الخميس، 19 نوفمبر 2009

متى تنحسر ثقافة القطيع؟ / هشام العوضي

الذين يتحدثون عما يسمى بـ«ثقافة القطيع» يختزلون الظاهرة في معناها السياسي الصِرف، علما بأن للتعبير مدلولا اجتماعيا أيضا يتعلق بتركيبة المجتمع، أيا كان وضعه السياسي. فالمعنى السائد من «ثقافة القطيع» هو انسياق مجموعة من الناس، سمعا وطاعة عمياء، وراء زعيم أو قائد، تماما كما تنساق الخراف لراعيها. ومن هذا المعنى السياسي تولدت تعابير مشابهة مثل «الاستبداد» و«التسلط» و»الديكتاتورية»..الخ. وهذا المعنى السياسي هو ما أريد أن أتجاوزه، وأطرح بالتوازي معنى آخر، وأنا أتكلم عن ثقافة القطيع.
في بلداننا، الذي تحضر فيها بقوة العائلة، والطائفة والقبيلة، يحلّ المجتمع في استبداده وتسلطه وديكتاتوريته محل القائد والزعيم. تصبح ثقافة القطيع عندئد حالة سياسية، وإنما اجتماعية مطلقة، تدفع في اتجاه معين، بوعي منهم وبغير وعي، برضاهم أو رغما عنهم. وتجليات ذلك الانسياق في أوطاننا كثيرة، وأتكلم عن أبسطها.
الموضة، مثلا، في الأزياء، والأثاث، والسيارات، وتصميم المرافق والبيوت، وفي الأفكار والآراء والتعابير لها قصص طريفة في بلداننا. فمنطق انتشارها في مجتمعاتنا يختلف عن منطق انتشارها في المجتمعات التي تصدِّر الموضة لنا.. عندما تخرج تقليعة جديدة في الغرب تأخذ وقتا ومراحل حتى تنتشر، وتتحول إلى حالة شائعة، لكنها لا تصبح مطلقا حالة عامة. لأنه تظل هناك شرائح في المجتمع تشعر بحريتها في الاختيار والمفاضلة بين ذوق وآخر. ولذلك ليس في هذه المجتمعات «موضة» واحدة، وإنما تقليعات لا أقول لكل الأعمار، بل حتى داخل الفئة العمرية نفسها.. ففي المجتمعات التي تتفوق فيها سلطة الفرد على سلطة الجماعة، تنحسر «ثقافة القطيع» في استهلاك سلعة واحدة، والانسياق تاليا وراء تقليعة واحدة.
في مجتمعاتنا الأمر يختلف تماما.. عندما تخرج تقليعة جديدة، ويروج لها إعلان عبر ممثل في فيلم، أو مغنية في فيديو كليب، فإنها تنتشر في اليوم التالي بين جميع أفراد شريحة عمرية أو ثقافية واحدة، انتشار النار في الهشيم. ويتحول كل من لا تستهويه الموضة الجديدة، سواء كانت في رنة هاتفه النقال، وماركة عطره أو تصميم حقيبتها وقصة شعرها، إلى متخلف عن ركب الموضة، أو تحديدا عن قطيع التقليعة الجديدة.
المجتمع العربي يضبط حركتك ويضعها تحت ضوء المراقبة والتقييم باستمرار. وهذا ليس سيئا دائما بل نحتاج إليه أحيانا. فمفهوم الحارة والفريج في الماضي، بشوراعه الملتوية، وبوابته التي تقفل بالليل، كان في غياب الدولة أو ضعفها، يوفر حالة من الأمن للناس. فكان المجتمع يفرز ميكانيزمات ذاتية من الضبط الاجتماعي لمنع دخول الغريب، وتعزيز حالة من التكافل الاجتماعي بين الجيران. وكانت حالة الاحتكاك اليومي بين الناس في المرافق العامة، في المساجد والكنائس والأسواق، تسفر عن شراكات في النسب والمصاهرة والتجارة. وكان الضبط المجتمعي في هذه الحالة يؤدي دورا إيجابيا للفرد.
ولكن المشكلة عندما تتمدد سلطة المجتمع، وتخترق فضاء الفرد، وتنتهك ذاتيته، وتحل محل عقله وقلبه وروحه واحيانا جسده، في اتخاذ قراراته نيابة عنه.. فلا يرى الفرد إلا ما تراه أسرته، وقبيلته أو من ينتمون إلى طائفته، أو حتى وطنه. وإن لم يفعل اتُّهِم في انتمائه ووصم في أحسن الأحوال بأنه «يغرد خارج السِرب». والسِرب بالمناسبة مجرد تعبير ألطف من تعبير القطيع، لكن بالمعنى نفسه. وكأن المجتمع في سياق تسويغه لسلطته يقول لك «كن مثل الطير في سربه إن لم يعجبك أن تكون مثل الخروف بين القطعان»!
ومن ثقافة القطيع، التي تنتجها سلطة المجتمع على الفرد، تنشأ في أوطاننا قيم وممارسات سلبية مثل التقليد، والحسد والغيرة. والتقليد، وهو بالمناسبة من القلادة، التي تطوِّق عنق الانسان واحيانا عقله، لا يكون في الفقه والعبادات فقط، وإنما في المعاملات وأنماط المعيشة، وطريقة الانفاق والاستهلاك. والغيرة الذي تدفع الناس قسرا إلى المنافسة غير الشريفة، وتضطر أكثر من 400 الف إلى الاقتراض من أجل أن يشتري ويبني ويسافر مثل جيرانه ورواد ديوانيته!!
ومع حالة المد في ثقافة القطيع، تكون حالة الجزر في ثقافة الاجتهاد والإبداع. ونسمع في أيامنا كلاما كثيرا عن الإبداع أكثر مما نراه أو نلمسه، فهو شعار أكثر منه واقع. وكنا نعتقد أن وجود هذا التفجر المعلوماتي والإعلامي في الفضائيات والصحف (16 صحيفة يومية في الكويت) سيصنع فضاءات وفرصا للابداع والتجديد، فإذا صوت كاتب رأي هو في مجمله مجرد صدى صوت وفكر لبقية الكتاب آخرين، ما يذكر بحالة الاجتهاد والتقليد في الزمن الإسلامي.
فلما انسد باب الاجتهاد في الفقه في القرن الرابع، حصل تفجر غير طبيعي في مصنفات الفقه، لكنها جميعها كانت تدور حول فلك مذهب من المذاهب، وكانت أقرب ما تكون إلى حواشي وتفاسير أكثر منها إلى حالة من التجديد والإبداع. وهذا هو الحادث اليوم: تفجر غير طبيعي في الفضائيات والصحف، لكنه يدور في فلك من الأفكار والأطروحات المستهلكة، يعاد تدويرها من قناة إلى قناة ومن صحيفة إلى صحيفة.
تمنياتي أن يأتي علينا زمن، لا أقول تنتهي فيه ثقافة القطيع، فهي باقية ما بقي بشر، ومجتمع ودولة، وصراع قوى على البقاء والسيطرة، وإنما تنحسر وتتحول إلى ثقافة هامشية، مقابل ثقافة الإبداع والتفكير والنقد.. وليست هذه دعوة إلى إلغاء حالة الضبط الاجتماعي، مطلقا، وإنما هي محاولة فقط لمنعه من التمدد الزائد وإصابة عقولنا وأرواحنا وأجسادنا بحالة من الاختناق.
عن جريدة أوان الكويتية
 
Free Hit Counter Search Engine Submission - AddMe