الاثنين، 23 نوفمبر 2009

مفهوم "الطبيعة" في الفكر الإيكولوجي المعاصر

مفهوم "الطبيعة" في الفكر الإيكولوجي المعاصر

رشيد دحدوح
إن الحقل المعرفي لمبحث البيوأخلاق "" Bioéthique في الواقع واسع وممتد، ولا يمكن حصره فقط في الاعتبارات الأخلاقية والمعنوية التي يلتزم بها الطبيب في تجاربه العلاجية على المرضى وعلاقته بهم، فيما يعرف بـ (الأخلاق الطيبة) (Ethique Médicale) سواء كانت بحوثا أو تطبيقات، وعليه فأينما وجد الإنسان ووجدت التقنية أو التكنولوجيا وتأثيرها، وجدت البيوأخلاق، لا من أجل الحد من غلواء التقنية وكبحها،إنما من أجل أنسنتها وتوجيهها لصالح الإنسان وعدم الإضرار به، ويمتد ذلك المجال الواسع من الاهتمام بالطبيعة والبيئة إلى حدود استعمال التقنيات والتجارب البيولوجية والطبية والعلاجية، وصولا إلى انعكاس ذلك على المجتمع والسياسة، القانون والاقتصاد(1). 
لا شك أن اهتمام الإنسان بالطبيعة والبيئة التي يحيا فيها وبها، ليس وليد الأمس أو الماضي القريب، بل هو قديم،كما أن الاعتراف في المقابل أن هذا الاهتمام ازداد قوة واتساعا منذ عصر النهضة في أوربا (القرن 17) ثم الثورة الصناعية واكتساح التصنيع وتوابعه المحيط الطبيعي أمر لا خلاف حوله.
1- الخلفية التاريخية والفلسفية للإشكالية الإيكولوجية:
نشأت الأيكولوجيا أو علم البيئة الكلاسيكي "Ecologie" على يد البيولوجي الألماني "آرنست هيكل" "A.Haeckel" عام 1866، حيث ظهر المصطلح في كتابه (المورفولوجيا العامة للعضويات) (Morphologie générale des organismes). ويتكون المصطلح من الناحية الاتيتمولوجية (الاشتقاقية) من مقطعين يونانيين "إيكوس" "Oikos" وتعني: بيت او مسكن. و"لوغوس" "Logos" وتعني (عقل) أو (خطاب). أما من الناحية الدلالة الابيستيمولوجية فإنّ موضوع الإيكولوجيـا هو دراسة جملة من المسائل المتعلقة بشكل مباشر بـ :
أ‌-                الأوساط أو البيئات التي تعيش وتتكاثر فيها الكائنات الحية.
ب‌-           العلاقات الناشئة والصلات التفاعلية ما بين تلك العضويات ومحيطها(2).
أما عن الخلفية الفلسفية والابستيمولوجية لهذا العلم الناشئ، فإن الإيكولوجيا ككل علم وضعي قامت على رفض التصورات والإسقاطات الغائية والحيوية خصوصا الميتافيزيقية منها والتي تعتبر الطبيعة كائن حي وجد من أجل غاية "Téléologie" مثلها مثل الإنسان وسائر الأحياء .
ولم تكن - بطبيعة الحال- الروح الوضعية المهيمنة على إبستيمولوجيا النصف الثاني من القرن 19 تسمح إلا بتصور الطبيعة عل نموذج آلي وميكانيكي. وفي هذا لابد من العودة إلى ديكارت مؤسس الآلية وملهم الروح الوضعية الكلاسيكية، فكيف تصور ديكارت الطبيعة ؟
- ديكارت والهيمنة على الطبيعة:   
لقد تأسست الثنائية الديكارتية على التمييز الجوهري بين الفكر والامتداد، الذات والموضوع و هما الإنسان والطبيعة: فالإنسان إنسان بالفكر والوعي لأنه «كوجيتو"، أما ما عداه، فهو قوي ميكانيكية عمياء.
وما دام الأمر كذلك، فإن الإنسان وحده يملك مطلق الحرية في التصرف والهيمنة على الطبيعة وتطويعها عنوة من اجل تسخيرها لصالحه لأنها في صورتها المتوحشة الأولى مستعصية ومتمردة ومعادية للحي والإنسان خصوصا. وعلى ذلك الأساس بشر "ديكارت" بأن هدف الإنسان من خلال إبداع العلوم والفنون والتقنيات والصناعات هو في أن يستولي على الطبيعة ويقوم بتسخيرها لصالحه ونفعه(جعل الإنسان سيد ومالك للطبيعة).
إن هذا المفهوم الديكارتي لا ينطبق فقط على الطبيعة، بل سحبه ديكارت حتى على الجسد الحي بصفة عامة(الحيواني و الإنساني)، حيث اعتبره آلة "Machine " خالية من الوعي و تسير وفق مباديء وقوانين ميكانيكية مستقلة عن الوعي أو الفكر. وهدا يؤسس لمشروعية الفكر والوعي في قيادة هده الآلة والتصرف فيها بحرية. يعلق "كانغيلهم"G.Canguilhem  على الفكرة الديكارتية، حيث يؤكد أن ديكارت فعل بالجسد  الحي ما فعله "أرسطو" بالعبد(3).و دلك عبر إنكار الوعي والإرادة عنهما من أجل تبرير سلبهما كل اعتبار أخلاقي يقيد الفعل البشري ازاءهما.   
وقد حافظت العلوم البيولوجية والطبيعية عند نشأتها وخلال تطورها على هذا المفهوم في صورة الوسط "Milieu" العدواني المتوحش والغير مهيأ للعيش والذي لا تتردد ظروفه وقواه الميكانيكية في تدمير الحي وإلغاء الكائنات الحية.و قد اعتبر جراء ذلك "لامارك" "Lamarck" الوسط قالبا "Moule" يشكل الكائنات الحية ويطبعها عن طريق التأثير فيها وإكسابها صفات وخصائص جديدة تنتقل بالوراثة عبر السلالة والأجيال.
وفي نفس السياق اعتبر "داروين" الوسط الطرف الوحيد- لأنه الأقوى- الذي يضع معايير وقوانين الانتخاب الطبيعي التي تجعل من كائن حي ما مؤهلا أن يبقى ويعيش إذا كان الأصلح ويمتلك الصفات والمزايا التي يطلبها الوسط (4).    
فعصر الحداثة في أوربا تصور الوسط أو الطبيعة على أنها قوة ميكانيكية جبارة، مسيطرة ومعادية للكائنات الحية بصفة عامة وللحي الإنسان بصفة خاصة، وأن الأحياء يعيشون في هذه الطبيعة وسط فوضى عارمة، حيث لا نظام ولا قوانين، و القانون الوحيد هو (البقاء للأقوى، البقاء للأصلح).
إن تطبيقات هذا المفهوم وانعكاساته على علوم ناشئة مثل علم البيئة أو الإيكولوجيا كانت جد مؤثرة ومعتبرة. فقد بادر الإنسان مند فجر الثورة الصناعية في القرن 18 إلى الاستغلال اللاعقلاني والمفرط لثروات الطبيعة وتجاهل نتائج أفعاله على المدى البعيد من أجل مواجهة ظروف الطبيعة القاسية من وجهة نظره.
كما قام بإنشاء صناعات أو تصنيع كاسح وشامل أدى إلى التأثير السلبي والتشويه المخل بالبيئة الطبيعية، لهذا فالإيكولوجيا لم تستطع أن تتقبل فكرة أن مهمتها هي الحفاظ على رمق الحياة في العبد حتى نواصل استغلاله والاعتماد عليه في الأعمال الصعبة والشاقة. وبالتالي لا يمكن الحفاظ على الطبيعة ومن خلالها البيئة إلا بافتراض أن هذه البيئة بمثابة بيت "Domicile" وليس مجرد مأوى «Abri».
2- إرهاصات إيكولوجيا جديدة: 
لقد اتجه الإيكولوجيون المعاصرون مؤخرا، مخافة المخاطر التكنولوجية والصناعات الضخمة والواسعة إلى اعتبار أن كل الكائنات الحية "Biocénose" تشكل والمجال الجغرافي الفيزيائي "Biotope" الذي تحيا فيه وحدة كلية عضوية أطلقوا عليه مصطلح (النظام الإيكولوجي) (Ecosysteme).
أعاد هذا المفهوم الجديد طرح إشكالية علاقة الحي بالوسط الطبيعي الذي يعيش فيه متجاوزا المسلمة الكلاسيكية، القائمة على فكرة الصراع والتحدي إلى تبني فكرة تواصلية واتفاقية تجعل البيئة هي البيت الحنون والأم الرؤوم "Mère nourrissante" التي تسهر على راحة طفلها وتوفر له كل سبل العيش الكريم والراحة: فكيف تتم تلك الوحدة العضوية داخل النظام الإيكولوجي؟!
إن التوازن والانتظام داخل النظام الإكولوجي ينتجان تلقائيا بفضل التفاعل والعلاقات البينية المتواصلة والمستمرة بين الكائنات الحية والطبيعة. فمثلا: تشكل العلاقة بين الحيوانات العاشبة "Herbivore" والحيوانات اللاحمة "Carnivore" آلية ضابطة هي نفسها الآلية التي تنظم العلاقة بين المفترس وفريسته، وبين الآكل والمأكول.
وعن طريق هذه التفاعلات المعقدة والمتداخلة، تنشأ دورات كبرى وأساسية "Cycles fondamentaux" تحوي وتشارك فيها جميع الكائنات الحية من أدنى عضوية حية في الطبيعة مثل النقاعيات "Infusoires" والبكتيريا إلى الحيوانات العاشبة واللاحمة وصولا إلى الطيور ثم الأسماك والمجتمع البحري في البحار والمحيطات.وتتمثل وظيفة هذه الدورات الأيكولوجية المنتظمة والضخمة في تحويل الطاقة الشمسية ، وإنتاج الأكسجين وامتصاص غاز الكربون، وتحويل الهيدروجين، وتهيئة التربة والمناخ والرطوبة المناسبة لنمو النبات ...إلخ. إلى درجة يصبح الارتباط فيها بين البيت الايكولوجي "Niche écologique" وكوكب الأرض ارتباط عضويا، لأن فضاء التفاعل بينهما ودي ويتمتع بالقدرة على الضبط الذاتي والتلقائي(5).
وتجدر الإشارة أن الفكر الإيكولوجي أخذ منحى جديدًا منذ أن ابتكر الكيميائي الروسي "فلاديمير قرنادسكي "V.Vernadsky " (863-1945م) مفهومًا جديدًا لقي انتشارا واسعا بعده وهو "المجال الحيوي" "Biosphère" سنة  1926 كما زاد في ازدراء التصور الكلاسيكي الآلي الذي يركز على العلاقة العدائية، الخارجية والندية بين الحي والطبيعة.
وعلى هذا الأساس أعتبر فرنادسكي المجال الحيوي هو ذاك الجزء الخارجي من القشرة الأرضية الذي تحيا فيه (وليس فوقه) الكائنات الحية مجتمعة (6). ويتوافق هذا دون شك مع الأفكار والنظريات التي تعاقبت فيها بعد والتي اعتبرت المجال الحيوي "بيت" مهيأ ومجهز بكامل الشروط الضرورية للعيش، وصولا إلى هيمنة فكرة علاقة تفاعلية حميمة بين الحي وبيئته إلى الحد الذي ذهب فيه بعض الإيكولوجيين وليس الفلاسفة ورجال الدين، إلى تصور وجود غائية "Téléonomie" تم من خلالها الحفاظ على الحياة من طرف الحياة نفسها. وقد تجسدت تلك الفكرة في صورة نظرية جديدة وجريئة أطلقها رجل العلم البريطاني "جيمس ليفلوك" "J.Lovelock" وهي نظرية "غاية" Gaia فما هو مضمون هذه النظرية ؟!
3- كوكبنا كائن حي: نظرية "غاية " "Gaia":
ليس غريبا أن يعيش كائن حي أو كائنات حية داخل كائن حي آخر، فعلم العضويات الدقيقة "Microbiologie" وعلم البكتيريا "Bactériologie" أكد لنا حقائق تجريبية دامغة عن ملايير من أنواع البكتيريا التي تعيش في أمعاء الكائن الحي خصوصا المعي الغليظ (القولون)، وفي فمه،وأنفه وعلى كامل سطح جلده الخارجي .ومن هذه البكتيريا من هو جد ضروري و فعال لإتمام عمليات الهضم والامتصاص في المعدة والأمعاء.كما يوجد كذلك الضار منها لاشك(7). ومن ثمة فالأرض كائن حي يتغذى ويتنفس وتعتريه أحوال عديدة كالصحة والمرض والراحة والإرهاق...إلخ، وبداخلها توجد كائنات حية أخرى منها الإنسان.ويعد "ج.ليفلوك" عالم متعدد الاختصاصات والاهتمامات من الكيمياء إلى الطب وصولا إلى الإيكولوجيا. وقد فضل الحياة العلمية الحرة عن تلك المقيدة والموجهة في الجامعات .
لقد تصور "ليفلوك" نظريته في نهاية الستينات من القرن 20، من خلال إجابته عن سؤال وجهته له وكالة الأبحاث الفضائية الأمريكية "ناسا" "Nasa" التي كانت تبحث عن أدلة تثبت وجود أو عدم وجود حياة على كوكب المريخ "Mars" حتى تحصل الوكالة على تمويل لمهامها التي أطلقت عليها اسم "فيكينغ" "Viking" فكانت إجابة ليفلوك إنه لا داعي للذهاب إلى غاية كوكب المريخ للتأكد من ذلك لأن الإجابة موجودة على كوكبنا.
إن الغلاف الغازي "Atmosphère" للأرض يحتوي على كمية قليلة من غاز ثاني أكسيد الكربون "Dioxyde de carbone" وكمية جد ضخمة من الآزوت (حوالي 79%) والأكسجين (حوالي 21%).
أما على كوكب المريخ وباقي الكواكب الأخرى فالغلاف الغازي فيها يحتوي على أكثر من 95% من غاز ثاني أكسيد الكربون، وهي نسبة تفسرها التفاعلات الكيماوية العادية التي مسرحها تلك الكواكب(8)، فمن أين حصل كوكب الأرض على ذلك الفارق البعيد عن التوازن الكيماوي العادي والذي كان السبب في استمرار الحياة والأحياء ؟
إن ذاك الفارق، حسب ليفلوك من صنع الكائنات الحية بفضل قدرتها البيولوجية الأيضية "Métabolique" وتبادلاتها المتنوعة مع وسطها الحيوي، فأي ملاحظ بعيد عن الأرض إذا أتاحت له إمكانياته تحليل الغلاف الغازي لكوكب الأرض فإنه لن يتردد في الجزم أن به حياة وأحياء.
ويستنتج ليفلوك أن الأرض كائن حي يجب المحافظة على صحته وسلامته.كما أن الحياة على الأرض لا تفسر فقط بموقعها وبعدها المناسب عن الشمس، بل أن المحيطات والبحار والأراضي الخصبة هي نتاج تاريخ طبيعي منذ ملايير السنين كانت البكتريا والعضويات الدقيقة الغير قابلة للإحصاء هي مهندستها وبطلتها(9).
وتكمن أهمية نظرية "غاية" في اعتبارها المجال الحيوي وحدة كيانية ضابطة تتمتع بالقدرة على المحافظة على سلامة كوكبنا عن طريق التحكم الذاتي في الوسط الكيماوي والفيزيائي، ومن ثمة التأكيد على وجود غائية حيوية هي التي احتفظت بالتوازن البيئي (الفيزيائي -الكيميائي) حيا وملائما من طرف الحياة ذاتها(10). 
وتعتبر فكرة "غاية" أن التصور الكلاسيكي الذي يعتبر الكائن الحي مستهلكا شرها لمواد وعناصر من البيئة هي في الأصل قابلة للنفاذ والنضوب، فكرة مجانبة للصواب تماما، لأن الدورات والسياقات البيولوجية للعضويات الحية تتولد عنها دورات طبيعية ومسارات تسمح للمحيط والأرض والغلاف الغازي بالتجدد والتوازن باستمرار. فمثلا بقاء الأكسجين مركزا في المحيطات وفي الغلاف الغازي كان نتيجة تفاعل معقد فيما بين الأحياء. وفي المقابل يكون نوع من الأنواع الحية النباتية أو الحيوانية معرض لاحتمال الانقراض إذا كف عن المساهمة في إنتاج شروط الحياة مع باقي الأحياء التي يتقاسم معها الوسط وموارده الكثيرة.
إن هذا الكائن الحي الذي يحتوينا حساس جدا لأحوال الصحة والمرض ويملك- للحفاظ على توازنه- جهازا دفاعيا ومناعيا فعالا.يظهر ذلك حين تتراكم الأفعال المخلة بالتوازن العام للبيئة والمجال الحيوي، فتقوم الأرض-حينئد- بردود أفعال عنيفة أبرزها التغيرات المناخية الكبرى، والأعاصير الهوجاء والعواصف المدمرة...إلخ، والتي ينتج عنها انقراض أنواع حية معينة وبقاء أخرى (11).    
ومع أن ليفلوك لم يقل بشكل مباشر أن الأرض كائن حي واع إلا أن نظريته تعرضت لانتقادات واسعة من طرف زملاء له وحتى من طرف فلاسفة ومفكرين من خارج الحقل الإيكولوجي. فالحداثة كانت واقعا فعليا في حياة البشر حين تمكن الإنسان من تحطيم الأصنام والمعبودات المعيقة لحريته وعمله، فيكف يعود من جديد وباختياره إلى صنع معبودات جديدة مثل الأرض هنا؟
إنّ ذلك سيمثل تقهقرا ثقافيا وفكريا إلى عهود لا تتمنى الإنسانية عودتها ولو في الأحلام. كما أن التصور الذي يجعل الأرض والطبيعة أو البيئة متوازنة ومتناغمة بدون الإنسان وأنشطته التقنية أو الاعتقاد على طريقة "روسو" أن الطبيعي "Naturel" خير بالطبيعة: لقد غدا هذا التصور كلاسيكي جدا وهو يعتمد على أسطورة "برميروس" "Prométhée" الذي سرق النار من الآلهة وتعهد بعصيان كل الأوامر الإلهية من أجل التحرر والانعتاق. فكأن "غاية" "Gaia" في مقابل "برميروس" أي التقابل بين الخير والشر بمعنى التناقض بين الإيمان بالطبيعية الأم الرؤوم، وحدها الخيرة ومكتملة الخيرية، وبين نوازع الشر في الإنسان التواقة إلى التحكم والسيطرة على النار ومن بعدها على كل شيء .
ومع أن الأبحاث الإيكولوجية المعاصرة لم تشكك في فكرة ليفلوك الأساسية بالتشابك العلائقي بين العوامل والعناصر الطبيعية من جهة والحية من جهة أخرى، إلا أنها اتجهت أكثر إلى التدقيق في هذه الارتباطات المعقدة عوض الوقوف على سحرها المتناغم. لهذا دأبت الإيكولوجيا المعاصرة على التأكيد أن ما نعتبره نحن منفصلا ونخصص له مباحث علمية مستقلة: الأحياء الأراضي الخصبة، والغلاف الغازي، والمناخ ،و المحيطات ...إلخ. إنها في الحقيقة متصلة بعلائق تشابكية مركبة. فالنماذج التفسيرية في علم المناخ مثلا أصبحت تعتمد على التركيب التو ليفي "Composition combinatoire» بين جملة غير متجانسة من العناصر والتفاعلات مثل المحيطات والسحب، والمتلوثات والغابات...إلخ. وهو ما يؤكد الفرضيات الأساسية في نظرية ليفلوك.
وردًّا على ذلك عمد ليفلوك منذ 1988 إلى اعتماد "غاية" مصطلح أو تسمية دون التأكيد على قداستها أو تميزها المفرط، كما كان يفعل من قبل. ونتيجة لذلك راح يؤكد على أهمية الأبحاث الأيكولوجية التي تتفق على تشابك وتداخل العناصر الطبيعية مع عناصر أخرى طبيعية في دورات، ومثاله المفضل الذي يقدمه دائما كنموذج هو (عالم زهرة الربيع) (Monde des Pâquerettes). فأزهار هذه النبتة تنمو بالتزاوج مع الحرارة الملائمة على نمطين مختلفين: فالأزهار السوداء تمتص الضوء، والبيضاء تعكسه، وهذا الوضع يجعل كثافة الأزهار وثخانتها مرتبطة بشدة الضوء ودرجة الحرارة المستقرة نسبيا.
إنّ هذا المثال، حسب ليفلوك يبين الدور الذي يلعبه الأحياء في ظاهرة طبيعية كانت تعتبر على الدوام مسألة فيزيائية –كيميائية مستقلة عن تأثير الكائنات الحية. وعليه ينتهي ليفلوك إلى طرح سؤال أعم مفاده: لماذا رغم تزايد شدة الإشعاع الشمسي عبر العصور الكونية، بقيت درجة حرارة الكرة الأرضية ثابتة نسبيا؟ يريد ليفلوك من خلال هذا السؤال التأكيد على الدور الحيوي والكبير الذي يلعبه الأحياء جميعهم في الحفاظ على توازن "غاية"(12).
لقد أتينا على هذا التفصيل النسبي كي نبين المفهوم الجديد الذي أصبح يعطي للبيئة والطبيعة والذي ينأى بعيدا عن التصور الكلاسيكي المجرد الذي يختزل العلاقة في ثنائية ديكارتية: فكر-امتداد أو كانطية: ذات-موضوع. ويلح -في المقابل- على العلاقة التفاعلية الحميمة بين الحي وبيئته إلى الحد الذي يجعل من الأرض والطبيعة والبيئة المحيطة بنا بيتا ومسكنا بسقف وأعمدة، يوفر للأحياء جميعهم الأمن والأمان والراحة والطعام.
إذا كان الأمر بهذه الكيفية، فكيف يتصرف الحي والحي الإنسان تحديدا حيال بيته الذي يأويه؟ إذا كان سلوك الأحياء الأخرى تجاه بيئتها محكوم بحاجات ومطالب غريزية طبيعية، فما هي المعايير والقواعد التي تنظم وتقنن سلوك الكائن الواعي (الإنسان) تجاه بيته الكبير؟ إن ذلك بدون شك يفرض قيام أخلاق بيئية: فما هي أسس هذه الأخلاق الجديدة؟ وقبل ذلك ما هو فحواها ومضمونها؟
4- الأخلاق البيئية:
يطلق عليها كذلك " الإيكو فلسفة" أو" الإيكو أخلاق" وهي مبحث معاصر يبحث في معايير السلوك الإنساني تجاه الآخر Autrui ولا يقصد بالآخر أو الغير الكائنات الإنسانية العاقلة فقط، بل جميع الكائنات الحية الأخرى من حيوان ونبات وحتى الطبيعة الجامدة. وبالتالي فالأخلاق من وجهة النظر المعاصرة لم تعد مكانيا وجغرافيا وقفا على الإنسان، إنما تتعداه إلى الغير والآخر مهما كان. ثم زمنيا لم يعد المعيار الخلقي يراعي الكائن الحي كغاية ثابتة في ذاته في اللحظة الراهنة أو الحاضرة، إنما الفعل الإنساني  Agir humain  يجب أن يأخذ بعين الاعتبار النتائج المستقبلية وترتباتها على الأحياء والطبيعة في المستقبل كما فصل ذلك «هـ.جوناس".
فالمشكلة بالنسبة لـ 'جوناس' تختزل المسألة كلها في مخاطر الفعل التقني الإنساني الذي تكرس وازداد تأثيرا مع التطور النوعي للتكنولوجيات المعاصرة سواء على بيئته أوعلى الأحياء المجاورة له، أو حتى على بيئته البيولوجية والفيزيولوجية. لهذا لم يعد للأخلاق الكانطية القائمة على الواجب من أهمية ولا فعالية في حماية الحياة والمحافظة على الجنس البشري في وجه المخاطر الفعلية المحدقة به والتي لا يمكن تحديد طبيعتها أو توقعها. على هذا الأساس يؤكد جوناس أن الأخلاق الجديدة هي تلك التي تراعي صالح الفرد وسعادته حاضرا ومستقبلا. ثمّ إذا كانت الأخطار المستقبلية محتملة ومحدقة فإن الخوف الغريزي للجنس البشري على بقائه هو الذي يمكنه من تفاديها. فالشعور بالخوف من مخاطر التقنية هو الذي يجعل الإنسان (أفرادا أو جماعات ) يشعر بالمسؤولية تجاه مصير الأجيال المقبلة والنوع البشري بصفة عامة. و استجابة لذلك ظهر في أواخر السبعينات مبدأ (الحيطة والحذر) P .Précaution  في مجالات السياسة والاقتصاد والبيئة والصناعة. ويلخص مبدأ الحيطة في التأكيد على أن غياب مخاطر مؤكدة وحقيقية في اللحظة الراهنة نتيجة التطمينات العلمية والتقنية في مجال معين لا يمنع بتاتا من المبادرة إلى اتخاذ إجراءات وقائية واحترازية فعالة ومناسبة من خطر ما قد يحدث تأثيرات كارثية على المحيط البيئي لا يمكن تداركها.
إن الأخلاق البيئية لن يكون موقفها من التقنية و التكنولوجية مستندا إلى أسطورة "برميتوس" Prométhée الذي سرق سر القوة من الآلهة (النار) فاستحق بذلك أن يوصف بالشيطنة لأن هذا التوجه المتعصب ضد التقنية نجده لدى أنصار (الإيكولوجيا العميقة) Ecologie profonde الذين يصنفون التقنية وكل ما يمت لها بصلة على أنها شر مستطير يجب الخلاص منه.
كما تجدر الشارة إلى إن الأخلاق الإيكولوجية مرحلة جديدة بلغها الوعي البشري المدرك لواقعه المعاصر المختلف تماما عن واقع أسلافه القدماء، حيث لم يعد الإنسان بفضل العلم والتقنية قادرًا على فهم الطبيعة وتفسيرها فقط، بل وقادر فعلا على وإعادة تشكيلها ضمن صور جديدة مما يستدعي ضرورة الاعتماد على معايير وقيم من أجل تقنين الفعل البشري، و هذا ما لا ينكره حتى أشد المتحمسين للتقنية والتكنولوجيا أمثال "ف، داوغوني" و "ج، هوطوا" و قبلهما "ت.انجيلهارد".
لكن مصطلح "أخلاق بيئية" يعود في أصله الاشتقاقي إلى الفيلسوف الأمريكي المعاصر (أ.ليوبولد) Aldo Léopold في كتابه 'A Sand County Almanac' المنشور عام 1949. ففي هذا الكتاب ينتقد «ليوبولد" المفهوم الذي يجعل الطبيعة مجرد أداة في يد الإنسان يعبث بها ويعيث فيها كيف شاء له، ويدعوه في المقابل إلى تغيير جذري لهذا المفهوم التبسيطي الغريب: إن الطبيعة ليست شيئا خارجيا أو مستقلا عن الإنسان أو عن الكائنات البشرية، بل هي منظومة مترابطة من الأجزاء المتعلق بعضها ببعض بوشائج حيوية تجعل الكائنات البشرية ليست مجرد أجزاء أو قطع منفعلة من هذه المنظومة. ولهذا السبب يجب الاعتراف بقيمة ذاتية لجميع العناصر المكونة لهذه المنظومة وليس الاعتراف بقيمة للإنسان وحده على حساب الكائنات الأخرى مهما كانت .
إنّ هذه الفكرة تقلب الأخلاق الكلاسيكية رأسا على عقب، لأنها لم تكن تهتم بتقنين وأخلقة الفعل البشري إلا عندما يتعلق الأمر بالكائنات البشرية الواعية الأخرى. لهذا يجدر التساؤل: هل الإنسان وحده هو الأهل للاحترام والاعتبار الخلقي؟ هل الواجبات الأخلاقية هي كذلك حيال الكائنات البشرية فقط؟ ألا توجد كائنات ذات قيمة أخلاقية في ذاتها هي الأخرى أهل للاحترام؟
مع أن رفض المعاملة القاسية للحيوانات ليست وليدة المرحلة الراهنة لأننا نجدها حتى لدى القدماء مثل اليونان، والمسلمين وفي القرون الوسطى، فإن توسعة المنظومة الأخلاقية مكانيا كي تشمل جميع الكائنات الحية خصوصا، لأنه كما للإنسان حقوقا فكذلك للحيوانات حقوقا كذلك للنبات والغابة. ثم زمانًا يجب أخذ مصير الأجيال المقبلة بعين الاعتبار في كل القرارات التقنية المصيرية. ومن الإيجابيات الكبرى لعصرنا أن المتطلبات الإيكولوجية لم تعد قضية أخلاقية فقط، بل قضية اقتصادية وسياسية أيضا تقوم على هاجس البحث في السبل الكفيلة لتمكين الإنسان من تصنيع وإنتاج سلعة بأقل التكاليف المالية وأكثر تقانة وبأقل استنزاف للثروات والاستهلاك المفرط واللاعقلاني للطاقة و المصادر.
خلاصة القول أن الطبيعة في الفكر الايوكولجي المعاصر لم تعد مجرد ساحة أو مسرحا يتلقى منفعلا الفعل البشري، بل منظومة حيوية من العلاقات تتأثر ويمكن للإنسان أن يقضي عليها إذا تمادى في استغلالها والاعتداء السافر عليها. وبالتالي فالفكرة الديكارتية الكلاسيكية التي تستعدي الطبيعة وتجعل التعامل معها صراعا ومغالبة لم تعد مقبولة، حيث كيف نتصور الإنسان يتصارع مع الطبيعة وهو الذي لا يستطيع العيش دونها؟  إن الأرض هي الكوكب الذي يتوفر على شروط مناسبة لاستمرار الحياة لهذا على الإنسان إعادة التفكير والتأمل مليا في علاقته بالطبيعة وبقية الأحياء و أن يعيد النظر بالكامل في مكانته في الطبيعة و علاقته بمخلوقاتها.  



 هوامش:

1- G. Hottois, Qu'est-ce que la Bioéthique, Paris, J.Vrin, 2004, P.16.    
2- G.Hottois et J-N.Missa, Nouvelle encyclopédie de bioéthique, Bruxelles, De boeck université, 2001,
 
Free Hit Counter Search Engine Submission - AddMe