السبت، 7 نوفمبر 2009

جورج هيربرت ميد

بقلم د. عمر عبد الجبار

كما سنرى خلال هذا الفصل، النظريات النفسية الاجتماعية لجورج هيربرت ميد تشكلت بالعديد من المصادر الفكرية، لكن التأثير الأكبر كان للسلوكية النفسية. عّرف ميد السلوكية في معناها العريض بأنها: "ببساطة هي طريقة لدراسة تجربة الفرد من وجهة نظر سلوكه" [1] . لم تكن لميد مشكلة مع هذا المدخل السلوكي لكن كانت له صعوبات بالطريقة التي عرفت بها السلوكية والطريقة التي مورست بها بواسطة أكثر السلوكيين تميزا في عصر ميد، جون ب. واتسون.
السلوكية في عصر ميد التي مورست بواسطة واتسون وآخرين عديدين ثم طبقت على البشر، ثم استيرادها - إذا جاز التعبير - من علم النفس الحيواني وكانت تعمل ضمنه بشكل جيد. هنالك كانت تبنى على الافتراض أنه من المستحيل من خلال فحص الأفكار الوصول إلى التجارب العقلية الخاصة (بافتراض أنها موجودة) للحيوانات الدنيا. ولذلك فإن كل ما يمكن وما يجب عمله هو التركيز على سلوك الحيوان. فبدل أن يسعى لمواء مة السلوكية مع حقيقة أن هنالك اختلافات عقلية بديهية بين الحيوان والإنسان طبق واتسون وبكل بساطة مبادئ السلوك الحيواني على الإنسان. بالنسبة لواتسون البشر ليسوا إلا ماكينات عضوية. بمثل هذه الرؤية عن البشر والتشابه بين الحيوان والإنسان، رفض واتسون إمكانية دراسة الوعي البشري عن طريق فحص الأفكار أو أي طريقة أخرى. وكما قال ميد "إن توجه جون واتسون شبيه بتوجه الملكة في قصة "أليس في بلاد العجائب: إقطعوا رؤوسهم" [2].
يرى ميد أن واتسون سعى لاستخدام السلوك لتفسير التجارب الإنسانية بدون أن يهتم بالتجارب الداخلية، الوعي والتخيل العقلي. على العكس يرى ميد أنه حتى التجارب الداخلية يمكن دراستها من و جهة نظر السلوكي طالما أن وجهة النظر تلك لا تفهم بصورة ضيقة. لذلك فإن ميد سلوكي أو كما سمى هو نفسه سلوكي اجتماعي. لكن ما يبدو أنه إاضافة صغيرة يضع تبايناً نظرياً كبيراً. النظرية التفاعلية الرمزية التي ظهرت، جزء كبير منها من نظرية ميد وتختلف جداً عن النظريات السلوكية (مثل نظرية التبادل الأولى) وتوجد في نموذج سوسيولوجي مختلف.
في حين أن ميد سعى لإدخال ما يجري داخل العقل كجزء من السلوكية الاجتماعية، فقد كان معترضا مثل واتسون على استعمال فحص الأفكار لدراسة العمليات العقلية. أراد ميد دراسة العقل سلوكيا وليس عن طريق فحص الأفكار.
"اعتراض السلوكيين على فحص الأفكار مبرر. فهى ليست عملية مثمرة من وجهة نظر دراسة سايكولوجية. إن ما يشغل السلوكي هو رد الفعل الحقيقي نفسه وعلى حسب مقدرتنا على ترجمة محتوى الفحص الفكري إلى استجابة يمكننا الحصول على مذهب سايكلوجي مقنع" [3].
بدلا عن دراسة العقل بواسطة فحص أفكاره ركز ميد على (الفعل)، وإذا تضمن أناساً آخرين يكون (الفعل الاجتماعي). الأفعال سلوكيات يمكن تعريفها جزئيا على ضوء المفهوم السلوكي الحافز والاستجابة. ذلك، أن بعض الحوافز الخارجية تدفع الشخص إلى أن يستجيب بفعل. إن إضافة ميد هنا عندما قال "جزء من الفعل يقع ضمن الكائن العضوي ويعبر عنه لاحقاً"، إنه هذا الجانب من السلوك التي تجاوزه واتسون" [4]. لم يتجاهل ميد التجارب الداخلية للفرد لأن هذه التجارب الداخلية جزء وبالتأكيد جزء هام من الفعل. ضمن هذا المعنى أكد ميد "إن وجود العقل أو الوعي بمعنى أوآخر يجب القبول به" [5].كان ميد مدركا أن العقل لا يمكن اختزاله إلى سلوك فقط لكنه يرى أنه ـ أى العقل - يمكن شرحه في إطار سلوكي دون إنكار وجوده.
عّرف ميد العقل في إطار وظيفي وليس مثالياً. ذلك أن العقل يرى في إطار ما يفعله، الدور الذي يلعبه في الفعل وليس كظاهرة ذاتية متجاوزة. العقل هو جزء، أو الجزء الأساسي في الجهاز العصبي المركزي وسعى ميد إلى توسيع تحليل الفعل خاصة الفعل الاجتماعي إلى ما يتجلى في الجهاز العصبي المركزي. "إنما أوكد علي أن النظم التي نجدها في الجهاز العصبي المركزي هي نظم فعل وليس تأمل" [6]. إضافة إلى ذلك، إن ما يجري في الجهاز العصبي المركزي ليس منفصلا عن الفعل. إنه جزء أساسي من الفعل، لذلك فإن ميد لا يريد أن يفكر في العقل في إطار ذاتي وإنما شيء يشكل جزءاً من عملية موضوعية.
مصدر فكري آخر هام في تفكير ميد هو ( الفلسفة البراجماتية) أو النفعية، وميد من المفكرين الأساسيين في تطور الفلسفة البراجماتية. (إضافة إلى جون ديويي وشارلس بييرس). اعتبر ميد ان البراجماتية "نموا أميريكيا طبيعيا" [7]. تعكس البراجماتية انتصار العلم والمنهج العلمي في المجتمع الأمريكي واستخدامهما لدراسة العالم الاجتماعي بدل أن تكون تأملية تبحث في عالم آخر، مثل النظم الفلسفية السابقة، استخدمت البراجماتية منهج التركيز على هذا العالم وعلى الواقع الميداني. يعتقد البراجماتيون في تفوق المعلومات العلمية على العقائد الفلسفية وكل أنواع المعرفة الأخرى. وكما لخصها جون بالدوين "العلم متفوق على التجريب والخطأ في التعلم، فحص الاستبطان، المنطق المسبق، المثالية والفلسفة التخمينية، وكل مصادر المعرفة غير التجريبية الأخرى" [8]. اعتبر العلم الوسيلة المثلى ليس فقط في الحصول على المعرفة ولكن أيضا لتحليل المشاكل الاجتماعية وحلها، فالنظريات العلمية وكذلك الأفكار بشكل عام يجب اختبارها باستخدام الطرق العلمية. الأفكار التي تبقى هي التي غالبا ما توفر المعرفة وتكون مفيدة في حل المشاكل. رفض البراجماتيون فكرة أن هناك أشياء مثل الحقيقة المطلقة. وباتباع النموذج العلمي اعتبروا كل الأفكار مبدئية وعرضة للتغير على ضوء أبحاث المستقبل. تشتمل البراجماتية على سلسلة من الأفكار على علاقة مباشرة مع نظرية ميد السوسيولوجية. أولا بالنسبة للبراجماتيين، الواقع أوالحقيقة لاتوجد هنالك في العالم الخارجي "إنها تخلق عندما نقوم بالفعل في العالم وتجاهه" [9]. ثانيا، يتذكر الناس الماضي ويبنون معرفتهم عن العالم على ما ثبت أنه مفيد لهم. وغالبا ما يغيرون ما لم يعد يعمل. ثالثا، يعرّف الناس المواضيع الاجتماعية والطبيعية التي تصادفهم في العالم بناءً على استخدامها. وأخيرا إذا أردنا فهم الفاعلين يجب علينا أن نبني فهمنا على ما يفعلونه حقيقة في العالم.
البراجماتية هي فلسفة براجماتية في معان مختلفة تشتمل على حقيقة أنها تتبع التركيز العلمي على ما هو ماثل. إضافة إلى المنهج العلمي، فهى تهتم بما يفعله الناس حقيقة وتهتم بإيجاد أفكار عملية تساعدنا في التعامل مع مشاكل المجتمع.
ميز لويس وسميت [10] بين نوعين من البراجماتية. البراجماتية الاسمية التي تنسب إلى جون ديوي ووليام جيمس والواقعية الفلسفية التي تنسب لميد. الموقف الاسمى يقول بالرغم من أن الظواهر الاجتماعية موجودة فإنها لا توجد في استقلال عن الأفراد وليس لها اثر محدد على وعي الفرد وسلوكه (هذا في تعارض مع دوركايم، ماركس، ماكس فيبر وزيميل). بايجابية أكثر هذه الرؤية "تعتبر الأفراد أنفسهم كفاعلين أحرار وجودياً يقبلون، يرفضون، يعدلون أو يعرّفون قيم المجتمع، أدواره، معتقداته وما إلى ذلك، حسب اهتماماتهم الشخصية وخططهم" [11]. على النقيض من هذا فبالنسبة للواقعيين الاجتماعيين يكون التركيز على المجتمع وكيف يكّون عمليات الفرد العقلية ويسيطر عليها. فبدل أن يكونوا فاعلين أحراراً فإن الفاعلين وإدراكهم وسلوكهم مسيطر عليه بواسطة المجتمع الكبير.
بهذا التمييز خلص لويس وسميث إلى أن عمل ميد يناسب المعسكر الواقعي. وهناك الكثير من الفائدة في هذا الموقف كما أنه يعطي فكرة عن نقاشنا القادم خاصة حول الأولوية التي أعطاها ميد لما هو اجتماعي. إلا أن تصنيف ميد كواقعي يضعه في نفس الفئة مع دوركايم وهذا لا يمكن قبوله لأن هناك العديد من الاختلافات بين نظريتيهما. في الحقيقة فإن نظرية ميد لا يمكن اقحامها في أي من النوعين من البراجماتية. فهنالك عناصر من الأسمية والواقعية في تفكير ميد، ولنضع ذلك بصورة أكثر تحديدا، في معظم أعمال ميد فإن العمليات الاجتماعية والوعي يعبران عن بعضهما في صورة تبادلية ولا يمكن تمييزهما بوضوح. بمعنى آخر هناك ترابط جدلي بين الواقعية والأسمية في أعمال ميد. هذا يقودنا إلى مصدر آخر مهم من مصادر تفكير ميد- فلسفة هيغل ـ خاصة منهجه الجدلي. سنعود إلى هذا الموضوع لاحقاً في هذا الفصل، لأن التفكير الجدلي وكما سنرى، يجعل من الصعوبة فصل العديد من أفكار ميد النظرية، إنها ترتبط جدلياً مع بعضها البعض، لكن آخذين بالاستراتيجية التي اتبعها ميد نفسه، فإننا سنميز بين العديد من المفاهيم من أجل توضيح المناقشة. آخذين في الاعتبار أن ـ وسيشار إلى ذلك في عدة مواقع من خلال كل المناقشة ـ هناك علاقة جدلية بين مختلف المفاهيم.

أولوية الاجتماعي

في استعراضه لأكثر أعمال ميد شهرة (العقل، الذات والمجتمع) ذكر ألسورس فارس "ليس العقل وبعد ذلك المجتمع - لكن المجتمع أولا ثم العقول التي تنشأ مع ذلك المجتمع ـ غالبا ما يكون هو اختيار ميد المفضل". عكس فارس لعنوان ذلك الكتاب يوضح الحقيقة التي أقر بها ميد نفسه، فالمجتمع أو ما هو اجتماعي بشكل عام هو الذي يحتل الأولوية في أعمال ميد وتحليله.
يرى ميد أن علم النفس الاجتماعي التقليدي بدأ بعلم نفس الفرد في محاولة لتفسير التجارب الاجتماعية، وعلى النقيص فقد أعطى ميد دائما الأولوية للواقع الاجتماعي في فهم التجربة الاجتماعية ثم وضّح ميد موقفه كما يلي:
"نحن في علم النفس الاجتماعي لا نبنى سلوك المجموعة الاجتماعية في إطار سلوك الأفراد المنفصلين المكونين لها، لكننا نبدأ من كل اجتماعي معطى من نشاط المجموعة المعقد والذي نحلل فيه (كعناصر) سلوك الأفراد المنفصلين المكونين لذلك الكل الاجتماعي. نحن نحاول تفسير سلوك المجموعة الاجتماعية وليس رصد السلوك المنظم للمجموعة الاجتماعية في إطار سلوك الأفراد المنفصلين الذين ينتمون لها. بالنسبة لعلم النفس الاجتماعي، الكل (المجتمع) سابق للجزء (الفرد) وليس الجزء سابقا للكل والجزء يفسر في إطار الكل ولا يفسر الكل في إطار الجزء أو الأجزاء" [12].
يرى ميد أن الكل الاجتماعي سابق لعقل الفرد منطقيا وزمانيا، فالفرد المفكر الواعي لذاته، كما سنرى لاحقا غير ممكن منطقيا في نظرية ميد بدون مجموعة اجتماعية سابقة، وتأتي أولاً المجموعة الاجتماعية، ثم تقود إلى تطور حالات الوعي الذاتي العقلي.

الفعل

اعتبر ميد أن الفعل هو أكثر الوحدات بساطة في نظريته، وفي تحليله للفعل اقترب ميد من المدخل السلوكي وركز على الحافز والاستجابة. لكن حتى في ذلك، فإن الحافز لا يثير استجابة ميكانيكية خالية من التفكير لدى الإنسان الفاعل، وكما قال ميد "نحن نفهم الحافز كمناسبة أو فرصة للفعل وليس إلزاما أو إجباراً" [13].
حدد ميد أربعة مراحل أساسية ومتداخلة في الفعل. المراحل الأربعة تكون كلاً عضوياً (بمعنى آخر إنها مترابطة جدليا). كان ميد مهتما بأوجه الشبه والخلاف بين الفعل الإنساني وفعل الحيوانات الدنيا.
المرحلة الأولى هي الدافع والذي يتضمن "تنبيه حسي مباشر" ورد فعل الفاعل لذلك التنبيه والحاجة لعمل شئ تجاهه، والجوع مثال جيد للدافع. الفاعل (إنسان أو غير إنسان) ربما يستجيب مباشرة وبدون تفكير للدافع، لكن غالبا ما يفكر الفاعل الإنسان حول الاستجابة المناسبة بأًن يأكل الآن أم لاحقا مثلا. في التفكير حول الاستجابة يعتبر الشخص ليس فقط الوضع المباشر وإنما أيضا التجارب السابقة للفعل والنتائج المتوقعة في المستقبل.
الجوع ربما يأتي من حالة داخلية للفاعل أو ربما يثار بوجود الطعام في البيئة المحيطة أو ربما يحدث في الغالب من مزيج من الاثنين معاً. إضافة إلى ذلك، الشخص الجائع يجب أن يجد وسيلة لاشباع الدافع في بيئة قد لا يتوفر فيها الطعام أو قد لا يكون كافياً، هذا الدافع، مثل كل الدوافع ربما يكون على علاقة بمشكلة في البيئة المحيطة (عدم توفر الطعام في الظرف المباشر) وهذه مشكلة يجب على الفاعل تجاوزها. في حين أن دافعاً مثل الجوع يأتي غالباً من الفرد فهو غالباً ما يرتبط بمشكلة في البيئة المحيطة. لنأخذ مثالا آخر، وجود حيوان متوحش خطر قد يشكل دافعاً لفعل الفرد. عموماً، الدافع، مثل كل عناصر نظرية ميد يتضمن الفاعل والبيئة معا.
المرحلة الثانية للفعل هي الإدراك، والذي يبحث فيه الفاعل عن، ويتفاعل مع حافز يرتبط بالدافع، في هذه الحالة الجوع وكذلك مختلف الوسائل المتاحة لإشباعه. للبشر المقدرة على الإحساس بالحافز وإدراكه عن طريق السمع، الشم، التذوق وما إلى ذلك. الإدراك يشتمل على الحوافز والتصورات العقلية التي تنتجها. الناس لا يستجيبون ببساطة ومباشرة للحوافز الخارجية وإنما يخضعونها للتفكير والتقييم من خلال التصورات العقلية. البشر ليسوا موضوعا للمحفزات الخارجية, إنهم يختارون بنشاط مميزات الحافز ثم يختارون من بين حزمة من الحوافز، ذلك أن للحافز عدة أبعاد ويستطيع الفاعل أن يختار من بينها. إضافة إلى ذلك، يقابل البشر العديد من الحوافز المختلفة ولديهم المقدرة على أن يحددوا ما يختارونه وما يتجاهلونه. ورفض ميد فصل البشر عن المواضيع التي يدركونها. إفعل إدراك الموضوع هو الذي يجعله موضوعا لشخص، الإدراك والموضوع لا يمكن فصلهما (ويرتبطان جدليا) مع بعضهما الآخر.
المرحلة الثالثة هي التعامل، فبمجرد أن يعلن الدافع عن نفسه ويكون الموضوع قد أدرك، تكون الخطوة التالية هي التعامل مع الموضوع أو بشكل عام اتخاذ فعل تجاهه. إضافة إلى مزاياهم العقلية، فللبشر مزايا أخرى أفضل من الحيوانات الدنيا. للبشر أياد وأصابع تمكنهم من التعامل مع المواضيع بصورة أكثر مهارة مما لدى الحيوانات الدنيا. فمرحلة التعامل تحتوي بالنسبة لميد على فترة تريث زمنية هامة لكي لا تظهر الاستجابة مباشرة. الإنسان الجائع الذي يرى فطر عيش الغراب (المشروم) قبل أن يأكله يأخذه بين يديه، يتفحصه وربما يرجع إلى أحد الكتب المرجعية ليرى إن كانت تلك الفصيلة قابلة للأكل. الحيوان غالبا ما يأكل عيش الغراب بدون أن يتفحصه (وبكل تأكيد دون أن يقرأ عنه). فترة التريث التي يوفرها فحص الموضوع تسمح للبشر بتمعن مختلف الاستجابات. في التفكير حول أكل عيش الغراب يدخل الماضي والمستقبل معا، وربما يفكر الناس في التجارب السابقة التي أكلوا فيها نوعا معينا من عيش الغراب الذى سبب لهم المرض، وربما يفكرون في المرض في المستقبل أو ربما حتى الموت الذي قد يصاحب أكل عيش الغراب المسموم. التعامل مع عيش الغراب يصبح نوعا من الطريقة التجريبية التي يحاول فيها الفاعل عقليا مختلف الافتراضات عن ما يحدث، إذا أكل عيش الغراب.
على أساس ذلك التريث والتأمل ربما يقرر الفاعل أكل عيش الغراب (أو عدم أكله) وهذا يشكل المرحلة الرابعة والأخيرة للفعل، الإنجاز، أو يشكل اتخاذ الفعل الذي يتبع الدافع الأصلي. ربما يستهلك الانسان والحيوان عيش الغراب، لكن من غير المحتمل أن يأكل الإنسان عيش الغراب المسموم نسبة لمقدرته على التعامل مع عيش الغراب والتفكير والقراءة عن تبعات أكله. الحيوان يجب أن يعتمد على طريقة التجريب والخطأ وهذه وسيلة أقل فعالية مقارنة بمقدرة البشر على التفكير في أفعالهم. التجريب والخطأ في هذا الموقف خطير جدا ونتيجة لذلك تكون الحيوانات أكثر عرضة للموت من البشر بسبب أكل عيش الغراب المسموم.
في حين أنه، ومن أجل تسهيل المناقشة، فصلت مراحل الفعل الأربعة عن بعضها البعض بطريقة متعاقبة، فقد رآى ميد علاقة جدلية بين المراحل الأربعة. جون بالدوين عبر عن هذه الفكرة كما يلي: "بالرغم من أن أجزاء الفعل الأربعة تبدو أحيانا كأنها مرتبطة خطياً فانها حقيقة تكون عملية عضوية واحدة. هناك جوانب من كل جزء حاضرة طوال الوقت منذ بداية الفعل حتى نهايته وكل جزء يؤثر في الآخر" [14]. لذلك، المرحلة الأخيرة من الفعل قد تقود إلى مراحل سابقة. والتعامل مع الطعام مثلا قد يقود الفرد إلى دافع الجوع وإدراك أنه جائع وأن الطعام متوفر لاشباع حاجته.

المبادرات

في حين أن الفعل يتضمن شخصاً واحداً فإن الفعل الاجتماعي يتضمن شخصين أو أكثر. المبادرات كما يرى ميد هي الآلية الأساسية في الفعل الاجتماعي وفي العملية الاجتماعية بشكل عام. وكما عرّفها "المبادرات هي تحركات من الكائن الأول تعمل كحوافز تدعو للاستجابات المناسبة اجتماعيا من الكائن الثاني" [15] . كل من الحيوانات الدنيا والبشر قادرين على المبادرات بمعنى أن فعل فرد واحد يثير بدون تفكير وآليا رد فعل فرد آخر. ما يلي مثال ميد المشهور عن عراك الكلاب فيما يخص المبادرات "فعل كل كلب يصبح حافزاً للكلب الآخر من أجل استجابته. حقيقة أن الكلب على استعداد لمهاجمة كلب آخر تصبح حافزاً للكلب الآخر ليغير موقفه أو سلوكه. وما أن يفعل ذلك فإن التغير في سلوك الكلب الثاني بدوره يؤدي بالكلب الأول لتغيير سلوكه" [16].
وصف ميد ما يحدث في هذا الموقف " بتبادل المبادرات". مبادرة كلب تثير آليا مبادرة الثاني، ليس هنالك عمليات تفكير تجري لدى الكلاب.
يدخل البشر أحيانا في تبادل مبادرات بدون تفكير. وأعطى ميد أمثلة الفعل ورد الفعل التي تحدث فى مباريات الملاكمة والمبارزة عندما يتعامل مقاتل بشكل غريزي مع أفعال المقاتل الآخر. يسمى ميد مثل هذه الأفعال غير الواعية "المبادرات غير الهامة"، وما يميز البشر هو مقدرتهم على استخدام المبادرات الهامة أو تلك التي تتطلب التفكير من جانب الفاعل قبل رد الفعل.
البادرات الصوتية لها أهمية خاصة في تطور المبادرات الهامة، لكن ليس كل البادرات الصوتية هامة. فنبيح كلب تجاه الآخر ليس مهما، حتى بعض البادرات الصوتية البشرية ليست هامة (الشخير مثلا). لكن إنما تطور البادرات الصوتية خاصة في صورة لغة هو العامل الأكثر أهمية الذي جعل تطور الحياة الإنسانية المميزة ممكنا. "تخصص الحيوان البشر في هذا المجال من المبادرة كان مسئولا وبشكل مطلق عن أصل ونمو المجتمع الإنساني الراهن و المعرفة بكل السيطرة على الطبيعة والبيئة الإنسانية التي جعلتها العلوم ممكنة" [17]. هذا التطور يرتبط بخاصية مميزة للبادرة الصوتية. عندما نقوم بمبادرة جسمانية مثل تقطيب الوجه فإننا لا يمكن أن نرى ما نقوم به (إلا إذا كنا ننظر في مرآة). من الناحية الأخرى، عندما نلفظ بادرة صوتية فإننا نسمع أنفسنا كما يسمعنا الآخرون. نتيجة أولى هي أن البادرة الصوتية تؤثر في المتحدث بنفس الطريقة التي تؤثر بها على السامع. ونتيجة أخرى، يكون باستطاعتنا بشكل أفضل إيقاف أنفسنا في البادرات الصوتية أكثر من المبادرات الجسمانية بمعنى آخر نسيطر بشكل أفضل على البادرات الصوتية أكثر من الجسمانية. والمقدرة على السيطرة على الذات ورد الفعل ضرورية، كما سنرى لمقدرة إنسانية مميزة أخرى. بشكل عام "البادرة الصوتية هي التي وفرت وبتفوق الوسيط للتنظيم الاجتماعي في المجتمع البشري" [18].

الرموز الهامة

الرمز الهام نوع من المبادرة يستطيع صنعه الإنسان وحده من دون المخلوقات الأخرى. والمبادرات تصبح رموزا هامة عندما تثير في الفرد الذي يصنعها نفس نوع الاستجابة ( ليس بالضرورة أن تكون مطابقة) التي افترض أن تثيرها من أولئك الذين وجهت المبادرات لهم. فقط عندما تكون لدينا رموزا هامة يمكننا الاتصال الحقيقي. الاتصال في المعنى الكامل للكلمة غير ممكن بين النمل، النحل، وما إلى ذلك. المبادرات الجسمانية لا يمكن أن تكون رموزاً هامة مثالية لأن البشر لا يستطيعون رؤية أو سماع مبادراتهم الجسمانية بسهولة، لذلك فإن الألفاظ الصوتية هي التي غالبا ما تصبح رموزاً هامة، بالرغم من أن ليست كل الاصوات هي رموز هامة. حزمة البادرات الصوتية التي غالبا ما تصبح رموزاً هامة هي اللغة. "الرمز الذي يجيب على معنى في تجربة الفرد الأول والذي يستخرج أيضا المعنى من الفرد الثاني. عندما تصل المبادرة إلى ذلك الوضع فإنها أصبحت ما نطلق عليه (لغة) إنها الآن رمزاً هاماً وتضفي الأهمية على معنى محدد" [19]. في تبادل المبادرات تتواصل فقط المبادرات نفسها، لكن، في اللغة فإن المبادرات ومعانيها تتواصل أيضا.
أحد الأشياء التي تقوم بها اللغة أو الرموز الهامة بشكل عام هو استدعاء استجابة مماثلة لدى الفرد الذي يتحدثها وللآخرين كذلك. كلمة كلب أو قط تثير تصور عقلي واحد لدى الفرد الذي ينطقها ولدى الآخرين الذين وجهت لهم. تأثير آخر من تأثيرات اللغة أنها تحفز الشخص الذي يتحدثها وكذلك الآخرين. الشخص الذى يصرخ (النار) في قاعة مزدحمة هو على الأقل مدفوع لمغادرة القاعة مثل أولئك الذين صرخ فيهم، لذلك فإن الرموز المهمة تجعل الناس محفزين لأفعالهم أنفسهم.
متبعا توجهه البراجماتي نظر ميد في وظائف المبادرات عامة والرموز المهمة خاصة، فوظيفة المبادرة "هي جعل الضبط ممكناً بين الأفراد المشتركين في أي فعل اجتماعي بالرجوع إلى الموضوع أو المواضيع التي يتعلق بها ذلك الفعل" [20]. لذلك فإن تقطيب الوجه المقصود ربما يقصد منه منع طفل من الاقتراب من طرف هاوية وبذلك حمايته من الدخول في موقف خطر. في حين أن المبادرات غير الهامة تعمل، "الرموز الهامة توفر تسهيلات أكبر في الضبط وإعادة الضبط مقارنة بالبادرات غير الهامة لأنها تستدعي في الفرد الذي يقوم بها نفس السلوك تجاهها وتساعده في ضبط سلوكه عليها على ضوء ذلك التوجه. باختصار تبادل المبادرات الواعية أو الهامة آلية أكثر فعالية في الضبط المتبادل ضمن الفعل الاجتماعي مقارنة بتبادل البادرات غير الواعية أو غير الهامة" [21].
من

ملاحظة

* نسبة لتقارب الترجمة العربية لـ "1" و "Me" فإننا نستخدمها كما هي.

من كتاب رواد علم الاجتماع عن موقع أستاذ علم الاجتماع د. عمر عبد الجبار محمد أحمد.
" لقد اعتمدنا في إعداد هذا الكتاب على كتاب Classical Sociological Theory لمؤلفه George Ritzer " ( د.عمر عبد الجبار )

حواشي

[1] جورج هيربرت ميد، العقل الذات والمجتمع، ص.2
[2] جورج هيربرت ميد، العقل الذات والمجتمع،ص.2-3.
[3] نفس المصدر، ص.105
[4] جونرج هيربرت ميد، المصدر السابق،ص.6.
[5] نفس المصدر،ص. 10.
[6] نفس المصدر،ص.26
[7] جورج هيربرت ميد، فلسفة الفعل
[8] جون بالدوين، جورج هيربرت ميد، ص.16.
[9] هيويت جون، الذات والمجتمع،ص.8
[10] لويس وسميت، علم الاجتماع الأمريكي والبراجماتية.
[11] نفس المصدر،ص.24.
[12] ميد العقل، الذات والمجتمع ص 2.
[13] ميد، الفرد والذات الاجتماعية، ص. 28
[14] جون بالدوين، مصدر سابق،ص.56
[15] ميد، العقل، الذات والمجتمع، ص.14
[16] ميد، العقل، الذات والمجتمع، ص. 42-43.
[17] نفس المصدر ص 14.
[18] ميد، فلسفة الحاضر، ص 188.
[19] ميد ، العقل كالذات والمجتمع ص 46.
[20] نفس المصدر ص 46.
[21] ميد، العقل، الذات والمجتمع ص 46.

 
Free Hit Counter Search Engine Submission - AddMe