الاثنين، 9 نوفمبر 2009

ميتافيزيقيا الفيزياء

محمد عزالدين الصندوق

لقد كان لتراكم الانجاز العلمي الكبير مطلع القرن التاسع عشر تأثيره الكبير في طرح فكرة مراحل تطور الفكر الفلسفي التي نادى بها أوكست كونت و ظهور الوضعية المنطقية. لقد تميز العلم بكونه انجح وسيلة عرفها الفكر لدراسة الطبيعة و بذلك انفصل العلم بفلسفته العلميه عن النمط المألوف في الفكر الفلسفي التقليدي.
لم تعد المادة علميا وجودا أو انعكاسا فكريا لإحساس بل كيان موضوعي مستقل يلعب الإحساس البشري الدور الأساسي في إدراكها و دراستها. لقد اقر العلم من خلال طريقه البحث بان لا معرفة خارج نطاق المنطق العلمي. إذ لابد من الاستنتاج النظري و التجربة المختبريه لصياغة المعرفة العلميه. و بذلك لم يعد للفكر المجرد و الاستنتاج أو التأمل الفلسفي قيمة في المقياس العلمي للحقيقة. و لهذا السبب الأساسي نأى الفكر العلمي عن الميتافيزيقيا باعتبارها عالم الفكر المجرد و ليس للتجربة و التحليل مكان فيها.
العلم و الفيزياء كمثال تتعامل مع ما هو محسوس مباشرة أو مختبريا و هذه المحسوسات قابلة للتكميم العددي و للصياغة الرياضية ضمن قوانين منطقية. الذرة مثلا لا يمكن إن تحس مباشرة و لكن يمكن إدراكها مختبريا كما يمكن صياغتها بصورة نموذج رياضي محكم. و تقدم التجربة المختبريه تأكيدا لصحة التنبؤات التي تطرحها الدراسات النظرية. وبذلك تكون التجربة المختبرية هي الفيصل الذي يؤكد صحة الادعاء النظري. على ذلك شكلت التجربة من حيث كونها وسيلة التحقق الأساسية هما هائلا أمام الفيزيائيين النظريين.
يكتسب التحقق التجريبي على ذلك أهمية كبرى في الفكر العلمي ويمثل الحد أو الركيزة الأساسية التي تبعده عن الميتافيزيقا الفلسفية. لم تعاني الفيزياء التقليدية كثيرا من صعوبة تجاربها قدر ما عانت و تعاني الفيزياء المعاصرة. إن عالم الطبيعة الذي تدرسه الفيزياء المعاصرة عالم ذي أبعاد متناقضة فهو يتأرجح ما بين عالم متناهي في صغره وهو عالم الجسيمات الدقيقة و عالم هائل في سعته وهو عالم الكون الشاسع. و يقف التحقق التجريبي بين هذين الحدين مواجها لصعوبات ليس من السهل التعامل معها.
على كلا المستويين تشكل الإمكانيات التكنولوجية عائقا كبيرا من الناحية المادية (التمويل المالي) و الأسس العلمية للتكنولوجية المطلوبة. الأسس العلمية هي الأسس التي تبنى عليها التكنولوجيا و من أهم الأسس التي تعيق اكتشاف الكون بسهولة هي محدودية السرعة التي توفرها التكنولوجيا حاليا. سعة الكون لا تتناسب مطلقا مع ما متوفر من إمكانيات تكنولوجية حاليا. نحن ما نزال مراقبين بسطاء للكون من الأرض كما لم نستطع الإبحار خارج مجموعتنا الشمسية إلا قليلا. ما زال هناك فرق زمني كبير جدا بين التكنولوجيا المطلوبة لمعرفة الكون ودراسته تجريبيا و ما متوفر حاليا. إن الإرساليات البشرية الى أرجاء الكون مشابه لطفل صغير يتعلم الحبو ليبتعد عن أمه أمتارا قليلة. لقد كانت سعة الأرض مقابلة لسرعة السفن البحرية لذا ما أن تطورت الإمكانيات البحرية حتى بدء اكتشاف الأرض. أن سعة الكون مترابطة مع سرعة الضوء لذا فان اكتشافه يتطلب سرع مقابلة لهذه السرعة الهائلة و هذا يعني أسس علمية جديدة و إمكانيات تكنولوجية أخرى. إن الكون يدرس الآن من موقع المراقبة عن بعد و بعد هائل غير قابل للتصور. هذه الدراسة عن بعد تعتمد أسلوب تمدد المعرفة أي استخدام المعرفة المتوفرة لدينا على الأرض لدراسة الكون على أساسها. هذا الأسلوب قد يكون مفيدا بالنسبة لبعض الظواهر التي يمكن أن تنسب لما يمكن أن توفره المختبرات العلمية. و لكن هناك الكثير الكثير من الظواهر الطبيعية التي لا يمكن أن يوجد لها نظير مماثل في واقعنا الأرضي.
على المستوى المتناهي الصغر درست الذرة و عرف تركيبها و عرفت مكونات أخرى متناهية في صغرها تدعى الجسيمات الأولية. إن وسيلة التحقق المختبري على هذا المستوى تعتمد تسليط حزمه من الدقائق الصغيرة مثل دقائق الضوء الفوتونات أو الالكترونات أو جسيمات أخرى متناهية في صغرها على ما يراد دراسته ومن ثم تتم ملاحظ ما يحدث نتيجة انعكاس هذه الجسيمات أو استطارتها أو…..و يتفنن الفنيون في المختبرات في تصميم التجارب المعقدة و الدقيقة. المشكلة الأساسية في هذا المستوى الدقيق أن عملية المشاهدة المذكورة أعلاه تسبب إرباكا في الموضوع المطلوب معرفته. وهذا ما يعرف بمبدأ ألا دقة. على ذلك دخل هذا المبدأ الفيزياء الدقيقة و قبل كأمر مسلم به و لا مفر من هذه ألا دقة في الفيزياء الدقيقة. و هذا احد الأسباب الأساسية التي دفعت ألبرت اينشتاين الى موقفه المتحفظ من ميكانيكا الكم.
المعرفة إذن تسبب إرباكا بموضوع الدراسة. على هذا الأساس ليس هناك فصل ما بين الذات و الموضوع ! على أية حال إن موضوعنا ليس بهذا الاتجاه.
لماذا هذا التصرف الغريب للجسيمات الدقيقة؟ ماذا ورائها هل هناك من مكونات ورائها يمكن دراستها؟ و إذا كانت هناك مثل هذه المكونات هل يمكن معرفتها مختبريا؟ هذه و أسئلة أخرى قادت البعض من علماء الفيزياء لافتراض وجود خفي لا يمكن ملاحظته منذ عقد العشرينات من القرن العشرين. و دخل فيزياء الكم مصطلح غريب هو "نظرية المتغيرات الخفية". إنها أشبه ما تكون بالمجموعات الإحصائية التي لا تعرف مفرداتها تفصيلا و إنما معدلاتها.
على كلا المستويين الكوني و ألدقائقي نرى بان التجربة التي شكلت عمودا أساسيا في الفكر العلمي أخذت تواجه صعوبات كبيره لذا أخذت بالتراجع عن موقعها و بسبب مصاعب مختلفة.
و لا شك في أن هذا الإشكال قاد الى تراكم هائل بالأطروحات العلمية متمثلة بالبحوث و الدراسات النظرية في المجال الكوني و الجسيمات الدقيقة. دراسات تتوسل الإثبات التجريبي دون أن تكون هناك إمكانية لذلك.
هذا الوضع أشبه ما يكون بألطروحات الفلسفية القديمة عن عالم الماهيات و الكيانات غير المحسوسة. لقد تراكمت الكثير الكثير من نظريات الفكر الميتافيزيقي التي كانت تطمح لتفسر الطبيعة دون أن تقدم أدلة مقنعه للمؤمنين بها. لقد قادت هذه الحالة الى تبني و ثم تطور الفكر العلمي الذي قدم الأدلة و الوضوح المطلوب. على ذلك كان الفكر العلمي الذي طرح فيما بعد كفلسفة علمية هو البديل الذي نمى متسارعا خلال القرن العشرين.
إن وضع الطروحات الفيزيائية الآن أشبه ما يكون بوضع الطروحات الميتافيزيقية تلك مع الفارق بالطبع. الطروحات العلمية الآن تفتقر التجربة التي تتمناها. في حين الطروحات الميتافيزيقية التي تتناول الطبيعة لا تعرف التجربة أساسا. في كلا الحالتين تتراكم الطروحات من دون تأكيد تجريبي.
لقد قاد تراكم الطروحات الفلسفيه للطبيعة الى ازدهار و نمو التيار العلمي و ظهور فلسفة العلوم كتيار جديد. هنا يمكن أن نتساءل هل هناك نمط فكري جديد يمكن أن يظهر كبديل جديد ؟

 
Free Hit Counter Search Engine Submission - AddMe