعثر على ضالته: القول بوجود إله خالق حكيم "معناه ليس لنا عقول"؛ الألوهية افتراض ناتج عن الجهل بقوانين الكون؛ مُبتدعو الأديان كذابون؛ التفكّر في الخلق يؤدي إلى نكران الألوهية والخروج عن الدين؛ الأساطير الإسلامية متأتية من كُتب اليهود؛ القرآن يحتوي على أخبار يُكذبها الواقع؛ الأديان تسبّب العداوات والحروب…إلخ. كل هذه الآراء التنويرية (قبل الكلمة "ante litteram") مبثوثة في كتب الرازي الطبيب، وفي مؤلفات المفكرين العقلانيين العرب أو ما تبقى من آثارهم [14]. انظر كيف يحتجّ الصاحب بن عبّاد، مبينا تناقض العدل الإلهي مع حرية الإنسان، والتضارب الداخلي في الأوامر الإلهية؛ كلّ هذه الأفكار الهرطقية أوردها المتكلّم الأشعري فخر الدين الرازي في كتابه "المطالب العالية من العلم الإلهي": « قال الصاحب بن عباد في فصل له في هذا الباب كيف يأمر بالإيمان وقد مَنَعه عنه، ويَنهاه عن الكفر وقد جَبَله عليه؟ وكيف يصرف عن الإيمان ثم يقول ﴿أنّى يُصرَفون﴾؟ [غافر: 69] ويَخلق فيهم الإفك، ثم يقول: ﴿فأنَّى تُؤفَكُون﴾ [يونس: 34] وأنشأ فيهم الكفر ثم يقول ﴿لِمَ تَكفُرون﴾ [آل عمران: 79]، وخلق فيهم لبس الحق بالباطل ثم يقول: ­﴿ لِمَ تلبسون الحق بالباطل﴾؟ [آل عمران: 71] وصَدّهم عن السبيل ثم يقول: ﴿لِم تَصدّون عن سبيل الله﴾ [آل عمران: 99] وحال بينهم وبين الإيمان. فقال: ﴿وماذا عليهم لو آمَنُوا﴾؟ [النساء: 39] وذهب بهم عن الرشد، ثم قال ﴿فأين تذهبون﴾ [التكوير: 26] وأضلّهم عن الدين حتى أعرضوا، ثم قال: ﴿فما لَهُم عن التّذكِرَة مُعرِضِين﴾ [المدثر: 49] [15

أودّ أن أعلن للقارئ بأن التناقضات والتنازلات المنهجية التي اخترقت الجزء الأول من كتاب "في السيرة النبوية"، أعني "الوحي والقرآن والنبوّة" لها مبرراتها الإيديولوجية، وخصوصا لها مبرراتها العملية المباشرة. لن أفصح عنها الآن، سأعرضها في خاتمة هذه الفقرة.

في ما يخص موضوع الوحي، جعيط يُردّد نفس مقولات التراث الإسلامي والاختلاف بينهما هو في التسمية فقط: لقد غيّر كلمة "اللوح المحفوظ" بكلمة "الأركيتيب (Archétype) الأصلي الإلهي" [16]؛ القرآن هو كتاب مقدّس ولا يمكن الشكّ في هذه الحقيقة أبدا [17]؛ كل كتب الأديان الأخرى (العهد القديم، العهد الجديد، صحف الزارادشتية والبوذية والهندوسية ) لا ترقى إلى مستوى القرآن، سواء في المضمون أو في الشكل، وبالتالي فالرسالة المحمدية تتميز عنها جميعا، بل تتسامى بشكل لا مثيل له [[ن. م، ص، 19 ـ 20. «والأسلوب في القرآن هو نفسه مع متغيرات طفيفة، وكانت فترة النزول قصيرة (20 سنة). وإلى جانب التوحيد […] نجد في العقيدة الإسلامية ضرورة الإعتراف بأن القرآن كله وحي وارتباط ذلك ح�

حواشي

[1] هشام جعيط، الوحي والقرآن والنبوة، دار الطليعة ـ بيروت، 1999، ص، 8.
[2] هشام جعيط، الوحي والقرآن والنبوة، مرجع سابق (م. س)، ص، 7.
[3] هشام جعيط، نفس المرجع (ن. م)، ص، 46.
[4] ن. م، ص، 56.
[5] ن. م، ص، 18.
[6] ن. م، ص، 18.
[7] هشام جعيّط، الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي، دار الطليعة بيروت وقد كتب أوّلا يالفرنسية ونقله إلى العربية د. المنجي الصّيّادي وقام المؤلّف بتدقيقه وتنقيحه وقد صدرت الطبعة الأولى بالفرنسية سنة 1974، والطبعة الأولى بالعربية سنة 1984 أماّ الطبعة الثانية سنة 1990
[8] ن. م، ص، 122
[9] ن. م، ص، 123
[10] هذا الإستنتاج مطابق لصريح أقواله: « فنحن لا نقبل أن يكون الإسلام الأس الوحيد للأخلاق والمجتمع، والمحرّك الأساسي الفعلي للعبة الاجتماعية، فارضا قواعده الدينية وما يرتبط بها من فروض في العادات والقضاء، كما كان الأمر في الدولة الخاضعة للحكم الإلهي في العهد الوسيط وكما هي الحال في بعض الدول المعاصرة سواء كان حكمها تيوقراطيا أم لا». ن. م، ص، 103.
[11] ن. م، ص، 123.
[12] « إن المظهر السلبي للصلة بين الإسلام وعالم الماضي يطرح قضية خطيرة بالنسبة للفكر النظري، وقد أشرنا آنفا إلى الكساء الميثي للدين، لكن القضيّة كلّها تعني التساؤل فيما إذا كانت الميثولوجيا لا تمسّ إلاّ عناصر عارضة أو هي تتمثّل بنواة الإيمان. إن الإسلام ككلّ دين غيره نشأ في بيئة ذهنيّة معينة وفي جوّ فكري معيّن، في عصر بشري سيطر فيه المظهر العجيب على أفق الإنسان، وهو ورث فضلا عن ذلك أغلب التقاليد اليهودية النصرانية. يتضمّن القرآن الملائكة ورؤساءهم وإبليس وجيشه من الشياطين والجن، ويظهر أن هؤلاء اقتبسوا من الخرافات المحلّيّة. نجد في القرآن تصوّرا معينا للجنين البشري قد لا يقبله العلم. ونظرة للكون المادّي قابلة للتأويل بحيث لا تتضارب مبدئيا مع العلم لكن تتداخل فيها عناصر توراتية هي بدورها متأثرة بالكسمولوجيا البابليّة القديمة. هذا ما يبرز لعيان الإنسان الحديث المثقف ثقافة متوسّطة، وهو ما يمكن أن يكتشفه كذلك في العهدين القديم والجديد. لكن التفكير المتسلّح يمكنه التقدّم خطوات أخرى فيتساءل كيف يقبل العقل الناقد العذاب الأبدي فضلا عن كونه جسديا، بالنسبة لغير المؤمنين، وكيف للنزعة الإنسانية لعصرنا أن تسمح بذلك؟ أين يكمن الحلّ للتناقض بين الحرّية ومسؤولية الإنسان التي يتضمّنها مفهوم الحساب، وبين قدرة الله وظلمه أو يكاد، التي يترجم عنها القضاء والقدر؟ وهذا الإله ذاته الشخصي والمتعالي أي لعبة يلعب؟ لماذا كان متخفيا؟ أولا كان يتكشّف مرّة واحدة وبوضوح للإنسان؟ وختاما لذلك كلّه، يتدخّل النقد التاريخي». ن. م، ص، 124.
[13] ن. م، ص، 125.
[14] انظر هادي العلوي، أبو العلاء المعري، المنتخب من اللزوميات، نقد الدولة والدين والناس، دار المدى للنشر، ط. 2، سورية ـ دمشق 2007، ص، 20 ـ 40.
[15] فخر الدين الرازي، المطالب العالية من العلم الإلهي، دار الكتب العلمية، بيروت ـ لبنان، 1999. ج، 3، ص، 191.
[16] هشام جعيط، الوحي والقرآن والنبوة، ن. م، ص، 17. «القرآن هو نتيجة الوحي ومضمونه، والقرآن كمعان وألفاظ من هذا العالم مُندرجة في الفضائي ـ الزمني يُدرك بالإدراك الحسي والذهني، ليس هو إلاّ نسخة من "الأركتيب" الأصلي الإلهي».
[17] «القرآن، إذن، كتاب مقدّس بالمعنى الدقيق للكلمة سواء آمن بألوهيته الإنسان ـ المسلمون وحتى غيرهم ـ أم لم يؤمن، فاعتبره تراثا دينيا يدخل بالتالي في سلسلة الكتب المقدسة المعتمدة على علاقة مع الإله، أي على وحي». ن. م، ص، 18 ـ 19.

 
Free Hit Counter Search Engine Submission - AddMe