الأربعاء، 18 نوفمبر 2009

الحقيقة بمفهومها النسبي

الحقيقة بمفهومها النسبي

تيسير الفارس


يرتبط مفهوم الحقيقة بمعنيين : الحقيقة بمعنى الصدق الذي يرتبط بصفة الحق من جهة ، و من جهة أخرى يكون الحقيقي هو الواقعي أي أن يتطابق الواقع مع أداة التعبير . و إذا تأملنا هذه المعاني فإننا سنجدها متناقضة لأن الخطأ والكذب لا يمثلان الحقيقة و بالتالي ليسا واقعيين، و هذا غير ممكن لأن الكذب يتمتع بوجود واقعي لأنه يترك آثارا ملموسة على العلاقات الإنسانية كما أن المظاهر المزيفة التي نعتقد أنها تمثل الحقيقة هي في حد ذاتها تخفي الحقيقة كجوهر .
و في السياق اللغوي يحيل مفهوم الحقيقة على كل ما هو يقيني، فالكلمة الثابتة عند اللغويين تكون حقيقة ،وإذا ما تغيرت أصبحت مجازا، لا يحيل على الحقيقة إلا إذا تجاوزنا ظاهر الكلمة و بحثنا عن باطنها . وفي مجال الفلسفة كان التركيز منصبا على البحث عن علاقة الحقيقة بالواقع . لذلك كان معناها محكوما بهذه العلاقة ، غير أن الحقيقة في الفلسفة المعاصرة ارتبطت بالفكر واللغة . فالحقيقة تكون كذلك إذا ما تطابق الفكر مع ذاته، أو إذا ما تساوقت الكلمة الدالة في سياقها مع باقي الكلمات المرتبطة بها فحيث لا يوجد فكر يحكم على الواقع و لغة تعبر عنه لا يكون هناك معنى للحقيقة.
هل الإشكال في مفهوم الحقيقة مرتبط بموقعها بين الفكر و اللغة أم في الواقع خارج الفكر و اللغة على السواء ؟ ما علاقة الحقيقة بالواقع ؟ هل هي صورة الواقع منعكسة في الفكر و معبر عنها باللغة أم هل هناك حقيقة خارج الفكر واللغة أم انها نتاج لهما ؟ ويتفرغ عن هذا الإشكال الاول إشكال التداخل بين مفهوم الحقيقة ومفهوم الواقع .هل الحقيقة هي الواقع ذاته ، أم مطابقة الفكر للواقع ؟ وفي كلتا الحالتين تطرح إشكالات أخرى متصلة و مرتبطة بهذا الإشكال . هل الحقيقة ذاتية أم موضوعية ؟ و في كلتا الحالتين هل هي واحدة أم متعددة ؟ ثم هل هي مطلقة أم نسبية ؟ ثم هل يمكن الحديث عن الحقيقة بمعزل عن أضدادها و مقابلاتها ، الكذب ،الخطأ، الوهم.... أم هي متلازمة معها ؟ هل الحقيقة من شأن العقل وحده أم تتدخل فيها الأهواء و الرغبات و الغرائز ؟ ثم كيف تفرض الحقيقة نفسها ؟ فهل للحقيقة قيمة معرفية أم أخلاقية أم نفعية بالنسبة للإنسان ؟
يتعلق هذا المحور بالبحث عن طبيعة العلاقة بين الحقيقة كفكر والواقع كمجموعة من البنيات المادية، فإذا كانت الحقيقة تتضمن معاني الثبات والاستقرار وهي في دلالتها الكلاسيكية مرادف للواقع ، و الواقع كل ما هو حاصل وثابت أو ما يوجد موضوعيا خارج الفكر والادراك أي يتصف بالتغير والصيرورة، فكيف يمكن للحقيقة أن تطابق واقعا متحركا ؟ أو بصيغة أخرى أين توجد الحقيقة هل في الفكر أم في الواقع؟
باعتبار التحديدات السابقة يرى أفلاطون أن الحقيقة بما هي ثابتة فإنها تستلزم تطابق واقعا هو الآخر ثابتا. و الواقع المقصود هنا ليس هو الواقع المادي المحسوس و العيني لأنه في نظره ليس حقيقيا، و إنما هو مجرد ظل أو شبح أو نسخة لواقع مفارق هو عالم المثل : الذي هو عالم الحقائق الخالدة و المطلقة، و يتميز عالم المثل باللامادية و بالتالي الثبات والكمال، بينما يتميز عالم الظلال بالمادية، و بالتالي النقص و التغير ، الأول حقيقي يدرك بالعقل، والثاني وهمي يدرك بالحواس . وتتجلى ثنائية أفلاطون لحقيقة الانسان حيث يميز فيه بين جسد وضيع وفان وروح من طبيعة إلهية، و تصنيفه للناس إلى صنفين عامة الناس وهم مقيدون بحواسهم وخاصتهم وهم الفلاسفة الذين يستطيعون تكسير قيود الحواس و تجاوز عالم التجربة وذلك باستعمال العقل وممارسة التأمل وثنائية أفلاطون تتجلى كذلك في تصوره للمعرفة حيث يميز بين المعرفة الظنية المرتبطة بالحواس والمعرفة اليقينية المرتبطة بالعقل و بناء على تصور الثنائي للكون والانسان والمعرفة فإنه يقول بمرحلتين في منهجه الجدلي : جدل صاعد ( البحث عن الحقيقة ) و جدل نازل (تبليغ الحقيقة) و بذلك إن إدراك الحقيقة يقتضي التخلي نهائيا عن العالم المادي المحسوس وعدم الاهتمام بمشكلاته الجزئية وإعمال العقل (التأمل) لبلوغ الحقيقة التي توجد في عالم المثل و تتصف بمواصفاته.إن هذه الثنائية : عالم المثل / عالم محسوس تؤدي في نظر أرسطو إلى استحالات :استحالة صدور عالم محسوس عن عالم مثالي مجرد ، روحي ، ثم استحالة صدور المتغير عن الثابت والزائل عن الخالد ثم كذلك مفارقة الحقيقة لموضوعها إذ كيف يكون الشيء هنا وحقيقته هناك هذه الهوة الوجودية بين الشيء وظله هي ما حاول ارسطو ردمه.
نقض أرسطو نهائيا فكرة عالم مثالي مفارق وقال أن العالم المادي المحسوس هو العالم الوحيد الموجود والحقيقة لا توجد خارجه وحل مسألة علاقة الحقيقة بالواقع تقتضي النظر إلى الثابت و المتحول باعتبارهما متداخلين و متلازمين و مترابطين و يشكلان وحدة يكون فيها الثابت هو الحامل و السند للمتغير فالواقع الحقيقي الثابت محايث للواقع الحسي المتغير إنه الموجود بما هو موجود : الجوهر والماهية الثاوية خلف الأعراض هكذا تنسحب المثل لحساب الجواهر و تستحيل الظلال أعراضا (واقع حسي مباشر) غير أن الاعراض عند أرسطو ليست كما هو الشأن عند أفلاطون يجب طرحها و تجاوزها بل واقع فعلي يمثل الوسيط الضروري الذي لا غنى عنه للعقل للوصول إلى الحقائق جواهر الأشياء بواسطة التجريد العقلي.

لا يؤمن الغزالي بفكرة تأسيس الحقيقة على الحواس لأن الحواس في نظره تخدعنا و تقدم لنا حقائق ظنية ينبغي تلافيها رغم أنه لا ينكر وجود العالم الحسي إلا أنه لا يعتبره منطلقا مضمونا لاكتشاف الحقيقة لأن الحقيقة في نظره من شأن العقل وحده الذي قام بتخطئة الحواس والخقيقة هي ما يقبله العقل تلقائيا دونما حاجة إلى برهان .إن الحقيقة في الأصل ليست واقعا بل أفكارا في العقل سابقة ، ولأمخا سابقة فهي علو ية أو هابطة إنها الحقيقة اللدنية ، ولما كانت الحدود بين الصادق والكاذب من الأفكار ليست بينة منذ البداية فإن الطريق إلى الحقيقة في نظر الغزالي هو اليقين المنهجي ، وهذا اليقين لا يتطلب خروج العقل من ذاته إلى العالم الخارجي بل يشترط فقط العودة إلى الذات لإعادة النظر في كل ما لديه من أفكار بواسطة اليقين ، واليقين عادة ما ينتهي إلى أفكار لا تقبل الشك في العقل ( البديهيات الهوية عدم التناقض الثالث المرفوع والتي هي قوانين العقل ..) وهي أساس اليقين فليس ثمة حقيقة إلا إذا قامت على هذه المبادئ والتي تدرك بواسطة الحدس العقلي ، وانطلاقا منها يستنبط العقل بواسطة الاستدلال كل الحقائق المركبة والممكنة يظهر أن العقل هو مبدأ ومنتهى الحقيقة . لكن ما علاقة الحقائق المدركة بالعقل بالواقع الموضوعي ؟ أمام معقولية الحقيقة (الخاصية الفكرية و المتمثلة في البداهة و الوضوح العقليين ) فإن مطابقتها للواقع يدفع إلى طرح السؤال التالي : أي واقع تكون الحقيقة مطابقة له ؟ أهو المشكوك فيه المادي أم الخفي و كيف يطابق الفكر واقعا خفيا ؟ وكيف يمكن التحقق من هذه المطابقة ؟ يرى الغزالي انطلاقا من فكرة الضمان الإلهي أنها علاقة تطابق فما دام العقل بفطريته والواقع بخصائصه وقوانينه الموضوعية يصدران معا عن أصل واحد هو الله فإن وحدة مصدرهما هي ضامن تطابقهما وبذلك اعتقد الغزالي أنه قد حصن الحقيقة داخل قلعة اليقين التام (المعرفة الهابطة ) و لم يعد هناك مجال للشك ما دام قد قطع الطريق نهائيا عن الحواس والعقل .و لكن هل تكون الحقيقة لدنية بحتة و كيف يمكن للعقل أن يدرك حقيقة الواقع دون الاتصال به مباشرة ، إنه جانب غير معقول في عقلانية الغزالي سيحاول ابن رشد معالجته.
يمكن القول على أن الحلول السابقة رغم اختلافها بصدد مسألة الحقيقة فهي تلتقي في خاصيتين على الاقل ,إنها تنظر إلى الحقيقة من زاوية واحدة إما موضوعية محضة مثل افلاطون و ماهيات ارسطو أو ذاتية محضة الافكار الفطرية الغزالية وأنها تنظر إلى الحقيقة كموضوع جاهز (واقعيا أم عقليا) مكتمل ومنته . وسواء كانت مثالا أم ماهية أو بديهية فإنها في كل هذه الحالات المستبطنة للاكتشاف إما بواسطة الجدل او التجربة او الحدس إلا أن ابن رشد المتاثر بمنهج البحث السائد في عصره : سيقلب النظرة إلى الحقيقة، فالحقيقة عند ابن رشد ليست لاذاتية ولا موضوعية وليست معطاة أو جاهزة خارج الفكر والواقع ولا داخله بل إنها منتوج بناء إنها حاصل تفاعل الفكر والواقع ، يبنيهما العقل انطلاقا من معطيات التجربة الحسية (مادة المعرفة ) التي يضفي عليها الفهم الصور والاشكال لا صورة المعرفة فالحقيقة تستلزم الـــمادة والصورة ، الواقع والفكر معا . هكذا مع كانت اصبحت الحقيقة متعددة ونسبية وغير معطاة فلم تعد مطابقة الفكر للواقع بل انتظام معطيات الواقع في أطر أو مقولات الفكر , وهي نظرة ستتغير بدورها بموازاة مع التطورات التي ستطرأ على الفكر العلمي و الفلسفي خلال القرن 19 و ما بعده وأقصد هنا الفكر في صورته الغربية .
لقد ساهم التقدم العلمي في تغيير فكرة الحقيقة التي أصبحت تخضع لمفهوم النسبية والموضوعية، أما النسبية فتتمثل في ارتباط المعرفة بموضوعها وبأدوات البحث المستعملة فيها ومستوى تطور النظريات العلمية التي تبقى بدورها نسبية و قابلة للتصحيح بشكل مستمر. أما موضوعية الحقيقة العلمية فتقوم على نوعين من الضرورة العقلية : ضرورة صورية الصياغة المنطقية والرياضية للنظريات العلمية وأخرى تجريبية.
الحقيقة في نظر هايدجر على سبيل المثال تتخذ مفهوما جديدا إنها تحديدة توجد في الوجود، ما دام هذا الوجود لا يتمكن من التعبير عن ذاته و الكشف عن حقيقته فإنه يحتاج إلى من يقوم بذلك ، والانسان هو الكائن الوحيد الذي تتجلى فيه حقيقة الوجود ، لا لأنه يفكر وإنما لأنه ينطق و يتكلم . فالانسان في نظر هايدجر نور الحقيقة في ظلمات الكينونة ، فالحقيقة ليست فكرا يضاف إلى الوجود من الخارج و إنما هي توجد في صميم الوجود نفسه، و ليس الانسان سوى لسان حال الوجود أو كلمة الوجود المنطوقة ، الأمر الذي يدل على أن الحقيقة هي فكريطابق لغة معينة ،تعبر عن وجود معين، أي كشف للكائن وحريته، أي استعداد الفكر للانفتاح على الكائن المنكشف له ، و استقباله إذا ما تحقق التوافق و الانسجام.
يتعلق هذا المحور بالمجال الذي تستمد منه الحقيقة قوتها في الاقناع : وفي هذا الاطار نجد نوعين من وسائل الاقناع : وسائل ذاتية تنتمي إلى الحقيقة ذاتها كالبرهان والخطاب ووسائل توجد خارج الحقيقة و تتعلق بالسلطة كمنتجة للحقيقة و مدافعة عنها ، النوع الأول يتخذ أشكالا متعددة فكل حقيقة تحتاج إلى برهان يختلف باختلاف مراتب الناس في التصديق والاعتقاد فهناك برهان عقلي و جدلي و خطابي وسوفسطائي.
يهدف كل خطاب الى التأثير في المخاطب وحمله على الاقتناع و بالتالي استمالته لصالح محموله أو دعواه (حقيقته) وهذا يتضمن أن كل خطاب ينطوي على شكل من أشكال البرهنة، وعلى هذا المستوى نجد أنواعا عديدة من الخطاب : الديني و الفلسفي و العلمي و الفني الأدبي ...بل إنها متعددة حتى داخل الخطاب الواحد (المادية و المثالية في الفلسفة ...)فهل الحقيقة واحدة رغم هذا العجاج الثائر من الخطابات أم أنها تتعدد بتعدد الخطابات ؟ الجواب على هذا السؤال يختلف باختلاف أنماط الخطاب السائدة وحسب العصور . - ففي العصور الوسطى حيث سيطرة الفكر الديني مال الفلاسفة إلى فكرة الوحدة رغم تعدد أنماط القول البرهاني .أما في العصر الحديث حيث سيادة الفكر العلمي ، استقلال العلم عن الدين والفلسفة ستظهر روح جديدة تقر بتعدد الحقائق.
في عصر سيادة الفكر الديني الذي يطمح إلى العمومية الكونية أي خطاب موجه إلى كافة الناس . ومن هنا حرصه على أن يكون مفهوما من طرف الجميع . وبما أن الناس غير متجانسين من حيث قدراتهم الإدراكية والعقلية ، فقد لزم أن تبلغ الحقيقة الدينية الواحدة بأساليب مختلفة ملائمة لطباع الناس في التصديق .

والواقع أن الحقيقة لا تستمد قوتها أو سلطتها على الإقناع من ذاتها (برهان،خطاب) وإنما قوتها من السلطة التي تحاول تكريسها في المجتمع من خلال مؤسساته ، وإذا كان المجتمع مؤسسة كبرى فإنه يملك نظاما لإنتاج الحقيقة كما يمليها على أفراده لتبني هذه الحقيقة تتمتع بخصوصية المجتمع الذي ينتجها

هل ما هو حقيقي (صحيح ، متجانس ، خالص وقائم بذاته في مقابل وفي تعارض مع ما ليس حقيقيا ؟ أو هل اللاحقيقي (الخطأ ، الوهم ، الكذب ... )يوجد ويقيم خارج الحقيقي ؟ ثم هل العلاقة بينهما علاقة اتصال أم انفصال ؟ تداخل أم/ انشقاق
يرى اسبينوزا أننا لا نخطئ إلا حينما نحكم على شيء لا تتوفر لدينا معرفة دقيقة عنه ويعتبر أن الحقيقة بسيطة ومتجانسة خالصة وبالتالي متميزة وواضحة بذاتها . فالحقيقي بديهي بالنسبة للعقل ولا يحتاج إلى دليل ومتميز عما ليس حقيقيا ، إنه قائم بذاته كالنور يعرف بذاته دونما حاجة إلى سند كما قال ، واللا حقيقي كالظلام يوجد خارج النور .فالفكرة الصحيحة صادقة دوما ونقيضها خاطئ دوما .هذه النظرة الانفصالية ستتراجع لصالح النظرة التي تقر بالتداخل بين الحقيقة وأضدادها وذلك نتيجة لعدة عوامل : الأزمات التي عرفها العالم المعاصر إثر ظهور الهندسات الأوقليدية النسبية ، نظرية المجموعات .. ظهور الفكر الجدلي مع هيغل وماركس . النقد الجدلي للعقل الذي اتخذ شكلا فلسفيا مع نيتشه (فضح أوهام العقل ، وسوسيولوجيا هابرماس .

تداخل الحقيقة و اللاحقيقة لقد بين هيغل عن طريق التحليل الجدلي ان كل شيء يحمل في جوفه ضده ويوجد بفضله و ينعدم بانعدامه ، ومن هذا المنظور الجدلي فالخطأ هو الضد الجدلي للحقيقة أي أساسها و مكونها أما باشلارفيعتبر أن الحقيقة العلمية خطأ تم تصحيحه، وأن كل معرفة علمية تحمل في ذاتها عوائق ابستمولوجية تؤدي إلى الخطأ، وأول هذه العوائق الظن أو بادئ الرأي وهذا يعني أن الحقيقة لا تولد دفعة واحدة فكل الاجتهادات الانسانية الاولى عبارة عن خطأ واكتشاف الخطأ وتجاوزه هو الخطوة الأولى نحو الحقيقة. هكذا لم يعد ممكنا في المنظور المعاصر تصور الخطاب العلمي حاملا لحقائق مطلقة يقول إدجار موران الذي يثبت أن فكرة الحقيقة هي المنبع الأكبر للخطأ. والخطأ الاساسي يقوم في التملك الوحيد لجانب الحقيقة. ان النظريات العلمية مثلها مثل جبل الجليد فيها جزء ضخم ليس علميا و لكنه ضروري للتطور العلمي.أما نيتشه فيرى أن الحقائق مجرد أوهام تنسينا أنها أوهام، وذلك بسبب نسيان منشأ اللغة وعملها لأن اللغة ما هي إلا استعارات وتشبيهات ومجازات زينت بالصورة الشعرية والبلاغية مما يجعل من الصعب التوصل إلى الحقائق بواسطة الكلمات أو إلى تعبير مطابق للواقع و للكيانات الأصلية للأشياء بالإضافة إلى نسيان الرغبات والأهواء والغرائز التي تحول دون السلوك الانساني وتدفعه إلى الكذب والإخطاء ، بدل الكشف والإظهار وبذلك يصبح الطريق إلى الحقيقة ليس هو العقل أو اللغة .

إن اعتقاد الانسان في الحقائق وسعيه المتعطش وراءها أمر ضروري لاستمرار الحياة الاجتماعية والاخلاقية كما تبين في المحور السابق ولعل هذا ما يطرح مسألة الحقيقة كقيمة ، فمن أين تستمد الحقيقة قيمتها؟ ما الذي يجعل الحقيقة مرغوبا فيها وغاية وهدفا للجهد الانساني؟.إن الجواب عن هذا الإشكال قديم قدم الفكر الفلسفي .فالفلاسفة اليونان اعتقدوا أن قيمة الحقيقة هي في ذاتها . وما يجعلها كذلك أنها حقيقة خالصة متعالية عن كل منفعة مادية يسعى إليها الانسان ويتخذها غاية لكل معرفة لاعتقاده في صحتها ويقينها لأنها موضوع البحث والاكتشاف أو البناء في الفلسفة التقليدية(أفلاطون، أرسطو، .) و ما دام الأمر كذلك فالحقيقة الفلسفية هي الوحيدة التي تتمتع بقيمة الحق، وقد استمر هذا التصور قرونا طويلة حتى إذا ما لاح العصر الحديث ، عصر الثورة العلمية وجدنا الاهتمام بالحقيقة العلمية التجريبية كحقيقة ذات قيمة . فلقد أشاد كوست بالمعرفة العلمية وبمنهجها التجريبي واعتقد أن الحقيقة الفعلية لا تكون ذات قيمة إلا إذا تحققت تجريبا . وبهذه الطريقة نستطيع التمييز بين الحقيقة واللا حقيقة . وقد سارت الوضعية المنطقية بهذه الفكرة إلى أبعد الحدود بحيث جعلت معيار التمييز بين الحقيقة واللا حقيقة هو القابلية للتحقق . وبهذا المعنى فالحقيقة الدينية والفلسفية وما شابههما لا تتمتع بالقيمة ما دامت تفقد معيار التحقق . إنها إذن أشباه حقائق .أما في الاتجاه البراغماتي (النفعي/الدرائعي) فقد اتخذت الحقيقة معيارا جديدا . يقول أحد رواد هذا الاتجاه "ويليام جيمس : وإذا كل حقيقة من الحقائق ذات قيمة ، وإذا كانت بالتالي صادقة ، وجب أن تكون نتائجها حسنة ، وسبيلها الوحيد إلى اختبار صدقها هو كونها مؤيدة أو خاذلة للمصلحة ، مشبعة أو معوقة للغرض الذي أدى إلى إنشاء الحقيقة . فإن هي أيدت المصلحة وأشبعت الغرض كانت الحقيقة حسنة وبهذا القدر صادقة ، وإن لم تؤيدها كانت سيئة وكاذبة الفلسفة النفعية . 


 
Free Hit Counter Search Engine Submission - AddMe