الاثنين، 23 نوفمبر 2009

النزعة المعرفانية COGNITIVISME

النزعة المعرفانية
COGNITIVISME

سرو محمد*
تندرج النزعة المعرفية في إطار المقاربات الجديدة لفهم ميكانيزمات الفكر ووظائف المعرفة، ذلك أن النصف الثاني من القرن العشرين شهد اهتماما كبيرا ومتزايدا بالعمليات المعرفية، كما شكلت مصطلحات مثل الإدراك الحسي والتذكر والاستدلال وحل المشكلات قطب الرحى من لدن كافة العلوم المعرفية من أجل الوصول إلى تفسير كيفية عمل العقل واكتساب المعرفة ومعالجة المعلومات.
إن مصطلح النزعة المعرفية  COGNITIVISME هه النزعة النظرية التي تهتم وتعنى بالأنشطة الإنسانية العليا( أي العمليات المعرفية cognition) كما تتبنى الفكرة القائلة بإمكانية معرفة هذه الأنشطة معرفة علمية.
ماذا يعني مفهوم cognition أو cognitif؟ إن مفهوم cognitif الذي  ينحدر من الكلمة اللاتينية cognosco يفيد في معناه الواسع كل ما له علاقة بالمعرفة connaissance : من الإدراك إلى الذكاء دون إغفال اللغة والذاكرة والتعلم. يمكن القول، على وجه التقريب، أن العلوم المعرفية sciences cognitives تجمع العلوم التي تدرس المعرفة connaissance بجميع أشكالها. إن التمييز الدقيق بين مفهوم معرفة connaissance ومفهوم معرفة cognition هو الذي أوضحه لوني حيث يعرف connaissance كاعتقاد حقيقي ومبرهن عليه، أو بصفة عامة تمثل مناسب مبرهن عليه. ونسمي كذلك connaissance الوظيفة التي تنتج هذا النوع من التمثلات. أما cognition فهي التي تشمل المعارف connaissances والاعتقادات مع غض النظر عن قيمتها الحقيقية، أي أن بعض هذه المعارف والاعتقادات يمكن أن تكون خاطئة أو غير ملائمة، ويمكن أن نضيف إليها التمثلات المناسبة. ونسمي cognition الوظيفة التي تنتج وتستعمل هذا النوع من التمثلات. إن مفهوم الوظيفة يجب أن يفهم داخل هذا السياق ويعادل : "الذي ينتج نتيجة معينة، كيفما كانت وسائل وطرق هذا الإنتاج".[1]
هكذا يظهر، أن مفهوم cognition يتضمن المعرفة الحقيقية connaissance والمعرفة غير المبرهن عليها، كما أن من بين الخصائص المشتركة للاستعمالات المختلفة لهذا المفهوم هو أن الأجسام عندما تكشف عن سلوكات مختلفة في تفاعلها مع البيئة، فإنها تمتلك معرفة cognition عن هذه البيئة، أي أنها تكون قادرة على تمثلها. إن هذا التعريف للوني هو التعريف الشائع لمفهوم cognition.
تفترض النزعة المعرفانية الحياة النفسية مؤلفة من عدد معين من العمليات المنطقية للمراقبة، والتنظيم، والضبط، والحساب تماما مثل الحاسوب. فالذهن تبعا لذلك، مبني على عدد من التمثلات الرمزية، يرتبها وينظمها، يدبرها ويعالجها وذلك مثل ما يفعل الحاسوب: معالجة المعطيات ثم تنفيذ العمليات. واضح أن مقاربة معالجة المعلومات التي تنتمي لميدان المعلوميات قدمت خدمة جليلة ومنفعة كبيرة على سبيل فهم الفكر؛ وذلك ما كان ممكنا لولا حصول ثورة في طريقة دراسة الفكر الإنساني. إنها قفزة إبستيمولوجية بلا شك، وتصورها يبدو مرتبطا بمحاولات تقعيد الاستنباط الرياضي لنشاط الدماغ. لقد بات ينظر لهذا الأخير وكأنه آلة عصبية machine neuronale خاضعة لقواعد منطقية. علم التحكم cybernétique المنسوب لوينير Wiener وآلة تورينك Turing ومنطق بول Boole كلها عناصر أساسية كانت وراء توجيه الاهتمام بآلة ذكية طبيعيا: الدماغ وصنع آلة ذكية اصطناعيا: الحاسوب. وقد شكل التقارب والتداخل بين هاتين الآلتين ميدانا خصبا لتعميق الأبحاث في هذا المجال؛ حيث يعتبر الدماغ على غرار الحاسوب، جهازا معقدا لمعالجة المعلومات ويشتغل بفضل أنظمة للتخزين: الذاكرة وعمليات التحليل المنطقي مثل البحث في الذاكرة أو التحقق من المقولات.
إن الفكرة المؤسسة لهذه المقاربة تمحورت في الثلاثينات من القرن الماضي حول مسألة تصور الذكاء الطبيعي وكيفية تقليده بالآلات وبالتالي إنتاج ذكاء اصطناعي. وقد تجلى الرهان الذي كان مطروحا آنذاك في المعادلة التالية: إذا كان إنتاج الآلة يقلد صنعة الطبيعة إلى الحد الذي لا يمكن معه التمييز بينهما، فإن ذلك يعني أن الدماغ ليس إلا آلة من بين آلات أخرى. هذه المعادلة ارتكزت على القضية المنطقية التالية: فكر هي عد، وعد هي معالجة الرموز، فإذا فكر تعني نشاط رمزي. وإذا تتبعنا هذا التسلسل المنطقي فإننا سوف نصل إلى مماثلة المعرفة الاصطناعية cognition artificielle والتي هي نتيجة عمل الحاسوب بالمعرفة الطبيعية cognition naturelle التي تنتج عن عمل الدماغ وبالتالي فإن هذه المعرفة أو تلك هي من نتاج آلات مفكرة، أو بمعنى آخر، تلك العمليات الفيزيائية الرياضية التي تتحلى بخاصية معالجة الرموز. هذه هي الأفكار التي دفعت المنطقي آلان تورينك سنة 1936 إلى ابتكار آلة اشتهرت باسمه.[2]
تحاول العلوم المعرفية تقديم بيانات عن سير نظام الدماغ مبرزة الدور الكبير للتمثلات، التي يمتلكها الشخص في حالة معينة، والتي على إثرها تحصل المعالجة. إن الشخص كفاعل معرفي agent cognitif الذي يعالج، بطريقة آلية تلقائية أو مضبوطة، معلومات رمزية ذات طبيعة مختلفة (لفظية، رقمية، رمزية) يصير قابلا لتقديم استدلالات واستنتاجات، وبلورة خطط عمل مع ما يرافق ذلك من إمكانية تصميمها ومراقبة تنفيذها. إن التمثلات تشكل إذا الأساس أو العمود الفقري لبناء معرفي cognitif حقيقي حيث تقوم عدة مستويات متسلسلة ومتفاعلة بمعالجات متوالية من أجل شيء قد يكون حل مشكلة أو الجواب عن سؤال. أمام مختلف الأعمال والعقبات التي يمكن أن يصادفها الإنسان، تعمل المعرفة cognition على تنشيط المعلومات المفيدة ثم انتقاء المعاني الملائمة وأخيرا بناء تأويلات أو إسقاطات التي هي تمثلات داخلية والتي على إثرها يتصرف الجهاز المعرفي cognitif. لذلك تقدم الفرضيات المعرفية نفسها كمجال خصب لدراسة تطور الذكاء عند الطفل وطرق التعلم. إن هذه التمثلات تسمح بالانتقال من المستوى الدلالي (اللغة) إلى المستوى البيوكيميائي (الخلايا العصبية) أو بعبارة أخرى من الذهن إلى الدماغ . وهذا هو بالضبط الموقف المعرفاني cognitiviste الذي يتحدد بحساب التمثلات الرمزية.
ماذا تعني إذن فكرة أن المعرفة cognition تتعرف بالحساب penser c’est calculer و intelligence as camputation، وهذا التعبير الأخير ينسب لهيربير سيمون.[3]  المعالجة الحسابية هي العملية التي تقوم على الرموز، أي على العناصر التي تمثل كل ما يتناسب معها. الفكرة المركزية هنا هي التمثلات représentation أو القصدية intentionnalité [4] .
إن السلوك الذكي، من منظور معرفي، يستلزم القدرة على تمثل العالم بطريقة معينة. ذلك، أنه لا يمكن لنا تفسير السلوك المعرفي إلا إذا افترضنا أن الفاعل يتفاعل، من خلال نمثله للعناصر المناسبة للحالات التي يوجد فيها؛ وبقدر ما يكون هذا التمثل صادقا ووفيا، بقدر ما يكون سلوك الفاعل ملائما. إن كل جسم، مفروض أنه يتكيف ويؤثر في محيطه من خلال التمثلات الداخلية التي يكونها عن هذا المحيط، والأفعال الخصوصية اتجاه هذا الأخير، بالمقابل، وبناء على التجربة التي يكتسبها الجسم من خلال الأفعال بل وحتى الاعتقادات، فإن هذه التمثلات تتغير وتتطور باستمرار بطريقة تكيفية.
إن هذه المسائل ما زالت تثير الكثير من النقاش، فهناك من يعتقد أن ليس هناك تمثلات وسيطة، بل مجموعة أو سلسلة من الآلات مستقلة بذاتها automate ومترابطة فيما بينها تحاكي تصرف الخلايا العصبية؛ وهذا هو الموقف الترابطي connexioniste. ذلك أن هيمنة علم المنطق، كمقاربة أساسية خلال المناقشات العلمية والفكرية المؤسسة للعلوم المعرفية التي دارت في الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي، لم تكن محط إجماع من طرف جميع العلماء. ففي ندوات ماسي [5]  مثلا، متعددة الاختصاصات التي انعقدت ما بين 1946 و1953 وبلغت في المجموع عشر دورات وشارك فيها رياضيون، علماء النفس، فيزيولوجيون، علماء الاجتماع، لسانيون وأنطروبولوجيون؛ تبين أن عدم وجود قواعد، ولا جهاز للترجمة المنطقية داخل الدماغ الذي لا يتوفر على مواقع محددة لتخزين المعلومات، كان موضوع نقاشات ساخنة. لقد تجلى، بدلا من ذلك، أن الدماغ يشتغل انطلاقا من ترابطات interconnexions مكثفة داخل شبكة موزعة ومنظمة، بحيث أن مظهر الرباطات بين كافة الخلايا العصبية تتمكن من التغيير مع التجربة. هذا النظام يدل على استعداد وقابلية للتنظيم الذاتي auto organisation الذي ليس له أي تجسيد في المنطق. هذه الاقتراحات جعلها السياق التاريخي غير مؤثرة في حينها في المشهد الفكري، وبقيت مضمرة تحت سلطة الأرثوذوكسية المعرفانية، حتى أواخر السبعينات من القرن العشرين حينما تسرب إليها بعض الانتعاش. أسباب هذا التجديد تكمن بالتأكيد في بروز الأفكار المتعلقة بالتنظيم الذاتي في الفيزياء والرياضيات غير الخطية( non linéaire ) وكذلك بزوغ الحواسب ذات الدرجة العالية من الاتقان[6] .
لكن هناك سببين رئيسين منسوبين للمعرفانية أديا إلى إعادة تقييم التنظيم الذاتي:
- السبب الأول هو أن المعالجة الرمزية للمعلومات تستند على قواعد تستخدم النظام التسلسلي ( séquentiel ) مما يؤدي إلى انحصار النظام عندما تكون المهمة الواجب إنجازها تتطلب عددا كبيرا من العمليات التسلسلية؛ وذلك بخلاف المعالجة المتوازية ( traitement parallèle ).
- الثغرة الثانية ترجع إلى كون المعالجة الرمزية محلية؛ فضياع أو إتلاف جزء من الرموز أو قواعد المعالجة يعرقل السير العادي للنظام. بالمقابل ، طريقة الاشتغال الموزعة ( distribué ) تؤمن نسبيا سيرا متساوي الجهد والقوة وكذلك حصانة ضد الإتلاف[7] .
هكذا، سيكون الدماغ مرة أخرى مصدر أفكار همت ميادين أخرى من العلوم المعرفية. إن نقطة الانطلاق هنا ليست وصف رمزي مجرد، بل مجموعة من المكونات البسيطة غير الذكية تعبر، مثل الخلايا العصبية، عن خاصيات إجمالية مهمة عندما ترتبط فيما بينها، هذه الخاصيات الإجمالية تنسجم بدقة مع السلوك المعرفي المدروس. من هنا فإن اسم الترابطية يكمن في أن الفعل يقع في الحقيقة عند ترابط الخلايا العصبية.
الانقلاب الإبستيمولوجي واضح إذا إزاء النماذج الكلاسيكية، والميكانيكية، والتسلسلية للمعرفة. ذلك أن الشبكة الترابطية تكمن في كونها مجموعة من الآلات ذاتية الحركة متصلة فيما بينها من خلال نموذجية بسيطة تحاكي شبكة الخلايا العصبية[8] . من جانب آخر، فإن معلومات الشبكة تخزن في نقاط اتصالاتها، ولكننا لا نعرف إلى حد الآن ( الأبحاث الجارية تتناول هذا الجانب ) كيف يمكن لشبكة الخلايا العصبية الصورية أن تكتسب عفويا المعلومات، حتى ولو أن قوة هذه الشبكات تكمن بالضبط في قدرتها على التعلم الطبيعي انطلاقا من معلومات تتلقاها من البيئة، وذلك خلافا للنماذج المعرفية الكلاسيكية التي يجب دائما برمجتها. هذه القدرة ليست القوة الوحيدة للشبكات الترابطية، بل إن سلوكها يكشف عن خاصيات فريدة: منها استطاعتها تعميم أو تجديد معطيات مبتورة أيضا، وحتى ولو كان نظامها مختل أو أتلف جزئيا، فإنها تبقى مؤهلة للتعلم من جديد وتقديم نتائج مقبولة من دون أن يكون ذلك خاضعا للبرمجة المسبقة. لكن من يأتي المعنى؟
في إطار المقاربة الترابطية المعنى ليس حبيسا داخل الرموز، كما هو الحال في المعرفانية، بل هو مرتبط بالحالة الإجمالية للنظام ويبقى متوقفا على النشاط العام داخل ميدان معين مثل التعلم أو التعرف.
تحدثنا لحد الآن عن تيارين يتقاسمان الساحة الفكرية والعلمية ويطرحان تصوران لمقاربة وتفسير الظاهرة المعرفية cognition؛ يتعلق الأمر كما نعرف بالمعرفانية والترابطية. لكن هناك من يعيب عن هاتين المقاربتين كونهما يغيبا بعض الأبعاد الأساسية في المعرفة، بل حتى الجمع بينهما لا يتوفر على وضع مفهومي واضح. لذا، يجب تشجيع مقاربة جديدة ومختلفة تماما عن سابقاتها.
هذه المقاربة الجديدة ترى أن تعريف المعرفة تميز لحد الآن بغياب كلي للحس المشترك [9] . بالنسبة للمعرفانية كما بالنسبة للترابطية، معيار تقييم المعرفة يكمن دائما في التمثل الملائم لعالم خارجي معين مسبقا في حين أن نشاطنا المعرفي يكشف أن هذه الصورة يشوبها كثير من النقص.
يعتقد مؤسس هذه المقاربة الجديدة- فرانسيسكو فاريلا -[10]  أن القدرة الكبيرة لكل معرفة حيوية تكمن بالذات، وعلى نطاق واسع، في طرح الأسئلة وثيقة الصلة بالمواضيع التي تنبثق في كل لحظة من لحظات حياتنا. هذه الأسئلة ليست محددة مسبقا بل "حركية " énactées ونبرزها faire émerger على خلفية من الخلفيات، ومقاييس مناسبة الصلة هاته يمليها دائما الحس المشترك في سياق معين.
هذا التعريف "للحركية" énaction [11]  يندرج في سياق نقد مفهوم التمثل. في العالم الذي نعيش فيه، إذا تم التعبير عنه بطريقة طبيعية بدلا من كونه محدد مسبقا، فإن مفهوم التمثل لن يلعب في المستقبل دورا رئيسيا.
إن فاريلا في مقاربته لهذا النقد، ينطلق من التصور الذي يفيد أن التقليد الغربي برمته استند على منح الامتياز للفكرة القائلة بأن المعرفة connaissance هي مرآة الطبيعة، وبأن إعادة النظر في هذه الفكرة لم يطرح إلا حديثا جدا مع ظهور أعمال بعض المفكرين، من أمثال هايدجر، وميرلوبونتي، وفوكو الذين نقدوا صراحة مفهوم التمثل. لقد اهتم هؤلاء بظاهرة التأويل في معناها الدائري الرابط بين الفعل action والمعرفة savoir، بين من يعرف وما هو معروف. هذا الارتباط الدائري التام بين الفعل والتأويل هو الذي أوحى لفاريلا عبارة بروز faire émerger. أيضا، وبما أن هذا المنظور التحليلي يهتم خصوصا بتغليب كفة مفهوم الفعل على نظيرتها الخاصة بمفهوم التمثل، فإنه يكون جديرا تسمية هذه المقاربة الجديدة ب"الحركية".
إن هذه النظرية ترى أن المعرفانية والترابطية همشتا الحس المشترك الذي بقي غامضا وملتبسا ولم يكن موضوع تقصي وبحث جدي، لكن هذا الالتباس وجد له صدى في الفلسفة. وقد كان للظاهراتية قصب السبق في هذا المجال، حيث خاضت نقاشا مفصلا حول هذا الموضوع وطرحت أسئلة من قبيل: لماذا ترتكز المعرفة على أن عالمنا ملازم لأجسامنا ولغتنا وتاريخنا الاجتماعي؟ يتعلق الأمر بتأويل متصل ومستمر لا يمكن أن تسيجه، بطريقة ملائمة، مجموعة من القواعد والمسلمات، ما دام يخضع للفعل والتاريخ (السيرورة)؛ إنه عالم المعاني والدلالات نتملكه بالإقتداء والمحاكاة، ليصبح جزءا لا يتجزأ من عالمنا الموجود قبلا.
إن التحدي الحقيقي الذي تطرحه هذه المقاربة أمام العلوم المعرفية هو إعادتها النظر في الحكم المسبق الأكثر تجذرا في التقليد العلمي الذي يفيد أن العالم كما ندركه، مستقل عن الذي يدركه.
إذا كان علينا أن نستخلص، بخلاف ذلك، أن المعرفة cognition لا يمكن فهمها، بطريقة ملائمة، بدون الحس المشترك الذي ليس شيئا آخر سوى تاريخنا المادي والاجتماعي، فيجب علينا أن نستنتج أن الذي يعرف والذي هو معروف أي الذات والموضوع يشكلان شيئا مشتركا ومتزامنا. المعرفة هي، بعبارة فلسفية، أنطولوجية. 
لقد عرضنا للتيارات الثلاثة التي قاربت الظاهرة المعرفية بصفة عامة وفي شموليتها، والمقام هنا لا يسمح بعرض الانتقادات والمؤاخذات التي وجهت لهذا التيار أو ذاك نتيجة ما قد يكون شابه من نقص أو اعتراه من خطأ من زاوية معينة.
هذه الظاهرة تميزت أيضا بكونها شكلت نقطة التقاطع لعدة علوم وميادين متنوعة؛ منها ما ينتمي للعلوم التطبيقية كالذكاء الاصطناعي والعلوم العصبية، أو للعلوم الإنسانية كعلم النفس المعرفي واللسانيات والفلسفة التحليلية. ولعل هذا التنوع هو الذي دفع البعض إلى تسميتها بعلوم وتقنيات المعرفة[12] ، لكن التعريف الشائع هو علوم المعرفة.
فالذكاء الاصطناعي هو بصفة عامة قدرة الآلة على تنفيذ عمليات تعتبر ذكية كالتعرف على الأشكال، والتعلم، وأخذ القرار. هناك مدرستين: إحداهما تعتبره علما معرفيا هدفه استيعاب واستنساخ ميكانيزمات اكتساب المعارف والفهم، والأخرى ترى أنه فرع من المعلوميات يستثمر إمكانيات الواقع لابتكار أحداث مصطنعة [13] .
علم النفس المعرفي هو فرع من علم النفس الذي يدرس المعرفة ويعالج الميكانيزمات العقلية وبالتالي أنشطة الدماغ. إنه يرتكز على ملاحظة سلوك الأفراد في محاولة للكشف عن استعمال الصور العقلية وتعيين العوامل التي تؤثر في هذا الاستعمال. منذ عدة سنوات شكلت مقاربة معالجة المعلومات الأفق الكبير لعلم النفس المعرفي التي تعتبر التطور العقلي متكونا من تعاقب عدة مراحل[14] . يقول تيبيرجيان: "يعتبر علم النفس المعرفي الفرد كجهاز لمعالجة المعلومات، حيث يحول المعلومات من طبيعة فيزيائية إلى معلومات من طبيعة عقلية أو تمثلية" [15] .
إذا كان اليوم معظم علماء النفس يعتقدون أن الفكر واللغة ينسجان علاقات وثيقة، فيجب على اللسانيات أن تلتحق بحقل العلوم المعرفية. وهذا اللقاء مع اللسانيات يمر عبر ثلاث قنوات:
- مشاكل الترجمة الأوتوماتيكية للنصوص إلى لغات أجنبية من طرف برامج الذكاء الاصطناعي، استلزمت تدخلها ومساعدتها.
- لا يمكن تصور انبثاق حركة العلوم المعرفية بدون إسهام قواعد العبارات اللغوية linguistique générative. فنظريات اللغوي الأمريكي نوام شومسكي حول قواعد العبارة grammaire générative، كان لها تأثير حاسم في التقارب بين اللسانيات والعلوم المعرفية الأخرى. ذلك أن تكوين وتأليف قواعد العبارة تسعى إلى إبراز البنيات النحوية syntaxique العميقة والغامضة للكلام حيث انطلاقا من ذلك يتم بناء الخطابات الخاصة.
- أخيرا تتقاطع اللسانيات اليوم، في عدة نقاط ميدانية متنوعة مع العلوم المعرفية؛ كعلم النفس اللساني، وعلم الدلالة، واللسانيات العصبية، والفلسفة التحليلية للكلام.
الفلسفة التحليلية أو فلسفة الذهن تهتم بنفس الإشكالية، ذلك أن أصالة العلوم المعرفية تكمن في تقريب الفلسفة من مختبرات البحث، وقد تمحورت الفلسفة التحليلية حول تقليدين مختلفين:
- التقليد الأوروبي الذي اتجه إلى دراسة الوعي الذي هو حامل للمعنى. ويمكن أن نصنف داخل هذا الاتجاه بيرجسون و ميرلوبونتي في فرنسا والتيار الفينومينولوجي الذي يمثله هوسيرل و هايدجر في ألمانيا.
- التقليد الأنجلوساكسوني الذي أخذ اتجاها آخر حيث غض الطرف عن الانطولوجيا (معرفة الكائن) ليهتم بقواعد الفكر. إن دور الفلسفة التحليلية هنا اكتفى بتحديد قواعد إنتاج الأفكار، ومن تم هيمن مبحث الكلام ومبحث منطق القضايا. في محاولة منها لتقعيد الاستنباط، أي توضيح القواعد المتبعة في تكوين القضايا والاستنباطات في العمليات العقلية، واجهت الفلسفة التحليلية الأنجلوساكسونية نفس الموضوعات والمسائل التي اعترضت طريق اللسانيات والذكاء الاصطناعي. على العكس من ذلك، الاتجاه الفلسفي الأوروبي الذي يتصور الفكر كظاهرة شعورية أو واعية، شكل مصدر الانتقادات الجذرية للإدعاءات التي تطالب بنمذجة الفكر [16] .
آخر حقل كبير للبحث في العلوم المعرفية تمثله العلوم العصبية. هذه الأخيرة لوحدها تكون فسيفساء من الميادين المتشابكة (البيولوجيا العصبية، الفيزيولوجيا العصبية، علم الغدد العصبي، علم التشريح العصبي....) التي تدرس الأسس البيولوجية والفيزيولوجية والتشريحية للدماغ حيث عرفت تطورا كبيرا خلال العشرين سنة الأخيرة.
لقد شهد علم الأعصاب المعرفي نشأته الأولى في سنوات 1980 التي اتسمت، مثلا، بظهور المدرسة الأولى الصيفية لعلم الأعصاب المعرفي في جامعة هارفارد، وتأسيس مجلة علم الأعصاب المعرفي (Journal of cognitive Neuroscience chez MIT Press) [17] .
وقد ساهم عاملين اثنين في تطور هذا العلم الجديد: العامل الأول ارتبط بالتقدم الهائل الذي عرفته المعلوميات حيث تمكن العديد من الباحثين من التوفر على حواسب غاية في الدقة مكنتهم من تقليد ومحاكاة الأنشطة المعرفية بواسطة شبكة من الخلايا العصبية الاصطناعية. أيضا ساهمت هذه الأنظمة ذات التقنيات العالية، في تطور أدوات المصورة الدماغية imagerie cérébrale .
نتيجة لذلك، شهد ميدان معرفة العلاقات الفيزيائية والكيميائية بين الخلايا العصبية انطلاقة باهرة، كما تمكن العلماء من تحديد التمركز الدقيق لمختلف الوظائف المعرفية؛ فنحن نعرف اليوم نسبيا المراكز الدماغية المسؤولة عن البصر والكلام والسمع.
إن إمكانية معاينة اشتغال دماغ سليم وكامل بطريقة "مباشرة" أثناء إنجازه مهمات معرفية متنوعة، أحدثت ثورة في ميدان العلوم المعرفية بكاملها، وأسست لمرحلة حاسمة في تاريخ العلوم وكذا في تاريخ الفلسفة، كما فتحت منفذا مباشرا على سبيل فهم ميكانيزمات وآليات الفكر.
نقرأ لبوسنير وهو أحد رواد علم النفس المعرفي في مجلة العلم سنة 1993: << الميكروسكوب والتليسكوب فتحتا، في زمانهما، حقولا فسيحة من الاكتشافات العلمية الغير المنتظرة، الآن وقد سمحت الأساليب الجديدة للمصورة برؤية الأجهزة الدماغية للفكر السوي والمرضي، فممكن أن تشكل المعرفة cognition البشرية فجر مرحلة غنية جدا.>> [18]
في الختام يمكن القول إن النزعة المعرفية إذا كانت يطرح للنقاش، بطريقة جديدة، المقاربات التقليدية لفلسفة المعرفة (خاصة تلك التي تنتمي إلى القرن 17 والمنحدرة من ديكارت وهوبز ولوك ولايبنتز ) على ضوء الذكاء الاصطناعي ( تماما مثل ما كان فلاسفة القرن 17 يتصورون الجسم البشري انطلاقا من علم الميكانيكا )، فإنه ( أي الاتجاه المعرفاني ) يرجع له الفضل في كونه تيارا استطاع أن يجمع ويؤلف بين مقاربات علمية متنوعة ومختلفة، كما أنها يحاول تأمل نتائج العلوم العصبية. إلا أن السؤال الذي يطرح نفسه هو هل هذا التيار مرتبط فقط بتطور الذكاء الاصطناعي أم أنه يقترح نماذج صالحة بكيفية دائمة.           

الهوامش


[1] - Le NY J.F., sciences cognitives et compréhension du français, PUF, 1989, p :26-27.
[2]-  Pour un maximum de détails sur la machine de TURING voir :
     Dupuy J.P., Aux Sources Des Sciences Cognitives, La Découverte, Paris, 1995, p : 22-30. 

[3] - Dortier J.F., Les Modèles Théoriques, Sciences Humaines, N°17, Mai 1992, p : 22.
[4] - Ce terme intentionnalité, les cognitivistes l’ont emprunté de Husserl, principal représentant de la phénoménologie transcendantale, à partir de sa théorie de l’intentionnalité qui s’est développée en deux phases : la première phase correspond exactement à ce que Jerry Fodor, dans son article sur le solipsisme méthodologique, appelle la théorie représentationnelle de l’esprit, et la seconde phase peut être rattachée à ce que Fodor appelle la théorie computationnelle des représentations. Ce terme a joué un rôle primordial dans la discussion conceptuelle des sciences cognitives, mais il est hors du propos de le discuter ici. Pour un maximum de détails voir :
- Dreyfus H.L., Husserl et les sciences cognitives, Les Etudes Philosophiques N°1, 1991, p : 3
- Dupuy J.P., Aux sources Des Sciences Cognitives, Op. citée, p : 91-119.    
[5] - Les Macy Conférences, publiées sous le titre de Cybernetics Circular Causal and Feedback Mechanisms in Biological and Social Systems, New York, Josiah Macy Jr. Foundation, 5 volumes. Pour plus de details concernant ces conferences voir: Dupuy J.P., op. citée, p : 68-73.
[6] - Varela J.F., Connaître Les Sciences Cognitives Tendance et Perspectives, Edition du Seuil, 1989, p : 53-56.
[7] - Ibid.
[8] - Vignaux G., Les Sciences Cognitives Une Introduction, Edition La Découverte , Paris, 1992, p : 314-317.
-[9] فضلنا هنا تعبير حس مشترك كترجمة لـ sens commun وذلك لكونه في نظرنا يندرج أكثر في سياق الموضوع الذي ندرسه، باعتباره مجموع  الدلالات والمعاني المادية واللغوية والتاريخية والاجتماعية التي نتملكها في تفاعلنا التكيفي الدائم مع العالم الخارجي: بخصوص
 التعابير التي ورد استعمالها في اللغة العربية انظر مثلا :Sens commun بلحاج عبد الكريم، التفسير الاجتماعي لسببية السلوك والوقائع الشخصية- مقاربة نفسية اجتماعية معرفية، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، الرباط، 2005، ص: 26.                    
[10] - Varela J.F., Connaître Les Sciences Cognitives Tendance et Perspectives, Op. citée, p : 89-117.
[11] - إن مصدر كلمة énaction هو اللغة الانجليزية to enact وليس لها أي مقابل في اللغة الفرنسية وصاحبها Varela)) استعملها لأنها تعبر في نظره عن التقارب بين الفعل l’action والفاعل l’acteur . أما مصدر كلمة faire émerger فهي الفلسفة الفينومينولوجية التي تترجم الكلمة الألمانية hervorbringen إلى faire émerger . وهذا التعبير في نظر فاريلا يتعارض على الفور مع émergence بإضافة فعل faire لأنه يفرض حركة أو سلوكا من طرف الفاعل ولا يتوقف فقط على القيمة الباطنية لما ينبثق(émerger). من جانب آخر فقد ترجمنا énaction بحركية لأن الفاعل عندما يفعل لا ينتج إلا حركة ثم لأنه- وهذا هو المهم- في نظرنا يصب في نفس المغزى الذي يفترض أنه يقرره صاحب المقاربة. بنفس الأسلوب تعاملنا أيضا مع لفظة faire émerger عندما ترجمناها ببروز. لكننا لاندعي أن هذه التسمية التي تبنيناها قائمة بذاتها بل نقترحها كإجراء ضروري يتطلبه النص.
[12] - Varela J.F., Op. citée p :21.

[13] - La Vallée I., La Pensée Artificielle ?, La pensée 282, p :31-32.
[14] - Fortin C. Rousseau R., Psychologie Cognitive,Une Approche de Traitement de L’information, Télé-Université, Presse de l’Université du Québec, 1992, p :3-4.
[15] - Weinberg A., Des Sciences du Cerveau aux Sciences de la Pensée :état des lieux, Sciences Humaines, N°17, Mai 1992, p :19. 
[16] -Ibid.
[17] - Koeing O., Vocabulaire des Sciences Cognitives, PUF, 1998, p : 6.
[18] - Posner M., Seeing the Mind, Science, 262, 1993, p : 673-674.
 
Free Hit Counter Search Engine Submission - AddMe