الخميس، 26 نوفمبر 2009

هل البيض أم السود هم أهل النار؟

بقلم محمد شرينة

بسهولة يمكن أن نصل إلى نتيجة مذهلة وهي: إذا كان الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء ومع ذلك المهتدي يدخل الجنة والضال يصلى السعير، فان هذا يكافئ أن الناس يخلقون بيضا أو سودا بغير إرادتهم ثم يذهب السود إلى الجنة لأنهم سود بينما يصلى البيض النار فقط بسبب بياض بشرتهم. أما إذا كان الناس يتوصلون إلى الحق عن طريق تفكيرهم ويعتنقوه بإرادتهم الحرة فهناك أمر عجيب آخر هو أن معظم إن لم يكن كل البشر الذين يفكرون ويملكون إرادة حرة غير مسلمين! هذا التناقض هو المسئول عن فصام الشخصية الذي لا يزال يعيشه المسلمون. فالمدنية الحديثة التي يرغب المسلمين في أخذ تطورها التكنولوجي دون مظاهرها الأخرى غير قابلة لأن تتجزأ، لأن التكنولوجيا ليست إلا أحد وجوه أو مظاهر المدنية الحديثة.
الغريب هو أن المسلم العادي يعتمد في غذائه ودوائه وكسائه وسكنه وتنقله على ما أبدعه الفكر الغربي، بل حتى في علوم السياسة والإدارة والقانون لم يعد هناك مسلم(إلا ما ندر) يجادل بعدم نجاعة معارف الغرب، من الكمبيوتر الذي يستخدمه المسلم يوميا إلى السيارة والكهرباء والأدوية والهاتف وحتى الرياضة والعلاج النفسي والدساتير ونظم الإدارة. المسلم المعاصر يعتمد بشكل كامل على نتاج فكر الغرب بل يسعى لأن يتعلم في جامعات الغرب ويتعالج في مشافيه ويهاجر إلى دوله، وهذا كله معروف وعادي لكن المحير في نظرة المسلمين المنشطرة والمتناقضة للغرب هو: إذا كان الغربي يملك كل هذا الذكاء وهذه المعرفة المتفوقة وطرائق التفكير المتطورة التي قادته إلى تحقيق كل ما سبق والذي لا يمكن لأي مسلم إنكاره، فكيف يمكن أن نجمع بين ذلك وبين كون الغربي شديد الغباء لدرجة أنه لا يهتم لمصيره الأبدي السرمدي، للنار التي سيصلاها خالدا فيها؟ هذا شيء لا يمكن فهمه خاصة إذا عرفنا أن الغربيين على الأقل الكثير منهم، مطلعين على النصوص الدينية الإسلامية وغير الإسلامية بشكل كبير.
ليس هناك إلا جوابين فاشلين لحل التناقض السابق:
الأول أنهم – الغربيون - يحبون العاجلة ويذرون الآجلة وهذا الجواب شديد البعد عن الواقع فهم أكثر اهتماما بالآجلة بكثير من المسلمين، يدخرون لشيخوختهم بل للأجيال القادمة، بل هم تقبلوا أن يلحقوا ضررا باقتصادياتهم في الحاضر الحالي ليجنبوا اقتصاداتهم والعالم مشاكل في المستقبل(الآجلة). وأوضح مثال هو معالجتهم لمشكلة ارتفاع حرارة الأرض مع إنها غير مؤكدة، فهناك نظرية علمية مدعومة بشكل كبير مؤداها أن الارتفاع الحالي في حرارة الأرض ليس ناتج عن انطلاق غاز ثاني أكسيد الكربون بل هو أحد دورات تغير حرارة الأرض الطبيعية التي تثبت المعطيات الأحفورية أن الأرض لم تزل تتعرض لها منذ القدم. كيف يمكن التصديق أن هؤلاء الذين ألزموا أنفسهم عملا لا قولا بإجراءات مؤلمة طبقوها فعلا في الحاضر، لتجنيب العالم مستقبلا ضررا مفترضا وليس مؤكدا، يحبون العاجلة ويذرون الآجلة!!!
الجواب الثاني هو: أن الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء، لكن هذا جواب فارغ، فإذا كانت هدايتنا أو ضلالنا بيد الله لا بأيدينا، ومع ذلك يثيبا أو يعذبنا الله وفقا لذلك ، فان المسألة بعد حذف التعقيد المقصود منها تؤول إلى أن الله وبغير أي مبرر يعذب من يريد ويثيب من يريد، الهدى والضلال المحتم علينا في هذه الحالة كلون بشراتنا فالأبيض إلى الجنة وما له من فضل في بياض بشرته والأسود إلى النار وما عليه من ذنب في سواد بشرته. أليس هذا نفسه فكر الذين يميزون على أساس العرق أو الجنس مما يعني أن التمييز على أساس الدين مطابق تماما لأشكال التمييز الأخرى؟ فالقول مثلا أن البوذي يصلى النار بينما المسلم يدخل الجنة لا يختلف في شيء عن القول أن الأسود يصلى النار بينما يدخل الأبيض الجنة أو العكس.
لا أحد يصف من يميز على أساس العرق أو الجنس بالمتحضر، ولما لم يكن هناك فرق بين التمييز على أساس العرق والجنس وبين التمييز على أساس الدين، فالشخص أو الثقافة والأمة التي تفعل ذلك هي همجية، فإذا كان الله مصدر الخير الأكبر في العالم فكيف يمكنني أن أقبل وصفه بهذه الصفة؟
بكل صراحة هذا الإله الموصوف آنفا هو مصدر الشر الأول، وشاء من شاء وأبى من أبى فأنا أعبد الله وأحبه، ولكن الله الذي هو مصدر الخير بل عين الخير.
نعم بإمكاننا أن نكون متحضرين ومع ذلك نكون ملحدين أو مؤمنين أو محايدين ولكن ليس بإمكاننا مطلقا أن نكون متحضرين فيما نعتقد أن كل البشر سيصلون نارا خالدين فيها، لأن الحظ شاء أن يكونوا سودا وليس بيضا، فما دام كون المرء مهتد للدين الحق أو ضال، هو أمر لا حيلة له فيه كما بينت آنفا، فهو كلون جلده الذي ليس له فيه من حيلة.
كما أوضحت في مطلع المقالة؛ القول أن هؤلاء الكفرة لا يعرفون الحق، مع أننا نعترف قولا وعملا بكل وضوح بتفوق ذكائهم وفهمهم للعالم في جميع المجالات، فهو ليس أكثر من السخافات التي نخفي خلفها إفلاسنا التام. دعنا نقرأ ما يقوله المسلمون عن بعضهم البعض، كل منهم يصف الآخر بالتخلف، بل كل منهم يقر بذلك على نفسه وها هم المسلمون يتسابقون في تعلم وتبني أفكار الغرب في الطب والهندسة والسياسة والإدارة والاقتصاد وكل شيء، فهل هؤلاء الذين نتعلم منهم كل شيء أغبياء، إذا قلنا ذلك فان المسألة كحالة الطفل الذي لا يفهم ما يقوله الراشد فيصفه بالغباء ولكن الغبي حتما هو ليس الراشد. أما أن يكونوا يعرفون الحق ولا يتبعونه فهو اشد سخفا، فهم الذين يخططون لمستقبل أفرادهم وأجيالهم ويتحملون كثيرا من الصعاب ويقدمون تضحيات هائلة في الحاضر من أجل المستقبل، كما أسلفت في مثال القوانين التي يسنونها يوميا لمنع ارتفاع حرارة الأرض مع أن هذا الارتفاع ظني وليس يقيني، قبل ذلك تكبدوا تكاليف كبيرة لمنع استخدام مركبات الفلور الملوثة للبيئة وقبلها منعوا الكثير من المبيدات الحشرية الشديدة النفع كال د. د. ت. وشبيهاته لأن له تأثيرا ضارا على البيئة في المدى البعيد، وهذه القائمة طويلة للغاية لا يمكن حصرها، أعني قائمة الإجراءات التي طبقها ويطبقها الغرب لحماية الآجلة على حساب العاجلة. كيف يمكن أن يتكبدوا تضحيات كبيرة لمنع ضرر مستقبلي غير يقيني محدود، ويمتنعوا عن فعل ما يُنجيهم من عذاب أبدي؟!!!!!
لم يبق إلا العودة إلى القول: أن من يضلل الله فلا هادي له، وهو ما يكافئ تمما القول: أن من يسود الله بشرته فلا مبيض لها، والأبيض إلى الجنة والأسود إلى النار.
لن أقول أنني لن أعبد هكذا اله لأنه لا يمكن أن يكون هناك سفاح بهذه الصفة، فكيف يكون الإله متصف بهذه الصفة جل وتعالى الله عن هذا.
في الواقع إذا عصرنا أدمغتنا أكثر يبقى أمام المسلمين حل وحيد للمعضلة أعلاه، حل في الواقع ليس غير الحلين السابقين وإنما مزيج منهما ومن الإغراق في العدمية والغيبية والعداء المطلق للبشرية من حيث هي بشرية، هذا الحل الأخير يقوم على أن البشر بطبعهم ضالين إلا من هدى الله، الحل يقول: إن التقدم الدنيوي أمر تافه وغير ذو صلة بالحكمة الحقيقية لذلك لا عجب أن ترى الأمم المتقدمة دنيويا ضالة عن الحق وهذا الجواب له تكملة لا بد منها هي: أنه حتى المسلمين اهتدوا إلى الحق بمشقة وبتوفيق الله ولذلك عليهم أن يحافظوا على هذه النعمة ولا يلتفتوا إلى كل هذا الزخرف الدنيوي الزائف وكل ما يقوله هؤلاء الضالون الكفرة. على المسلمين أن يجاهدوا من أجل الهداية غير الطوعية لأولئك الضالين فالدخول في الحق أمر شاق يتطلب في معظم الأحيان فرضه فرضا على من يتبعون أهواءهم كما حصل حين تم فرض الهداية على آباء المسلمين الحاليين والتي ينعم بها أبناءهم حاليا ويشكرون عليها. فالإنسان بطبعه ضال وميال للضلال إلا من رحم ربي. لا بد هنا ليس من نزع الثقة عن الغرب وحضارته بل عن الإنسان من حيث هو إنسان! بالطبع هذا هو التفسير الأخير الوحيد الممكن، هذه هي المعضلة التي سيطرت على المسيحية لقرون طويلة ولم يتقدم الغرب المسيحي حتى تحرر منها، ببساطة ازدراء قدرة الإنسان وحكمته، هي فكرة الخطيئة الأصلية المسيحية وبالتالي كل إنسان هو سيئ وضال إلا القلة التي ينقذ الله، ليس مهم إن كان هذا صحيحا أم لا، لكن المهم أنه مع تبني هكذا نظرة يجب علينا الاعتراف بصواب الأصولية الدينية القائمة على الجمود الفكري في زمان معين في الماضي؛ فمع انعدام الثقة بالإنسان تنتهي جميع أشكال العقلانية وكل حديث عن العقلانية بعد ذلك ليس أكثر من محاولة للتعمية على البسطاء. هذا التفكير يقود إلى نتيجتين:
أولا: ضرورة فرض الإسلام على العالمين بشتى السبل.
ثانيا: الاستمرار في فصام الشخصية الذي يعيشه المسلمون فهم يعتمدون على الغرب في الصغيرة والكبيرة من شؤونهم ويحتقرونه في قلوبهم ومعلوم أنك لا تستطيع أن تتبنى أفكار من تحتقره، لذلك فشل ويفشل وسيظل يفشل المسلمون في أي محاولة للتحديث لسبب بسيط هو أن الحداثة منتج لذلك الغرب الذي يحتقرونه. أما السخافة التي تقول نأخذ منهم ما يهمنا وندع غير ذلك فلا تستحق بالإصغاء إليها، ليس فقط لأن الحضارة هي منتج واحد تأخذه كله أو تتركه كله، بل لأن ما يظن المسلمين أنه قشور الحضارة الغربية مثل الحرية الدينية وحرية المرأة والحرية الجنسية هي الجوهر المولد للحضارة الغربية، هذه الحضارة التي إحدى مظاهرها – الحضارة الغربية – هي الثورة الصناعية والتقدم التكنولوجي.
في النهاية لنحاول الإجابة على السؤال التالي على ضوء ما سبق : هل الإسلام هو سبب تخلف المسلمين أم هناك سبب أو أسباب أخرى؟ ليس صعبا أن نتبين أن الإسلام القائم على احتقار الفكر الحديث هو السبب الأصلي في تخلف المسلمين وأعني بالسبب الأصلي الذي تتفرع عنه بقية الأسباب، فهل الإسلام الذي أعتنقه أنا وأنت يحتقر الفكر الغربي؟ قبل الإجابة على هذا السؤال دعنا لا نكذب على أنفسنا ونُقَسِّم الفكر الغربي إلى تكنولوجيا وثقافة، ولنكن متيقنين أن التكنولوجيا هي أصغر مواليد الفكر الغربي عمراً كما أنها الوليد الشرعي للحداثة الغربية فآباء التكنولوجيا هي حقوق الإنسان بما فيها حرية المرأة والحرية الدينية. أيضا التفكير العقلاني الذي لا يرجع مصائر الناس إلى الغيب بل إلى الواقع، التفكير بالله على أنه غير وجود أو موجود لكن بغير شكل الجلاد الموصوف به في الإسلام التقليدي والذي يقود إلى عدم الخوف من الخطأ فبدون المرور بالكثير من الأخطاء لا نصل إلى الصواب، كلها ركائز من ركائز الحداثة التي أنتجت التكنولوجيا . مظاهر الحياة الغربية هي رحيق الظاهرة الغربية التي ولّدت التقدم التكنولوجي الهائل الذي ننعم به كلنا، فإذا كنا لا نزال نشتم هذا الرحيق على أنه رائحة نتنة فلا سبيل لنا إلى التقدم التكنولوجي لأن هذه هي رائحته الفعلية.

كتاب: مشكلة القوّة: كيف تجعلنا الهيمنة الأمريكية أقل أمنا وأقل إزدهارا وأقل حرية

إسم المؤلف: د. كريستوفر أ. بريبل
إسم الناشر: كورنيل يونيفيرستي بريس

في كتابه الذي صدَرَ حديثا تحت عنوان (مشكلة القوّة: كيف تجعلنا الهيمنة الأمريكية أقل أمنا وأقل إزدهارا وأقل حرية ً) يقدّم الدكتور كريستوفر أ. بريبل طرحا جريئا حول مشكلة القوة العسكرية الأمريكية التي هيمنت على العالم. ولكنها جعلت من الأمريكيين أقل أمنا وأقل إزدهارا وأقل حرية ً.

وفي المقدِّمة يمهد الكاتب للتعريف بالكتاب بأنه يتناول تحديدا ً القوة العسكرية الأمريكية من حيث ماهيّتها وكيفية قياسها واستخداماتها بإلاضافة إلى اعتبارات أخرى تتعلق بتكاليفها والفوائد التي يجنيها الأمريكيون من وراء وجود هذه القوة الهائلة. ويبيّن المؤلف كيف أن القوة الأمريكية العسكرية الضخمة لم تردع أو تخيف المهاجمين في الحادي عشر من سبتمبر 2001، ولم تجعل صدام حسين يرضخ للشروط الأمريكية، واستمرت كوريا الشمالية بتجاهل التحذيرات الأمريكية، ولم تكن التهديدات الأمريكية ضد إيران ذات جدوى. ويقول الكاتب في هذا الصدد: "إن مقارباتي من السياسة الخارجية الأمريكية مختلفة ولا تروق لصنّاع السياسات في واشنطن من جمهوريين وديمقراطيين مع علمي أن التغيير ليس سهلا ً."

ويبيّن المؤلف أن الأمريكيين نسوا في بعض الأحيان أن القوة الوطنية في الولايات المتحدة تشمل أكثر مما هو متعارف عليه بالقوة العسكرية. وبذلك فقدوا رؤية الغرض الذي وجدت لأجله القوة العسكرية وأصبحت القوة العسكرية الأمريكية بعدة طرق مشكلة حقيقية. وشكّلت هذه المشكلة الأساس الذي ارتكز عليه هذا الكتاب لإثارة النقاش والجدل بهدف الوصول إلى حقيقة مفادها وجوب تخفيض القوة العسكرية الأمريكية ليصبح الأمريكيون أكثر أمنا. ويمكن حلّ المشكلة بالعودة إلى الدستور الأمريكي وإلى قرون التاريخ لاستنباط أن مهمة القوة العسكرية الأمريكية هي تأمين الحرية الإقتصادية  والاجتماعية والثقافية الأمريكية لجميع الأمريكيين داخل الولايات المتحدة الأمريكية وليس لحماية شركاء في الخارج والتعهد بنشر الديمقراطية في بلدانهم.

ويستطرد الكاتب بالقول: "مع أن إدارة كل من بوش الأب وكلينتون كانتا قد ساهمتا في خفض نفقات الأفراد والمعدات لكنهما بنفس الوقت أرسلتا القوات الأمريكية إلى عدد من المهام الخطيرة والتي لم تكن ضرورية للأمن الوطني الأمريكي."

ويحاول الكاتب إثبات وجهة نظره هذه بأن القوة الحقيقية للأمة الأمريكية لا تكمن في القوة العسكرية لوحدها. واستشهد على ذلك بأن من الدروس الأولى المهمة لحقبة الحرب الباردة أن الولايات المتحدة ربحتها ليس عن طريق القوة العسكرية، بل بسبب عوامل قوة كثيرة إجتماعية واقتصادية وثقافية. في حين خسرها الإتحاد السوفيتي الذي بنى ترسانة هائلة من الأسلحة النووية والتقليدية على حساب قوت الشعوب السوفييتية لكنه لم يوفّر للناس في الأسواق أحيانا ما يشترونه من المواد الغذائية الأساسية. وعلى الرغم من ذلك، نسي بعض الأمريكيين دروس الحري الباردة خلال العقدين التاليين لسقوط الإتحاد السوفييتي واعتقدوا أن القوة العسكرية الأمريكية هي نهاية المطاف. ثم يتساءل الكاتب قائلا: "لقد قدمنا مساعدات لمسلمي البوسنا والهرسك ولكن لماذا لم نساعد المسلمين في الشيشان؟"

وفي الفصل الأول يؤكد الكاتب حقيقة "أن القوة العسكرية هي قوة هيمنة إلا أنها ليست قادرة على كل شيء." وحتى يتم فهم ذلك لا بد من معرفة ما هي مكونان القوة العسكرية برّا وبحرا وجوّا وأين تتوزع تلك التشكيلات العسكرية داخل الولايات المتحدة وخارجها لا بل وماذا تعمل تلك القوات على وجه التحديد. ويركّز الكتاب على أن القوى البشرية العاملة والمعدات والأسلحة المستخدمة في الصنوف الأربعة التي تمثل التنظيم العسكري الأمريكي للقوات المسلحة وهي الجيش الأمريكي (القوات البرية) والبحرية ومشاة البحرية والقوات الجوية الأمريكية. حيث ينتشر ما مجموعه 267000 جندي أمريكي في أكثر من 100 دولة حول العالم. وذلك من خلال عدد من الاتفاقيات السرّية حول تنظيم تواجد القوات العسكرية الأمريكية والتي تتراوح ما بين 80 إلى 115 اتفاقية مع دول متعددة على الساحة العالمية، والأهم من ذلك كله أن هذا الانتشار الهائل للقوات العسكرية الأمريكية لم يحدث بين عشيّة وضحاها، لا بل أنه تفاقم بعد عقدين من أفول نجم الحرب الباردة. ويعود الكاتب بشكل موجز إلى الجذور التاريخية لإنشاء القوة العسكرية الأمريكية منذ القرن الثامن عشر ويبيّن كيف تطورّت تلك القوة نسبيا وتدريجيا ما بين الحربين عام 1812 مع البريطانيين والحرب العالمية الثانية عام 1939. ويبيّن المؤلف ماهيّة الدور الفعلي للقوة العسكرية من خلال رؤى واضعي نصوص الدستور الأمريكي والرؤساء الأمريكيين المؤسسين ومجالس الكونغرس المتعاقبة. وذلك بهدف معرفة كيفية الوصول القوات العسكرية الأمريكية إلى ما وصلت إليه اليوم من حجم هائل وقدرات كبيرة وانتشار واسع النطاق حول العالم، والتي لم تكن بالحسبان عبر مراحل التأسيس الأولى. ومع ذلك، كان الرئيس الأمريكي الأسبق دوايت آيزنهاور قد حذّر قبل مغادرته البيت الأبيض في الستينيات من مغبّة تحكّم المجمع الصناعي الأمريكي للأسلحة والمعدّات العسكرية بمجريات الأمور المتعلقة بالقوات المسلحة وقرارات الحرب. إلا أنه على الرغم من تلك التحذيرات وقبل الوصول إلى نهاية حقبة الحرب الباردة، كانت قد بدأت مرحلة التدخلات العسكرية الأمريكية في الخارج، ابتداءً من الجوار الأمريكي، حيث الدومنيكان عام 1965، وغرينادا عام 1983 وبنما عام 1989، ثم الانتقال إلى العراق عام 1991 والصومال عام 1992. وبعد ذلك في البلقان ثم أفغانستان عام 2001، والعراق مرة أخرى عام 2003. ما زال الوجود العسكري الأمريكي في البلقان وأفغانستان والعراق ماثلا حتى اليوم.

ويوضّح الفصل الثاني من الكتاب كيفية حساب ومطابقة تكاليف القوة العسكرية للولايات المتحدة الأمريكية من خلال طرح التساؤل عن مقدار الإنفاق على القوة العسكرية ومعرفة أين تذهب تلك النقود لا سيما وإن التكاليف المباشرة لإنشاء وإدامة وتوسيع القوة العسكرية مع الميزانية الأساسية لوزارة الدفاع "البتناغون" يسهل حسابها نسبيا. ويبيّن الكاتب : "أنه عند إضافة تكلفة الحرب في أفغانستان والعراق والتي وصلت إلى 4.5 في المائة من مجمل الإقتصاد الأمريكي أو ما يعادل 622 مليار دولار أمريكي كإنفاق عسكري عام 2007، وعندما يجري توزيع هذا المبلغ على مستوى الفرد في الولايات المتحدة تبلغ حصة كل رجل وأمراة وطفل أمريكي نحو 2065 دولار." أي ما يزيد عن ضعف ما يدفعه المواطن البريطاني والفرنسي وأكثر من ثلاثة أضعاف ما يدفعه الشخص الياباني والألماني. علما بأن الفجوة في الأنفاق قد زادت في عام 2008 عن العام السابق ثم وصل المجموع الكلي المطلوب للأنفاق العسكري في عام 2009 حوالي 800 مليار دولار.

ويبيّن المؤلف في الفصل الثالث أن القوة العسكرية لأمريكا تُكلّف كثيرا ومع ذلك يعتقد كثير من الأمريكيين خطأ أن تخفيض الميزانية العسكرية وإجراء تغييرات شاملة على الإستراتيجية الأمريكية الحالية يمكن أن ينتج عنها حالة قد تكون "أقل أمنا"  بالنسبة للشعب الأمريكي. ويستدلّون على ذلك من تقديرات تقول أن هجمات الحادي عشر من سبتمبر قد كلّفت الإقتصاد الأمريكي 250 مليار دولار. ثم يستشهد الكاتب على ذلك بالقول: "طالبَ مرشحو الرئاسة الأمريكية عام 2008 بما فيهم الرئيس الحالي باراك أوباما بزيادة عدد الأفراد العاملين في الجيش ومشاة البحرية، وحسب وجهة نظر السناتور جون مكين فإن تلك القوات يمكن زيادتها بنسبة 40 بالمائة عمّا كانت عليه قبل هجمات 11 سبتمبر 2001." ومع ذلك يتجاهل الكثير من الأمريكيين أن زيادة النفقات على القوات التقليدية لها تأثير محدود ضد أعداء مجهولين كتنظيم القاعدة.
وفي الفصل الرابع يعتبر الكاتب : "أن القوة العسكرية الأمريكية بحد ذاتها مشكلة لأنها تكلف كثيرا جدا. وتكلّف كثيرا جدا لأنها كبيرة جدا." وهي بحق أكبر بكثير من حاجة الولايات المتحدة للدفاع عن نفسها ومصالحها الحيوية. ومع ذلك، فإن صنّاع القرار في الولايات المتحدة يستخدمون تلك القوة العسكرية كثيرا بسبب الأعتقاد الخاطئ بأن الأمن الأمريكي يعتمد على الإستقرار العالمي الذي لا أحد يستطيع الحفاظ عليه سوى الولايات المتحدة. ولكن إذا ما جرى التركيز بصورة دقيقة على الأمن الغذائي الأمريكي يتبين أن الولايات المتحدة تحتاج إلى حجم أقل واستخدام أقل للقوة العسكرية الأمريكية.

وحول مأزق السيطرة على القوة العسكرية يشرح المؤلف في الفصل الخامس هذا المفهوم من منطلق مقنع إلى حد كبير وهو: "أن إستراتيجية الولايات المتحدة باستخدام القوة العسكرية الأمريكية نيابةً عن الآخرين لا تشجعهم بالدفاع عن أنفسهم لا بل وتجر الولايات المتحدة إلى حروب خارجية" بسبب فرضية إعتبار أن الهجوم عليهم هو هجوم على الولايات المتحدة الأمريكية نفسها. ومن هنا فإن الولايات المتحدة لا تعتمد على تلك الدول في مسألة الدفاع عن أنفسهم من الأخطار الخارجية، وهذا الأمر يظهر للعالم أن الولايات المتحدة أمة أكثر من عادية لتحمل عبئا أكبر من أمنها الداخلي. وبنفس الوقت أن الأمم الأخرى هي أقل من عادية وغير معنية بأمنها الداخلي.

وفي الفصل السادس يرى الكاتب أن تطويع مشكلة القوة أمر لا بد منه ولا يكون ذلك التطويع من وجهة نظره بتخفيض نفقات القوة العسكرية الحالية إلى النصف بين عشية وضحاها، ويستطرد قائلا: "عندما يتم بناء قوة عسكرية هائلة وتستمر الولايات المتحدة بالمحافظة عليها بهذا الحجم ثم يقوم أصحاب القرار السياسي بالبحث عن أدوار لها بهدف استخدامها، فإن ذلك يعني أن الحصان أمام العربة." وقد يكون من الأفضل أن يركز النهج المتّخذ على العكس تماما فيما لو حددّت الولايات المتحدة أولوياتها من حيث الأهم والمهم. على أن تتناسب الخيارات العسكرية الأمريكية مع القوة العسكرية المتوفرة من حيث الحجم الإجمالي للقوات بما فيها الأسلحة والمعدات المشتركة مثل الطائرات والأفراد والسفن والغواصات وغير ذلك.

وفي خلاصة الكتاب يبيّن المؤلف أنه: "من الممكن أن تحافظ الولايات المتحدة على موقعها في قمة النظام العالمي وحدها لمدّة طويلة جدا. مع أن التاريخ يقول غير ذلك. "ومن حيث أن الولايات المتحدة ستبقى تكافح من أجل البقاء متقدّمة على الآخرين فإن هذا الوضع يجعلها تعيش في حالة مستمرة من الخوف، وعليه لن يتوقف الحديث عن عدم الشعور بالأمن. ومن هذا المنطلق ستستمر الولايات المتحدة بالإنفاق أكثر فأكثر نتيجة لقناعة ذاتية بهدف البقاء من دون منافسة أحد لها.

يتبين من خلال قراءة كتاب " مشكلة القوة " قراءة دقيقة ومتأنية أن طروحات المؤلف قوية جدا ومنطقية للغاية، وتمس شعور ورغبات وتطلعات المواطن الأمريكي، من حيث أن هنالك أولويات وبرامج مطلوبة داخليا أكثر من تجارة الحروب في الخارج (نيابة عن الآخرين) بقوات عسكرية تضخّمت لدرجة أصبحت عبئا ثقيلا على المواطنين ودافعي الضرائب الأمريكيين، من دون مردود اقتصادي داخلي. كما أن استنتاجات المؤلف مقنعة بدرجة كبيرة وتتوافق مع ما يعتقده كثيرون من الأمريكيين أنفسهم، ومع كثير من الشعوب على الساحة العالمية – مع أنها قد لا تروق لأنظمة سياسية خارجية – ممن يرون أن الجندي الأمريكي مكلّف بحراستهم وحماية كراسيهم و مكتسباتهم الشخصية. يُذكر أن المؤلف اعتمد على مراجع عالمية دفاعية معروفة وموثوقة، ومصادر بحثية وأكاديمية أمريكية متعمدة. بالإضافة إلى وثائق وأرقام وإحصائيات متعددة في كافة مقارباته وتناوله للحقائق والأحداث والأقوال والتصريحات.

يا أبت أين أجد الله؟؟

بقلم نهرو طنطاوي


ألقى نحوي ببصره
يتأملني
وكعادته
يودع صدري رأسه
فأُوْدِعُ قلبي براءته
ولدي
وحيدي
ابن الثامنة
***
وكعادته
وضع يده اليمنى
على وجهي
تحسس عيناي برفق
تحسس أنفي
وفمي
شاغبني قليلا
وسكن
***
زحف عليه الضوء
فعبست عيناه
تقاوم شغب الشمس
وغرق لقاع التفكير
***
وفي وهج براءته
أطلت من عينيه نظرة
يكسوها غبار اليأس
قلت له يا ولدي
إلى ما تنظر؟؟
وماذا تصارع؟؟
قال أنظر فيَّ
ونحوي
وفي اللاهو
واللاأين
واللاكيف
وأصارع حمى المجهول
قال:
يا أبت …
وصمت طويلا.
***
نظرت إليه واللاأمل
يحط بوجهه
يا ولدي:
أي سؤال جف بحلقك؟؟
قال: والخفقان يهدهد قلبه
سؤال مُرٌ يأبى أن أنساه
يا أبت: أين أجد الله؟؟
التفت إليه وحدقت
أمسكت بيمناه
ومشينا
قال يا أبت:
هل أغضبك سؤالي؟؟
قلت له: كلا
قال: فأين أجد الله؟؟
قلت له: في الدنيا.
قال: في الدنيا؟؟
وماذا يفعل؟؟
قلت له يبحث عن أمة خير
يخرجها للناس
ولما أرهقه الترحال
حل بأمتنا
قال: ووجدها؟؟
قلت له:
غدا ستعرف
ما لا يقال
***
قال: يا أبت وأين ألقاه
قلت له: في كل مكان
اسمه معقود بذيل الكذب
على ألسنة الناس
انظر هذا القديس
وذاك الشيخ
والحاخام
تجد الله
عمامة تعلو رأس الباطل
ولحية تخضب وجه البهتان
انظر هذا الجلاد الجاهل
يحفر سوطه
في ظهر الإنسان
وتراه يصلي
يخشع
يبكي
ويرتل آيات القرآن
***
يا ولدي
في أمتنا
لو تقترف الإيمان
افعل ما شئت ولن تأثم
ستمنح صك للغفران
***
انظر تلك المومس
يجالسها الله
يصافحه النخاس
وينثر رضوانه
فوق الخائن
والمحتال
والسارق
والقواد
والقاتل
والطاغية الجزار
الكل يقترف الإيمان
لا أحد منهم يأثم
فالكل يدور
بين قضاء الله والأقدار
***
يا ولدي
لو تؤمن بالله
وترتل أدعيته
وتتمتم بالكلمات
يعطيك رداءه
والمسبحة
وتنعم بالبركات
***
مسكين ولدي هذا
بعد لم تتلوث نفسه
بدنيانا القاتمة
يظن لدينا شيئا
من طهر الإنسان
نبقيه لدنياه القادمة
وفجأة باغتني
بسؤال مر
يا أبت أين الإنسان
هل ضاع الإنسان؟
قلت له والألم يعصر كبدي:
ضاع الإنسان.
قال: ومتى؟
قلت له:
منذ آمنا بالله
وكفرنا بالإنسان.

العلم والدّين: هذيان إسلامي

بقلم بشير عيسى


"ألِيس" سكنت جغرافيا الهذيان، لم تعد في بلاد العجائب !
ما الذي يحدث في العالم العربي والإسلاميّ، وما هذه الهستيريا ونحن في عصر ثورة الاتصالات والمعلومات وإنتاج العلوم والأفكار بسرعة لا سابق لها. نقف فقط لنؤكّد لأنفسنا وللعالم من بعدنا أنّا كنّا السبّاقين إلى العلم، وأنّ الحضارة كانت مُلك أيماننا قبل أن تسرق منّا، ولا نتوّج ذلك التأكيد إلا بالندب والبكاء وعداء الآخرين .
هل يعقل مثلاً أن يختصر عباس بن فرناس كلّ تاريخ علم الطيران وحاضره ومستقبله لنكون أمه وأباه، وفي الوقت نفسه يخطب إمامٌ (عالم) في خطبة الجمعة متسائلاً : س + ع = الصفر؟ ليقول: بالله عليكم أليس في هذا ملهاة عن ذكر الله، ويطالب هذا العالِم بدوره بإلغاء مادّة الرياضيات.
وبالعودة إلى التاريخ: ألم يكتب عمرو بن العاص إلى الخليفة عمر بن الخطاب يسأله في أمر مكتبة الإسكندرية، فيجيبه الخليفة: " إذا جاء فيها ما يخالف أمر الله فعليك بحرقها، وإن جاء فيها ما يوافق كتاب الله ففي كتاب الله غنىً .." وهل لنا أن ننسى مثلاً آخر يأخذنا إلى أبي جعفر المنصور الذي طلب من ابن المقفع بعد أن قطع له أصابعه أن يقوم بأكلها بعد شيّها، حين نصّب المنصور نفسه ولياً على كتاب الله والدين الإسلامي …
ألم يحرم الخليفة القادر بالله عام 1020 م فكر المعتزلة وأباح دمهم، وهم الذين كان لهم دورٌ فكريّ وفلسفيّ لا ينسى في فترة برزت فيها أفكار ابن تيمية والغزالي في تكفير الناس، وكانت تحرق بالتزامن مع مدّ الأفكار السلفية والتكفيرية كتب فيلسوف قرطبة أمام عينيه، ليبدأ عصر وينتهي آخر … والأمثلة لا تنتهي .
لا شيء طبعاً يأتي من فراغ. في شهر رمضان الأخير يخرج العلم من عمامة رجال (أهل العلم) كما يخرج أرنب من قبعة ساحر، لتصير نومة أهل الكهف حقيقة علمية، والذبيحة التي لا يسمّى عليها فاسدة وسامّة، كما تصبح لغة القرآن الكريم لغة الكومبيوتر، وتنبثق من شاشات الفضائيات العربية برامج تنسب إلى النبيّ محمّد معجزات مخجلة يأبى المرء ذكرها من على هذا المنبر، في حين أنّ النبيّ نفسه كان يجيب إذا ما سئل بأن ليس له من معجزة سوى لغة القرآن نفسه.
في شهر رمضان الفائت سارعت محطات تلفزيونية عدّة لنقل تجربة شخص اعتنق الإسلام في العالم الغربي، وكأنّ مليار مسلم لا يكفي أمام الحلم بأسلمة العالم كله بعدما أسلمنا حتى الله .
المضحك المبكي هو في النكوص عن تقديمنا التاريخي لصورة الإسلام كدين عدالة وتسامح وقبول للآخر، فها هو القضاء المصري مؤخّراً يفاجئنا بإحدى التهم الموجّهة إلى خلية حزب الله في مصر بأنها تسعى إلى نشر التشيّع فوق الأراضي المصرية، وكأنّ الشيعية تهمة وليست مذهباً معترفاً به في الإسلام الذي ضاق على ما يبدو بأبناء جلدته رغم نموه الديموغرافي المموّل، فلا الإسلام السلطوي ولا الإسلام المعارض يقبل المختلف في جلسات مزايدة على الإسلام نفسه يشارك فيها كلا الطرفين .
يرى المفكّر الإسلامي د. محمد أركون في كتابه (نحو نقد العقل الإسلامي) أنّه: " إذا ما نظرنا إلى مجمل العبارات القرآنية في المدوّنة الرسمية النهائية، أي المصحف، لوجدنا كلمة الله واردة فيها 1697 مرة دون أن نحسب حساب الصفات التي تدلّ عليه أيضاً .. أما كلمة إسلام فعلى العكس من ذلك لم ترد في القرآن كله إلا ستّ مرات وبمعان تجريدية جداً وغير محدودة، غير أننا نلاحظ الآن أن استخدام كلمة إسلام أصبح عاماً وطاغياً سواء في الخطاب الإسلامي المعاصر أو في وسائل الإعلام العالمية، وفي كل ما يكتب عن الإسلام أصبحت هذه الكلمة تؤدي جميع الوظائف التي كانت تؤديها كلمة الله في الخطاب القرآني بصفتها فاعلاً أساسياً أولاً، إلى درجة أنها حلت محلها " . هكذا يتقدم الخطاب الإسلامي التقليدي ليحلّ محلّ الإلهيّ، حيث يغدو الله محاطاً بهالة إسلامية ولدرجة تشعرك انه لا يمكن الولوج إليه إلا عبر تلك الهالة، وعلى هذه القاعدة يتم تقسيم العالم إلى نحن و(هم)، ليصبح الجهاد ضدّ الآخر من بعدها شغلنا الشاغل في سبيل الدار الآخرة، بعد أن وضعنا نصب أعيننا زوال الدنيا وفناءها، ويصير كلّ من يفكر بالخروج عن الجماعة الإسلامية (صاحبة الحقّ) مارقاً ومرتدّاً يطبّق عليه حكم الردّة. ندعو الله ألا يتشبّه الغرب بنا فيقتل كلّ مرتدّ.
يرى ميشيل فوكو أنّ "الدين عقل مجتمع لا عقل له"، ولنا في ذلك مثال من الخطاب التقليدي للإسلام، ففي برنامج "زيارة خاصة" الذي يعرض على قناة الجزيرة، تحدث الدكتور "زغلول النجار" في حلقة عرضت مؤخراً عن الحقائق العلمية التي توصل إليها الغرب وكيف أنّها مثبتة في القرآن، وأنه قام في محاضرات عدة له بجامعات أمريكية بإطلاع العلماء على أنّ نتائج أبحاثهم موجودة في النص القرآني قبل قرون، ليقوم هؤلاء بعد ذلك بالبحث والتقصي فيصلوا إلى حقيقة ما أشار إليه "النجار"، عندها يعلن هؤلاء العلماء إسلامهم، وحين يطلب منه مقدّم البرنامج أن يذكر له بعض أسماء هؤلاء العلماء يجيبه الشيخ أنه لا يتذكّر أيّ اسم .
لماذا كل هذا التضليل والديماغوجية التي تحتوي ضمنياً عقد إحساس بالدونية تجاه الآخر، وماذا يعني مثلاً اعتناق شرطيٍّ للإسلام في معتقل متطرفي القاعدة (الذين يخشون العودة إلى بلادهم ومواجهة الاتهامات والأحكام على جرائمهم)، مع كامل احترامنا للشرطي ولمهنته، غير أنّه ليس بعالم أديان مقارن أو مفكّر أو باحث أو كاتب أو فيلسوف ولا هو حتى بالراهب، بكل بساطة أسلم الرجل، وماذا في ذلك؟ ألا تؤمن كل ديانات العالم بالله كلّ على طريقته! المفارقة أنّ الإسلام في هذا الموضوع يأخذ ولا يحبّ أن يعطي. أسلم ذلك الشرطي في معتقل متطرفي القاعدة، تعالت صيحات النصر والتكبير ربما لكسبنا كماً إضافياً إلى صفوفنا وكأننا في حالة سباق ديموغرافي مع العالم .
أما كان حرياً بوسائل الإعلام التي تدعي الحرية والمهنية وهي تنقل أخبار من اعتنقوا الدين الجديد أن تسأل مثلاً عن الأسباب التي دفعت الشيخ الستيني "عباس عبد النور"، وهو آخر علماء أسرته في مدينة دمنهور على مدى 600 عاماً، إلى تأليف كتابه (محنتي مع الله والقرآن)، وآخرين كثر غيره ممّن لا يجرؤون على ذكر اسمهم الحقيقي، حتى تكون وسائل الإعلام تلك منصفة في نقلها للرأي والرأي الآخر ، أم انه الخوف والتعتيم وطمس وتكفير أي تساؤل يمكن أن يفضي إلى حوار جِدّي بعيداً عن الإرهاب الفكري والتكرار المريض واجترار فقه القرون السابقة، ما جعلنا في قمة الدول المستغنى عنها بالمفهوم الحضاري، وذلك بعد أن أعدنا إحياء محاكم التفتيش لتكون القاضي والجلاد والشاهد على موت حرية الفكر والضمير في هذه ( الأمة ) .

فرضيات؟! إنسَ الأمر...

بقلم ماسيمو بيغلوسي Massimo Pigliucci   
ترجمة : إبراهيم قيس جركس


قال نيوتن عبارته الشهيرة "أنا لا أكوّن فرضيات hypotheses non fingo" أو بالأحرى الموقف المذهل الذي يدافع عنه العالِم. أليس العلم بالتحديد هو فاعلية بناء وتجريب الفرضيات حول العالم الطبيعي؟ وبالتحديد هذه كانت وجهة نظر الفلاسفة المؤثرين بالعلم مثل "كارل بوبر". قال بوبر إنّ الفرضيات العلمية لا يمكن أن إثبات صحّتها أبداً، لكن يمكن تكذيبها، أو إثبات أنها خاطئة. وبالنسبة لبوبر، العمليات العلمية من خلال الإقصاء الناجح للفرضيات الخاطئة. معظم الفلاسفة يتجاهلون وبفخر الفلسفة، لكنّ التكذيب البوبري هو واحد من تصوّرين فلسفيين اثنين من المحتمل أن تجدهما في أيّ كتاب علميّ تمهيديّ. (الأوّل هو الفكرة التي طرحها "توماس كون" عن الباراديغمات Paradigms أو النماذج الإرشادية. وهذا غريب بالأحرى، بما أن كون كان ناقداً شرساً لبوبر).
وجدت ورقة مذهلة دوّنها كلٌ من ديفيد غلاس ونيد هول -الأوّل يعمل باحثاً دوائياً حيوياً، والآخر فيلسوفاً- ومنشورة في مكانٍ غير محتمل، مجلة "سيل Cell" [8 أغسطس 2008]. وكما يصرّح عنوانها، إنّ لنقطة الرئيسية في الورقة هو تزويد القرّاء "بتاريخ مختصر للفرضية A brief history of the Hypothesis". وهذا ما يكسبه صفة (واجب قراءته) حتى بالنسبة للعلماء الشبّان، وربّما ليس الشبّان فقط. لكنّ الذي شدّ انتباهي في الورقة هو أنّ غلاس وهول أقترحا أنّه -على نقيض مفهوم بوبر للعلم- من الأفضل للعلماء أن يستبدلا الفرضيات بمرشدين آخرين في بحثهم: الأسئلة والنماذج.
دعوني أوضّح الأمر بشكلٍ أفضل، نصف مشاكل الفرضيات تمّ توضيحها في الأعلى: ليست هناك أيّ طريقة لإثبات أنّ الفرضية صحيحة كلياً بشكل نهائيّ، لأنّ هناك دوماً احتمالا أن تكذّبها مجموعة من الملاحظات والأرصاد الجديدة. والأخبار السيئة هي - ويجهل ذلك الكثير من العلماء- أنّ الفلاسفة قدّموا حججاً مفحمة أنّ الفرضيات لا يمكن تفنيدها بشكلٍ حاسمٍ أيضاً. التكذيب لا ينفع، لأنّ الفرد يمكنه دائماً أن يلوي الفرضية حتى تناسب البيانات المخالفة أولياً، أو يسائل بعض الفرضيات الملحقة، أو حتى يسائل دقة البيانات نفسها. (وهذا ليس كلاما متكلّفا كما يبدو الأمر في منح التعقيد للآلات التي تستعمل في الوقت الحاضر لإنتاج البيانات العلمية، من مصادمات الجزيئات إلى مسلسلات الجينوم).
وماذا بعد؟ ينصحنا غلاس وهول بأن نعود إلى الأساسيات. فالعلم شأنه أن يطرح الأسئلة، ويقترحان: "سيبدو الأمر أنّ السؤال هو الأداة الأنسب لأنّ السؤال -عكس الفرضية- يعرّف العالم ككائن في حالة من الجهل عند غياب البيانات." صحيح، أنا أصبحت عالماً لأنّ العلم يملك القوّة للإجابة عن الأسئلة المتعلّقة بالطبيعة. ويمكن تشكيل الأسئلة إمّا بطرق منفتحة أو بطرق محدّدة جداً، ويمكن في كلا الطريقتين تقديم الإرشاد للوصول إلى بحوث تجريبية مثمرة. علاوةً على ذلك -كما لاحظ غلاس وهول- في الكثير من المجالات العلمية المعاصرة لن يعرف الإنسان كيف الابتداء بتشكيل فرضيات محسوسة. على سبيل المثال، في مجال الهندسة الوراثية، من السهل طرح الأسئلة: كم عدد الجينات في الخريطة الوراثية؟ ما مدى اختلاف الجينوم البشري عن باقي الرئيسيات، وبأي شكل؟ ولكن ما نوع الفرضيات التي يمكن للإنسان أن يكوّنها لتحلّ محلّ هذه الأسئلة؟
إنّ البحث الجينومي بحث استكشافيّ للغاية، لذا من الطبيعي تأسيسه على أسئلة مطروحة بشكلٍ جيّد وممتاز. حتى عندما يكون البحث أكثر تقدّماً وأقل استكشافيةً، يزعم كلٌ من غلاس وهول أنّ الفرضيات ما زالت لن تعمل، حيث أنها لا يمكن لإثباتها ولا يمكن دحضها. وبدلاً من ذلك، فنحن نحتاج إلى نماذج عن الظاهرة تحت الدراسة.
بخلاف الفرضيات، تبنى النماذج بعد أن يتمّ إدخال بعض المعلومات، ثمّ تستخدم النماذج لتوقّع بيانات جديدة. ويمكن للنموذج أن يكون عرضياً بشكل إحصائيّ أو مباشر في الطبيعة، رياضيّ أو لغويّ، لكنّ تنبؤاته احتمالية، وتخضع للتكرير والتنقية بشكلٍ دائم.
إنها ديناميكية النماذج ذاتها التي تجعلها أدوات ثقافية وفكرية قوية في المسعى العلمي للمعرفة. كتب غلاس وهول يقولان: (( إنّ إقصاء مصطلح "الفرضية" واستبداله بمصطلح "سؤال" في الأمكنة التي تتكوّن فيها التجارب قبل أن تتوفر كمّيّة كافية من البيانات، و"النموذج" من أجل الأوضاع التي يعمل فيها العالم مع مجموعة كافية من البيانات لإنتاج بنية يمكن اختبارها للقوّة الاستقرائية [التنبؤية] )).
في المجالات التي تعتمد على بشدّة على التحليل الإحصائي، مثل البيولوجيا والعلوم الاجتماعية، قام بعض العلماء مسبقاً بالانتقال من حالة اختيار الفرضية إلى مقارنة النموذج. كانت تلك الاختبارات الإحصائية قد انطلقت لتحرّض "نظرية بسيطة -سيقول البعض مبسّطة- لاغية" ضدّ فرضية بديلة شاملة. وبالتدريج، استنتج الناس أنّ هذه الطريقة غير مجدية، ونلاحظ أنه خلال السنوات الأخيرة زيادة ثابتة في استخدام البرامج الإحصائية أكثر ممّا يمكن تحريض مجموعة من النماذج البديلة ضدّ بعضها البعض، بالطرق التحليلية التي يمكنها إخبارنا عن أي واحدة منها أكثر احتمالاً، معطيةً البيانات المتوفّرة.
الأمر المضحك بشأن ذلك أنه ومنذ عدّة سنوات قامت المؤسّسة الأمريكية القويمة لدعم العلم بحركة فلسفية في مناهجهم لإعطاء المنح. لقد طلبوا من العلماء بصراحة للتخلّص من الأسئلة (الطريقة التقليدية لتشكيل المنح) واستبدالها بمفهوم أكثر صلابةً من الفرضيات. لذا الآن في الوقت الحالي من المتوقع أنّ طالبة المنحة ستعاقب بشكل جدي إذا لم تضع اقتراحها بطريقة ما تتناقض بوضوح مع قول نيوتن المأثور (أنا أخاطر بالقول أنّ الاستشهاد بنيوتن كمرجع لن يساعد أبداً). ولكن هذا ما يحدث عندما لا يدفع العلماء سوى القليل من الانتباه إلى الفلسفة والتي منذ عدّة عقود خرجوا من فلسفة الأدب العلمي. على الأرجح أنّ علينا أن نفوّض فلسفة العلم 101 لكافّة الطلاّب المتخرّجين من الكليات العلمية.
د. ماسيمو بيغلوتشي: رئيس قسم الفلسفة قي جامعة سيتي يونيفيرسيتي في نيويورك، كلية ليهمان، كما أنه مؤلف عدّة كتب أهمّها: Making Sense of Evolution: The Conceptual Foundations Of Evolutionary Biology (Chicago Press, 2006). ويمكن إيجاد إلهاماته الفلسفية على الموقع التالي: www.platofotnote.org
عن مجلة "الفلسفة الآن" عدد تموز/ آب 2009
موقع المجلة: www.Philosophynow.org

المنذِرون بالموت.. "المصابون بسلّ الرّوح"، نيتشة

ما أكثر المنذرين بالموت ǃ والعالم مليء بمن تجب دعوتهم إلى الإعراض عن الحياة.
إنّ الأرض مكتظّة بالدّخلاء، وقد أفسدوا الحياة، فما أجدرهم بأن تستهويهم الحياة الأبديّة ليخرجوا من هذه الدّنيا.
لقد وصف المنذرون بالموت بالرّجال الصّفر والسّود، ولسوف أصفهم أنا فينكشفون عن ألوان أخرى أيضا.
إنّهم لأشدّ النّاس خطرا، إذ كمن الحيوان المفترس فيهم، فغدوا ولا خيار لهم إلاّ بين حالتين، حالة التّحرّق، وحالة كبتها بالتّعذيب. وما شهوتهم إلاّ التّعذيب بعينه. إنّ هؤلاء المسوخ لم يبلغوا مرتبة الإنسانيّة بعد، فليبشّروا بكره الحياة، وليقلعوا عن مرابعها.
هؤلاء هم المصابون بسلّ الرّوح، فإنّهم لا يكادون يولدون للحياة حتّى يبدأ موتهم، وقد شاءتهم مبادئ الموت والملال. يودّ هؤلاء النّاس أن يدرجوا في عداد الأموات، فعلينا أن نحبّذ إرادتهم، ولنحترس من أن نعمل على بعث هؤلاء الأموات، وعلى تشويه هذه النّعوش المتحرّكة…

كتاب "السنّة والإصلاح" لعبد الله العروي



مصطفى لعريصة  

ونحن هنا، إذ نعتمد هذا الكتاب في محاولة تقديم إجابة عن علاقة التربية والديمقراطية، نستلهم تحاليل الكاتب للتركيز على ما يعيق هذه العلاقة ثقافيا وسياسيا في العالم الإسلامي والعربي خصوصا. لا يقدم العروي جوابا مباشرا على سؤالنا ولكنه يمنحنا عناصر غاية في الأهمية حاولنا استغلالها في التقدم بجواب ممكن، ولعل ذلك ما يبرر تعاملنا الحر نسبيا مع مادة الكتاب ، وتوجيه بعض أفكاره في أفق سؤالنا المركزي: علاقة التربية بالديمقراطية.
3. نذكر ببعض مؤلفات العروي في هذا الصدد على سبيل الإشارة فقط :
* "الايدولوجيا العربية المعاصرة" الترجمة المنقحة للنص الأصلي ،الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي،1995
* "أزمة المثقفين العرب: تقليدية أم تاريخية"، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1978 * "ثقافتا في ضوء التاريخ"الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، ".2 ، 1992
للاطلاع على ببليوغرافيا مكتملة لعبد الله العروي، نحيل على العدد الذي خصته به مجلة: مقدمات، المجلة المغاربية للكتاب ، عدد 35، صيف 2006 ، الدار البيضاء.
4. من بين الباحثين العرب الذين أسهموا في بلورة قراءة نقدية لتاريخ الإسلام، نذكر بالأساس المؤرخ التونسي هشام جعيط، خصوصا ما يتعلق بالفترة التي تلت موت الرسول، فترة"الفتنة الكبرى" وهي عنوان أحد مؤلفات المؤرخ التي أصبحت من مراجع البحث الأساسية في هذا الموضوع. ولربما تجدر الإشارة إلى أن الرواة وجامعي الأخبار المقربين زمانيا من هذه الفترة قد فسحوا مجالا للحديث عن الصراعات والقلاقل والحروب الداخلية التي صاحبت نشأة الدولة الإسلامية، ولكنها ظلت مغيبة عن الضمير الإسلامي ربما تحت تأثير المد السلفي الذي أبى دوما إلا أن يرى في فترة الخلفاء الراشدين فترة" صفاء" وتجسيدا لعصر" ذهبي" مفترض.
5. لا يمكن أن ننكر أن هناك علاقة بين الكتاب("السنة والإصلاح") والسياق الحالي بالمغرب المتعلق بما يسمى:"إعادة هيكلة الحقل الديني" وما يسمى "الحفاظ على الأمن الروحي". فالنقاش حول المسألة الدينية- في علاقتها بالسياسة على العموم- يتوزعه موقفان رئيسيان: موقف "الإسلاميين"الذين يتخذون من الدين رداء لولوج الحلبة السياسية بدرجات متفاوتة في التشدد والليونة الماكيافيلية حسب الفصائل، والتي يصل بعضها إلى حد تكفير من لا يقول بتأويلهم. ثم هناك الموقف الرسمي للدولة التي تحتكر لنفسها شرعية تحديد المرجعية الدينية-السياسية للمغاربة، وفق تأويل مذهبي مالكي ينعت "بالمعتدل"، ووفق "خصوصية" مغربية حيث رئيس الدولة هو نفسه "أمير المؤمنين" .
مساهمة العروي في هذا النقاش ولو بشكل غير مباشر تسمح باستعادة ما هو منسي في
التوجهين: البعد الشخصي في تحديد العلاقة بالمعتقد بعيدا عن كل وصاية خارجية سواء من قبل
الدولة أو الجماعات الدينية، وهذا السؤال لا يخص المغرب وحده بل يجري على غالبية البلدان
العربية والإسلامية.
6. " السنة والإصلاح"، ص 210


الاثنين، 23 نوفمبر 2009

في الدلالة المنهجية للفينومنولوجيا

في الدلالة المنهجية للفينومنولوجيا

الطيب بوعزة

ما معنى الفينومنولوجيا ؟

ما أكثر الإجابات المسطورة في صحف القواميس و المعاجم ، لكن لا أظن أن منها إجابة تستحق أن تكتب و تذاع! فاستفهام الدلالة عندما يطرح على فلسفة من منظور فينومينولوجي ، ينبغي أن يتحول من السؤال عن معنى تلك الفلسفة كمذهب إلى معناها كمنهج ، أما عندما يتعلق الأمر بالفكر الفلسفي الفينومينولوجي ذاته ، فإنه يصبح أوكد و أوجب . فهوسرل نفسه اعتاد عند  تقديم فلسفته على التعبير عنها بوصفها منهجا , و هو حتى عندما مهد لبحث تلميذه فنك(1) الذي دافع فيه هذا الأخير عن الفلسفة الفينومينولوجية ضد الانتقادات التي وجهت إليها من قبل بعض معاصريها وصفها بكونها << علما جديدا >> ، قاصدا بوصفه هذا أن ما يحددها هو أنها أساسا أسلوب في التفكير جديد و توجه منهجي فريد .  و قد نهج على نهجه هذا جمهرة الفينومنولوجيين فاحترسوا من تحديد هذه الفلسفة كنظرية و نسق :

 فأوجين فنك سيتخذ من تعريف الفينومنولوجيا كمنهج مدخلا للدفاع عنها تجاه الانتقادات الموجهة إليها من قبل بعض معاصريها من أمثال زوشير   ZOCHERوكرايسKREIS   معتبرا أن مكمن الخطأ في فهمهما للفينومنولوجيا هو بالضبط عدم إبصارهما للبعد المنهجي الفينومينولوجي ، و عدم انتباههما للتحول الميتودولوجي الذي أنجزته في تحديد ذاتها كفلسفة تتميز ببنائها للمنهجية الإرجاعية (2). كما حرص الفينومينولوجي إيمانويل ليفناس وهو من أوائل من أدخل الفكر الهوسرلي إلى الفضاء الثقافي الفرنسي ، على تقديم هذه الفلسفة ك"منظومة" منهجية ، حتى إنه عندما أراد تحديدها أشار إلى أن  الفينومنولوجيا  هي أساسا منهج (3). كما أن ميشيل هنري في قراءته للتحول التاريخي الحادث في الفكر الفرنسي المعاصر ، و تأمله في ما سماه بانهيار الأنماط الفكرية الباريسية Modes Parisiennes وذبول النمط الفكري البنيوي خاصة ، تحدث عن عودة هوسرل كقوة عقلانية تتحدد أساسا بوصفها "إبداعا منهجيا " (4). كما أن ديكومب سينتهي في محاولته لتحديد "الفينومنولوجيا " إلى تعريفها بالنظر إليها كمنهج حيث قال : << إنها أحدث محاولة لبناء منهج فلسفي فعال >>(5) ، بل حتى كتب القواميس و المعاجم  المنجذبة بطبيعتها إلى تحديد الفلسفات كنسق و مذهب استشعرت هذه السمة المنهجية التي تطبع الفينومينولوجيا ،  فهذا أندري فيرجيز يقول عنها في " معجم الفلسفات الكبرى": << إن الفينومنولوجيا منهج و أسلوب في البحث أكثر من كونها  مجموعة من النظريات التي يمكن مقاربتها كنسق مغلق و مكتمل . >>(6)

وفي هذا السياق لابد أن أعترف ابتداء بكوني أستشعر صعوبة الإجابة على استفهام الدلالة السابق طرحه ؛ لأنه إذا كانت الفينومنولوجيا منهجا ، فلا سبيل إلى فهمها إلا بمعاينتها و هي تشتغل كإجرائية ميتودولوجيةذلك لأن المنهج لا يلمس بالحديث عنه ، بل يلمس بمعاينته و هو قيد العمل و الاشتغال. ومن ثم فالسؤال عن معنى الفينومنولوجيا ينبغي أن يقلب إلى سؤال عن  منهجها ، و يجب أن ينأى ما أمكنه ذلك عن سؤال المذهب و النسق. فالتفكير في سؤال الدلالة يجب أن يتجه إلى دراسة هذه الفلسفة كإجرائية منهجية .
 ومن هنا أحبذ أن أسائل الفينومنلوجيا كيف تفكر أكثر من مساءلتها عن  أفكارها ،  ومن ثم إذا وردت الفكرة فينبغي أن ترد في سياق بحثها كحصيلة للتفكير و كمدخل لدراسة الإجرائية المنهجية التي أثمرتها .
لكن إذا كان سؤال المنهج عندنا بهذه القيمة، فإن سؤال النسق و المذهب، على الرغم من استعصاء اختزال الإجابة عليه، و على الرغم من استهجانه من قبل الذوق الفينومينولوجي، فإننا نصر على استحضاره في هذا المقال ليس فقط على سبيل تقديم هذه الفلسفة و التعريف بها، بل أساسا بقصد استثمار محاولة الإجابة عنه للإمساك بمأزقها الإشكالي.
فكيف السبيل إلى الإمساك بدلالة هذه الفلسفة المتفلتة من كل تحديد و اختزال ؟
قد يعترض البعض علينا بأن ما سبق هو إيغال في افتعال الصعوبة و تضخيم لها ، إذ ليس أسهل للخروج من مأزق تعريف الفينومينولوجيا، من استخدام تعريف هوسرل ذاته لفلسفته ، بدل الإحالة على المعاجم و القواميس و تأويلات الدارسين لها . إلا أن هذا الاعتراض يذهل عن حقيقة أخرى هي أن هوسرل نفسه ليس لديه تعريف واحد لفلسفته ، بل لديه ركام ضخم من التحديدات و التعاريف ،التي بلغت حسب إحصاء  زيلمن ما يقرب من عشرين تعريفا(7) بعضها يناقض بعضا ، و هو إحصاء نراه أقصر من أن يحيط بمجمل الفكر الهوسرلي، لأنه تم في نهاية العقد الثاني من  القرن العشرين ، أي قبل نشر "التأملات"، و ما بعدها من تآليف و مخطوطات الأرشيف.و هذا التعدد والتناقض في تحديد دلالة الفينومينولوجيا من قبل مؤسسها يرجع بالضبط إلى الحركية الإبداعية التي وسمت تفكيره،  وإلى التحولات و التطورات المنهجية و المعرفية التي كثيرا ما انبجست في سياق نموه و تطوره ، و لو اقترحنا فقط بعض العناوين سنجد هوسرل مثلا في الطبعة الأولى من "أبحاثه المنطقية" (1901) يعرف الفينومينولوجيا بكونها "سيكولوجيا وصفية" ، بيد أنه في الطبعة الثانية (1913) لن تتحدد هذه كسيكولوجيا... بل ك"علم الماهيات"(8)، لكن في "أفكار1" سترد الفينومينولوجيا بوصفها توجها في البحث لا يستهدف بلوغ الماهيات بل بلوغ الأنا الترنسندنتالي بما هو أساس الفلسفة والعلوم. بينما في "تأملات ديكارتية"(1929) سيرد الأنا الترنسندنتالي على نحو دفع الفينومينولوجيا الهوسرلية نحو الإيغولوجيا ... لهذا فالتعريف المذهبي لهذه الفلسفة لابد أن يسقطنا في بعض المزالق المنهجية ، و لذا فأفضل مدخل نراه موصلا إلى فهم الدلالة المذهبية للفينومينولوجيا ليس استحضار عبارات التعاريف، بل استحضار صيغ تناصها، أي مقاربتها من حيث علاقتها بغيرها من الفلسفات، مع التركيز على النظر إلى مجمل تطورها المعرفي ، و في هذا السياق أقول :
لو كانت أنساق الفكر و إتجاهات التفلسف ، في تعالقاتها و تناصها ، تستجيب للترميز الرياضي لقلت إن :
هوسرل = ديكارت + كانط .
بيد أن إتجاهات الفكر و مذاهبه هي في تعالقها و تواصلها لا تستجيب لمثل هذا التكميم الجبري، فطبيعة اتصالها أشبه ما تكون بالامتزاج الكميائي الذي تنضاف فيه عناصر إلى أخرى فيتحصل من هذه الإضافة كائن كميائي جديدلايمكن أن يعرف بمجرد تعداد عناصره ، بل ببيان كيفية تعالقها و امتزاجها . و لذا فهوسرل حتى بإقتراضه مفاهيم هامة من ديكارت و كانط فهو ليس كانطيا و لا ديكارتيا ، بل له تميزه و خصوصيته حتى في البناء الدلالي لتلك المفاهيم المستعارة ، فضلا عن التوظيف المنهجي الذي أعطاه لها.
غير أننا إذ نؤكد تميز و تمايز المشروع الفينومنولوجي الهوسرلي عن المشروعين الديكارتي و الكانطي ، فإن استحضارهما يرد عندنا هنا كمقدمة ضرورية لفهم دلالة المشروع الهوسرلي ، فهوسرل هو بلا ريب ديكارتي باستحضاره للكوجيتو ، و هو أيضا كانطي بتحويله لهذا الكوجيتو إلى كينونة ترنسندنتالية لكنه قبل هذا و ذاك هوسرلي في كيفية طرقه للكوجيتو و نوع التوظيف المنهجي الذي منحه إياه ، ونوع المكانة التي رفع إليها هذا الأنا الترنسندنتالي ، فجعله من جهة أساسا للعلم ، و من جهة أخرى مجالا للإستكشاف . ثم إنني أزعم أن الجمع بين ديكارت و كانط عند هوسرل أكبر خطرا من أن ننظر إليه على أنه مجرد جمع لمفاهيم أو إستثمار لفلسفتين ، إنه بالأحرى جمع بين مأزقين ، فهوسرل في نظري إستبطن مأزق الأنا وحدية الديكارتي ، ثم أضاف إليه المأزق الترنسندنتالي الكانطي أيضا ، فنتجت عن هذا التوليف الفريد فلسفة فريدة في سمتها متميزة في مأزقها !! و إن بيان ذلك في تقديري هو أفضل تعريف ممكن للفينومنولوجيا ، فلنبدأ به ، متخذينه في آن واحد مدخلا تعريفيا و نقديا للفلسفة الهوسرلية :
 إذا كان السمت الكانطي يجعل الفينومنولوجيا الهوسرلية ترنسندنتالية و إذا كان هذا الوصف لائقا بها ، و خاصة إبتداء من مرحلة " أفكار الأولى " و إلى ما تلاها من نتاجات و مؤلفاتحتى إكتملت و استوت كفلسفة ترنسندنتالية مع " تأملات ديكارتية " ، و " المنطق الصوري و المنطق الترنسندنتالي " . و إذا كانت النظرية الترنسندنتالية تحيل عند كانط على ما هو " قبلي" و " سابق على التجربة" و "متعال عليها" ، و إذا كان كانط في بحثه في إشكال المعرفة إنتهى إلى توكيد ضرورة القول بوجود مقولات منظمة للتجربة الحسية و متعالية عليها ، وأن هذه المقولات لاترجع إلى التجربة كما تزعم الفلسفة التجريبية بل هي من تجهيزات العقل/الفهم القبلية الشارطة لفعل المعرفة ، فإن هذا التحويل الذي قام به كانط للكوجيتو الديكارتي هو ما سيقف عنده هوسرل مستثمرا إياه و مضيفا إلى دلالته و توظيفاته المنهجية ، حتى انتهى به الأمر إلى موقف تكويني إيغولوجي رهن الأنطلوجي بالأنا الترنسندنتالي.
فكيف تشكلت هذه الإضافة التي قدمها مؤسس الفينومنولوجيا بناء على قراءته للكانطية و الديكارتية ؟
إن أفضل مدخل يقربنا من ملامسة هذه الإضافة هو- في تقديري- استحضار المؤاخذات التي يؤاخذها هوسرل على ديكارت و كانط ، إذ من خلال ذلك نتمكن ، ليس فقط ، من إدراك الإضافة المعرفية الهوسرلية فحسب ، بل إدراك حتى أوجه تمايزها عن الفلسفات و النظم الفكرية التي تواصلت وتناصت معها. فما هو إذن موقف هوسرل من الديكارتية و الكانطية ؟ و ماهي انتقاداته و مؤاخذاته عليهما ؟  وكيف انتهى بمزجه بين هذين الموقفين الفلسفيين إلى السقوط في المأزق التكويني و فقدان الأنطلوجيا ؟
إن المؤاخذة الكبرى التي لهوسرل على ديكارت هو كون هذا الأخير إكتشف و لم يستكشف ! أي إكتشف الكوجيتو و لم يدرك أنه مجال و اسع جدا يحتوي كل شيء ، مجال حقيق بأن يستكشف و يقام بداخله . ولقد كان هذا حسب هوسرل هو سبب الإفقار الدلالي الذي اتسم به الكوجيتو عند ديكارت ، هذا الإفقار الذي يرجع إلى الموضعة الديكارتية للكوجتو كمقدمة رياضية و تشغيله للمنهج الرياضي للإستنباط و الاستنتاج منها ، و هذا هو جوهر النقد الهوسرلي للمشروع الديكارتي و هو النقد الذي إختزله مؤسس الفينومنولوجيا يوما بقوله : << إن الإكتشاف و التخلي هما عند ديكارت عملية واحدة >>(9) قاصدا بعبارته تلك أن ديكارت عندما إكتشف الكوجيتو كان في ذات الوقت يرحل عنه. و بناء على هذا النقد الهوسرلي لديكارت يمكن أن نمسك بفكرة أولى لكنها على قدر بالغ من الأهمية في محاولة التعريف بالفينومينولوجيا ، حيث يمكن أن نختزل دلالتها بالقول إنها في مختلف لحظاتها و مستوياتها كفلسفة ترسندنتالية  مجرد  إستكشاف للكوجيتو .
و بقولنا هذا لا نلتقط فقط أهم خاصية تسم المشروع الهوسرلي ، بل نلتقط أيضا ما نعتبره أهم المآزق و أكثر الإشكالات الفينومينولوجية إستعصاء على الحل و التجاوز . و هو الإشكال الذي نكتفي في هذا المقال بالإلماح إليه بهذا الاستفهام :
ألا يعتبر الدخول الهوسرلي إلى قارة الكوجيتو ، و استحسان المقام داخلها سقوطا في مزلق الأناوحدية و عجزا عن الخروج من شرنقة الأنا ؟ ألا يدل إستمداده للفكرة الديكارتية القاضية بالأولوية الأنطلوجية للكوجيتو على سقوطه في تذويب الأنطلوجيا داخل الإيغولوجيا ؟ هذا التذويب الذي به نفهم دلالة النقد الهيدغري للهوسرلية ؟ أم أن معبر القصدية قادر على الوصل بين الإيغولوجيا  و الأنطلوجيا ؟
و إذا كان ما سبق هو جوهر المؤاخذة الهوسرلية  على الديكارتية ، فما هي  مؤاخذته على كانط ؟ و كيف يمكن أن نستثمر دراسة علاقة هوسرل بالكانطية وإقتراضه مفهوم الترنسندنتالي منها للكشف عن مأزق آخر داخل فكره الفينومينولجي ؟
ينتقد هوسرل الكانطية في تصورها " للظاهرة " ، و خاصة في طرحها لمفهوم " الشيء في ذاته " ( النومين ) ككينونة نومينية متمايزة عن الظاهرة ، إذ يقول في تأملاته ليست الفينومنولوجيا  << مثالية كانطية تترك الإمكانية مفتوحة أمام وجود عالم من الأشياء في ذاتها >>(10). فالفلسفة الهوسرلية هي أساسا ومن تسميتها " فلسفة الظواهر " فلسفة الفينومين لا فلسفة النومين .
و في هذا نمسك بإحدى أهم دلالات هذا المشروع ، كما نمسك مرة أخرى بإحدى أوجه إخفاقاته:
 فمن حيث هي فلسفة ظواهر ، فإنها حولت هذا التحديد إلى تعبير منهجي خلاصته ذلك الشعار الهوسرلي الذي نادى به هوسرل منذ "أبحاثه المنطقية"  " إننا نريد العود إلى الأشياء ذاتها " (11). و هذا العود هو ما يجعل هوسرل يلح في كثير من نصوصه على كون الفينومنولوجيا هي أساسا منهجا وصفيا . ومن حيث هي منهج " رؤية " و" وصف " ، فهي عنده لا تبدأ إلا بإنجاز موقف جذري يتم فيه تعليق التأويلات و الأفكار السائدةو العود إلى الأشياء ذاتها لرؤيتها و وصفها.و في هذا بالضبط نفهم معنى حرص هوسرل على وصف فلسفته  بكونها فلسفة و ضعية أكثر من وضعية الوضعيين. ففي الفقرة 20 من " أفكاره الأولى" يقول هوسرل : << إننا نحن الوضعيون الحقيقيون >>(12).و ذلك في سياق نقده للتجريبيين و الوضعيين المتعلقين بالعالم .
فكيف يفهم هوسرل الموقف الوضعي الحق ؟
إن الوضعي الحق عند هوسرل ليس هو التجريبي ، بل هو الفينومنولوجي ؛ لأن هذا الأخير لا يأتي إلا بعد أن يعلق الأفكار و التأويلات معطيا الأولية لموقف العود إلى الأشياء ذاتها ووصفها .
غير أن الاستفهام الذي يطرح هو هل ثمة إمكانية منهجية فعلية للإمساك بالأنطلوجي ؟ هل ثمة حقا عود إلى الأشياء ذاتها ؟ أليس استمداد هوسرل مفهوم الترنسندنتالي من كانط ، و إعلائه من شأن المحايثة و توكيده ضرورة العود إلى الوعي ، أي العود إلى الأنا الترنسندنتالي ، و تقديمه ك"واهب الدلالة" ، وككينونة تقوم بفعالية التكوين إضعاف لمبدأه المنهجي الآخر ، أقصد مبدأ العود إلى الأشياء ؟
 إذا كان هيدغر يعلي من شأن هذا الموقف المنهجي الفينومنولوجي ، موقف "العود إلى الأشياء ذاتها "جاعلا منه " الحكمة الخالدة للفينمينولوجيا "(13) ، محولا بذلك مشروع الفينومنولوجيا إلى مشروع أنطلوجيا ، فإننا إذ نستعيد هنا  المشروع الهوسرلي ننتهي من مدخل مغاير إلى نفس ما  إنتهى إليه هيدغر و إنغاردن و باتوكا و غيرهم من تلامذة هوسرل اللذين إنتقدوا تحوله الترنسندنتالي – حيث نرى أن الهوسرلية قد أخفقت في المحافظة على مسلكها المنهجي هذا . و مدخلنا إلى هذا النقد هو أساسا مقاربة مفاهيمية للجهاز المفاهيمي المحدد للعقل الفينومنولوجي ، حيث نحرص في هذه المقاربة على الرجوع إلى لحظاته المنهجية و نسقه المفاهيمي للتوكيد على اختلال البناء الدلالي للمفاهيم عند هوسرل ، وعلى الإخفاق المنهجي لمشروعه ، مختزلين قراءتنا النقدية للهوسرلية في كون العود إلى الأشياء ، الذي كان له تقدير و تثمين في متن هوسرل " أبحاث منطقية " ، سيستحيل في المرحلة الترنسندنتالية البادئة ب"أفكار1 " أي مع إكتشاف منهج التكوين إلى عود إلى الذات و الوعي لا عود إلى الأشياء .
وتأسيسا على ذلك فإن هوسرل بمزجه بين الديكارتية و الكانطية هو في تقديري لم يفعل سوى الجمع بين مأزقيهما معا !! مأزق الأناوحدية الديكارتي مضيفا إليه الترنسندنتالية الكانطية التي بما هي شرط لإمكان المعرفة ، تحولت عند هوسرل  إلى فعالية تكوينية إنتهت به إلى رهن الأنطلوجيا بالإيغولوجيا ، فأسقط بذلك فينومنولوجيته في العجز عن ضمان العلمية و الموضوعية ، الأمر الذي إزداد بسبب من تأليهه للأنا الترنسندنتالي و عجزه عن استحضار الغير و تشكيل البينذاتية .
الهوامش

1.                 FINK (EUGEN) : << De la phénoménologie >> trad. DIDIER FRANCK,MINUIT,PARIS 1974.P7
2.                  FINK(EUGEN) : << De la phénoménologie >> IBID P97.
3.                   Levinas. (Emmanuel): << Totalité et infini , essai sur l’ extériorité >> Livre de poche, Paris,1990,p13
4.                  HENRY.(MICHEL): << PHÉNOMÉNOLOGIE MATERIELLE >> P.UF.1ed,PARIS1990,P5.
5.                  DESCOMBES.(V): << la phénoménologie pour nous>>in :<>cerf ,PARIS 1991 ,p34.
6.                  vergez.(Andre):  art “ phénoménologie “ in << Dictionnaire des grandes philosophies >> sous  la direction de Lucien Jerphanon , Privat, Toulouse1973.p287
7.                 Zelman ( wolf elbert) :<< Etude sur la Phénoménologie >> Nancy 1930 ,p 63.
8.                 Ibidem.
9.                 Husserl .(Edmond): << Recherches logiques >> tome2,trad HUBERT ELIE,LOTHAR KEKEL ET RENE SCHERER , P.U.F,PARIS1962 ,p 8.
10.            Husserl .(Edmond): << Idée de la phénoménologie>> trad., alexandre lowit.          P.U.F. PARIS,1970.p111.
11.            Husserl .(Edmond):<< Méditations cartésiennes>> trad  GABRIELLE PEIFFER ET   LEVINAS. (EMMANUEL)VRIN 1969p72.
12.            HUSSERL : << IDEES DIRECTRICES POUR UNE PHÉNOMÉNOLOGIE>>  TRAD PAUL RICŒUR  ,ED 6 ,GALLIMARD ,PARIS 1950, P69.
13.            Heidegger.(MARTIN) : <>trad. Bohem et   dewalhens, Gallimard 1977, p 44

النزعة المعرفانية COGNITIVISME

النزعة المعرفانية
COGNITIVISME

سرو محمد*
تندرج النزعة المعرفية في إطار المقاربات الجديدة لفهم ميكانيزمات الفكر ووظائف المعرفة، ذلك أن النصف الثاني من القرن العشرين شهد اهتماما كبيرا ومتزايدا بالعمليات المعرفية، كما شكلت مصطلحات مثل الإدراك الحسي والتذكر والاستدلال وحل المشكلات قطب الرحى من لدن كافة العلوم المعرفية من أجل الوصول إلى تفسير كيفية عمل العقل واكتساب المعرفة ومعالجة المعلومات.
إن مصطلح النزعة المعرفية  COGNITIVISME هه النزعة النظرية التي تهتم وتعنى بالأنشطة الإنسانية العليا( أي العمليات المعرفية cognition) كما تتبنى الفكرة القائلة بإمكانية معرفة هذه الأنشطة معرفة علمية.
ماذا يعني مفهوم cognition أو cognitif؟ إن مفهوم cognitif الذي  ينحدر من الكلمة اللاتينية cognosco يفيد في معناه الواسع كل ما له علاقة بالمعرفة connaissance : من الإدراك إلى الذكاء دون إغفال اللغة والذاكرة والتعلم. يمكن القول، على وجه التقريب، أن العلوم المعرفية sciences cognitives تجمع العلوم التي تدرس المعرفة connaissance بجميع أشكالها. إن التمييز الدقيق بين مفهوم معرفة connaissance ومفهوم معرفة cognition هو الذي أوضحه لوني حيث يعرف connaissance كاعتقاد حقيقي ومبرهن عليه، أو بصفة عامة تمثل مناسب مبرهن عليه. ونسمي كذلك connaissance الوظيفة التي تنتج هذا النوع من التمثلات. أما cognition فهي التي تشمل المعارف connaissances والاعتقادات مع غض النظر عن قيمتها الحقيقية، أي أن بعض هذه المعارف والاعتقادات يمكن أن تكون خاطئة أو غير ملائمة، ويمكن أن نضيف إليها التمثلات المناسبة. ونسمي cognition الوظيفة التي تنتج وتستعمل هذا النوع من التمثلات. إن مفهوم الوظيفة يجب أن يفهم داخل هذا السياق ويعادل : "الذي ينتج نتيجة معينة، كيفما كانت وسائل وطرق هذا الإنتاج".[1]
هكذا يظهر، أن مفهوم cognition يتضمن المعرفة الحقيقية connaissance والمعرفة غير المبرهن عليها، كما أن من بين الخصائص المشتركة للاستعمالات المختلفة لهذا المفهوم هو أن الأجسام عندما تكشف عن سلوكات مختلفة في تفاعلها مع البيئة، فإنها تمتلك معرفة cognition عن هذه البيئة، أي أنها تكون قادرة على تمثلها. إن هذا التعريف للوني هو التعريف الشائع لمفهوم cognition.
تفترض النزعة المعرفانية الحياة النفسية مؤلفة من عدد معين من العمليات المنطقية للمراقبة، والتنظيم، والضبط، والحساب تماما مثل الحاسوب. فالذهن تبعا لذلك، مبني على عدد من التمثلات الرمزية، يرتبها وينظمها، يدبرها ويعالجها وذلك مثل ما يفعل الحاسوب: معالجة المعطيات ثم تنفيذ العمليات. واضح أن مقاربة معالجة المعلومات التي تنتمي لميدان المعلوميات قدمت خدمة جليلة ومنفعة كبيرة على سبيل فهم الفكر؛ وذلك ما كان ممكنا لولا حصول ثورة في طريقة دراسة الفكر الإنساني. إنها قفزة إبستيمولوجية بلا شك، وتصورها يبدو مرتبطا بمحاولات تقعيد الاستنباط الرياضي لنشاط الدماغ. لقد بات ينظر لهذا الأخير وكأنه آلة عصبية machine neuronale خاضعة لقواعد منطقية. علم التحكم cybernétique المنسوب لوينير Wiener وآلة تورينك Turing ومنطق بول Boole كلها عناصر أساسية كانت وراء توجيه الاهتمام بآلة ذكية طبيعيا: الدماغ وصنع آلة ذكية اصطناعيا: الحاسوب. وقد شكل التقارب والتداخل بين هاتين الآلتين ميدانا خصبا لتعميق الأبحاث في هذا المجال؛ حيث يعتبر الدماغ على غرار الحاسوب، جهازا معقدا لمعالجة المعلومات ويشتغل بفضل أنظمة للتخزين: الذاكرة وعمليات التحليل المنطقي مثل البحث في الذاكرة أو التحقق من المقولات.
إن الفكرة المؤسسة لهذه المقاربة تمحورت في الثلاثينات من القرن الماضي حول مسألة تصور الذكاء الطبيعي وكيفية تقليده بالآلات وبالتالي إنتاج ذكاء اصطناعي. وقد تجلى الرهان الذي كان مطروحا آنذاك في المعادلة التالية: إذا كان إنتاج الآلة يقلد صنعة الطبيعة إلى الحد الذي لا يمكن معه التمييز بينهما، فإن ذلك يعني أن الدماغ ليس إلا آلة من بين آلات أخرى. هذه المعادلة ارتكزت على القضية المنطقية التالية: فكر هي عد، وعد هي معالجة الرموز، فإذا فكر تعني نشاط رمزي. وإذا تتبعنا هذا التسلسل المنطقي فإننا سوف نصل إلى مماثلة المعرفة الاصطناعية cognition artificielle والتي هي نتيجة عمل الحاسوب بالمعرفة الطبيعية cognition naturelle التي تنتج عن عمل الدماغ وبالتالي فإن هذه المعرفة أو تلك هي من نتاج آلات مفكرة، أو بمعنى آخر، تلك العمليات الفيزيائية الرياضية التي تتحلى بخاصية معالجة الرموز. هذه هي الأفكار التي دفعت المنطقي آلان تورينك سنة 1936 إلى ابتكار آلة اشتهرت باسمه.[2]
تحاول العلوم المعرفية تقديم بيانات عن سير نظام الدماغ مبرزة الدور الكبير للتمثلات، التي يمتلكها الشخص في حالة معينة، والتي على إثرها تحصل المعالجة. إن الشخص كفاعل معرفي agent cognitif الذي يعالج، بطريقة آلية تلقائية أو مضبوطة، معلومات رمزية ذات طبيعة مختلفة (لفظية، رقمية، رمزية) يصير قابلا لتقديم استدلالات واستنتاجات، وبلورة خطط عمل مع ما يرافق ذلك من إمكانية تصميمها ومراقبة تنفيذها. إن التمثلات تشكل إذا الأساس أو العمود الفقري لبناء معرفي cognitif حقيقي حيث تقوم عدة مستويات متسلسلة ومتفاعلة بمعالجات متوالية من أجل شيء قد يكون حل مشكلة أو الجواب عن سؤال. أمام مختلف الأعمال والعقبات التي يمكن أن يصادفها الإنسان، تعمل المعرفة cognition على تنشيط المعلومات المفيدة ثم انتقاء المعاني الملائمة وأخيرا بناء تأويلات أو إسقاطات التي هي تمثلات داخلية والتي على إثرها يتصرف الجهاز المعرفي cognitif. لذلك تقدم الفرضيات المعرفية نفسها كمجال خصب لدراسة تطور الذكاء عند الطفل وطرق التعلم. إن هذه التمثلات تسمح بالانتقال من المستوى الدلالي (اللغة) إلى المستوى البيوكيميائي (الخلايا العصبية) أو بعبارة أخرى من الذهن إلى الدماغ . وهذا هو بالضبط الموقف المعرفاني cognitiviste الذي يتحدد بحساب التمثلات الرمزية.
ماذا تعني إذن فكرة أن المعرفة cognition تتعرف بالحساب penser c’est calculer و intelligence as camputation، وهذا التعبير الأخير ينسب لهيربير سيمون.[3]  المعالجة الحسابية هي العملية التي تقوم على الرموز، أي على العناصر التي تمثل كل ما يتناسب معها. الفكرة المركزية هنا هي التمثلات représentation أو القصدية intentionnalité [4] .
إن السلوك الذكي، من منظور معرفي، يستلزم القدرة على تمثل العالم بطريقة معينة. ذلك، أنه لا يمكن لنا تفسير السلوك المعرفي إلا إذا افترضنا أن الفاعل يتفاعل، من خلال نمثله للعناصر المناسبة للحالات التي يوجد فيها؛ وبقدر ما يكون هذا التمثل صادقا ووفيا، بقدر ما يكون سلوك الفاعل ملائما. إن كل جسم، مفروض أنه يتكيف ويؤثر في محيطه من خلال التمثلات الداخلية التي يكونها عن هذا المحيط، والأفعال الخصوصية اتجاه هذا الأخير، بالمقابل، وبناء على التجربة التي يكتسبها الجسم من خلال الأفعال بل وحتى الاعتقادات، فإن هذه التمثلات تتغير وتتطور باستمرار بطريقة تكيفية.
إن هذه المسائل ما زالت تثير الكثير من النقاش، فهناك من يعتقد أن ليس هناك تمثلات وسيطة، بل مجموعة أو سلسلة من الآلات مستقلة بذاتها automate ومترابطة فيما بينها تحاكي تصرف الخلايا العصبية؛ وهذا هو الموقف الترابطي connexioniste. ذلك أن هيمنة علم المنطق، كمقاربة أساسية خلال المناقشات العلمية والفكرية المؤسسة للعلوم المعرفية التي دارت في الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي، لم تكن محط إجماع من طرف جميع العلماء. ففي ندوات ماسي [5]  مثلا، متعددة الاختصاصات التي انعقدت ما بين 1946 و1953 وبلغت في المجموع عشر دورات وشارك فيها رياضيون، علماء النفس، فيزيولوجيون، علماء الاجتماع، لسانيون وأنطروبولوجيون؛ تبين أن عدم وجود قواعد، ولا جهاز للترجمة المنطقية داخل الدماغ الذي لا يتوفر على مواقع محددة لتخزين المعلومات، كان موضوع نقاشات ساخنة. لقد تجلى، بدلا من ذلك، أن الدماغ يشتغل انطلاقا من ترابطات interconnexions مكثفة داخل شبكة موزعة ومنظمة، بحيث أن مظهر الرباطات بين كافة الخلايا العصبية تتمكن من التغيير مع التجربة. هذا النظام يدل على استعداد وقابلية للتنظيم الذاتي auto organisation الذي ليس له أي تجسيد في المنطق. هذه الاقتراحات جعلها السياق التاريخي غير مؤثرة في حينها في المشهد الفكري، وبقيت مضمرة تحت سلطة الأرثوذوكسية المعرفانية، حتى أواخر السبعينات من القرن العشرين حينما تسرب إليها بعض الانتعاش. أسباب هذا التجديد تكمن بالتأكيد في بروز الأفكار المتعلقة بالتنظيم الذاتي في الفيزياء والرياضيات غير الخطية( non linéaire ) وكذلك بزوغ الحواسب ذات الدرجة العالية من الاتقان[6] .
لكن هناك سببين رئيسين منسوبين للمعرفانية أديا إلى إعادة تقييم التنظيم الذاتي:
- السبب الأول هو أن المعالجة الرمزية للمعلومات تستند على قواعد تستخدم النظام التسلسلي ( séquentiel ) مما يؤدي إلى انحصار النظام عندما تكون المهمة الواجب إنجازها تتطلب عددا كبيرا من العمليات التسلسلية؛ وذلك بخلاف المعالجة المتوازية ( traitement parallèle ).
- الثغرة الثانية ترجع إلى كون المعالجة الرمزية محلية؛ فضياع أو إتلاف جزء من الرموز أو قواعد المعالجة يعرقل السير العادي للنظام. بالمقابل ، طريقة الاشتغال الموزعة ( distribué ) تؤمن نسبيا سيرا متساوي الجهد والقوة وكذلك حصانة ضد الإتلاف[7] .
هكذا، سيكون الدماغ مرة أخرى مصدر أفكار همت ميادين أخرى من العلوم المعرفية. إن نقطة الانطلاق هنا ليست وصف رمزي مجرد، بل مجموعة من المكونات البسيطة غير الذكية تعبر، مثل الخلايا العصبية، عن خاصيات إجمالية مهمة عندما ترتبط فيما بينها، هذه الخاصيات الإجمالية تنسجم بدقة مع السلوك المعرفي المدروس. من هنا فإن اسم الترابطية يكمن في أن الفعل يقع في الحقيقة عند ترابط الخلايا العصبية.
الانقلاب الإبستيمولوجي واضح إذا إزاء النماذج الكلاسيكية، والميكانيكية، والتسلسلية للمعرفة. ذلك أن الشبكة الترابطية تكمن في كونها مجموعة من الآلات ذاتية الحركة متصلة فيما بينها من خلال نموذجية بسيطة تحاكي شبكة الخلايا العصبية[8] . من جانب آخر، فإن معلومات الشبكة تخزن في نقاط اتصالاتها، ولكننا لا نعرف إلى حد الآن ( الأبحاث الجارية تتناول هذا الجانب ) كيف يمكن لشبكة الخلايا العصبية الصورية أن تكتسب عفويا المعلومات، حتى ولو أن قوة هذه الشبكات تكمن بالضبط في قدرتها على التعلم الطبيعي انطلاقا من معلومات تتلقاها من البيئة، وذلك خلافا للنماذج المعرفية الكلاسيكية التي يجب دائما برمجتها. هذه القدرة ليست القوة الوحيدة للشبكات الترابطية، بل إن سلوكها يكشف عن خاصيات فريدة: منها استطاعتها تعميم أو تجديد معطيات مبتورة أيضا، وحتى ولو كان نظامها مختل أو أتلف جزئيا، فإنها تبقى مؤهلة للتعلم من جديد وتقديم نتائج مقبولة من دون أن يكون ذلك خاضعا للبرمجة المسبقة. لكن من يأتي المعنى؟
في إطار المقاربة الترابطية المعنى ليس حبيسا داخل الرموز، كما هو الحال في المعرفانية، بل هو مرتبط بالحالة الإجمالية للنظام ويبقى متوقفا على النشاط العام داخل ميدان معين مثل التعلم أو التعرف.
تحدثنا لحد الآن عن تيارين يتقاسمان الساحة الفكرية والعلمية ويطرحان تصوران لمقاربة وتفسير الظاهرة المعرفية cognition؛ يتعلق الأمر كما نعرف بالمعرفانية والترابطية. لكن هناك من يعيب عن هاتين المقاربتين كونهما يغيبا بعض الأبعاد الأساسية في المعرفة، بل حتى الجمع بينهما لا يتوفر على وضع مفهومي واضح. لذا، يجب تشجيع مقاربة جديدة ومختلفة تماما عن سابقاتها.
هذه المقاربة الجديدة ترى أن تعريف المعرفة تميز لحد الآن بغياب كلي للحس المشترك [9] . بالنسبة للمعرفانية كما بالنسبة للترابطية، معيار تقييم المعرفة يكمن دائما في التمثل الملائم لعالم خارجي معين مسبقا في حين أن نشاطنا المعرفي يكشف أن هذه الصورة يشوبها كثير من النقص.
يعتقد مؤسس هذه المقاربة الجديدة- فرانسيسكو فاريلا -[10]  أن القدرة الكبيرة لكل معرفة حيوية تكمن بالذات، وعلى نطاق واسع، في طرح الأسئلة وثيقة الصلة بالمواضيع التي تنبثق في كل لحظة من لحظات حياتنا. هذه الأسئلة ليست محددة مسبقا بل "حركية " énactées ونبرزها faire émerger على خلفية من الخلفيات، ومقاييس مناسبة الصلة هاته يمليها دائما الحس المشترك في سياق معين.
هذا التعريف "للحركية" énaction [11]  يندرج في سياق نقد مفهوم التمثل. في العالم الذي نعيش فيه، إذا تم التعبير عنه بطريقة طبيعية بدلا من كونه محدد مسبقا، فإن مفهوم التمثل لن يلعب في المستقبل دورا رئيسيا.
إن فاريلا في مقاربته لهذا النقد، ينطلق من التصور الذي يفيد أن التقليد الغربي برمته استند على منح الامتياز للفكرة القائلة بأن المعرفة connaissance هي مرآة الطبيعة، وبأن إعادة النظر في هذه الفكرة لم يطرح إلا حديثا جدا مع ظهور أعمال بعض المفكرين، من أمثال هايدجر، وميرلوبونتي، وفوكو الذين نقدوا صراحة مفهوم التمثل. لقد اهتم هؤلاء بظاهرة التأويل في معناها الدائري الرابط بين الفعل action والمعرفة savoir، بين من يعرف وما هو معروف. هذا الارتباط الدائري التام بين الفعل والتأويل هو الذي أوحى لفاريلا عبارة بروز faire émerger. أيضا، وبما أن هذا المنظور التحليلي يهتم خصوصا بتغليب كفة مفهوم الفعل على نظيرتها الخاصة بمفهوم التمثل، فإنه يكون جديرا تسمية هذه المقاربة الجديدة ب"الحركية".
إن هذه النظرية ترى أن المعرفانية والترابطية همشتا الحس المشترك الذي بقي غامضا وملتبسا ولم يكن موضوع تقصي وبحث جدي، لكن هذا الالتباس وجد له صدى في الفلسفة. وقد كان للظاهراتية قصب السبق في هذا المجال، حيث خاضت نقاشا مفصلا حول هذا الموضوع وطرحت أسئلة من قبيل: لماذا ترتكز المعرفة على أن عالمنا ملازم لأجسامنا ولغتنا وتاريخنا الاجتماعي؟ يتعلق الأمر بتأويل متصل ومستمر لا يمكن أن تسيجه، بطريقة ملائمة، مجموعة من القواعد والمسلمات، ما دام يخضع للفعل والتاريخ (السيرورة)؛ إنه عالم المعاني والدلالات نتملكه بالإقتداء والمحاكاة، ليصبح جزءا لا يتجزأ من عالمنا الموجود قبلا.
إن التحدي الحقيقي الذي تطرحه هذه المقاربة أمام العلوم المعرفية هو إعادتها النظر في الحكم المسبق الأكثر تجذرا في التقليد العلمي الذي يفيد أن العالم كما ندركه، مستقل عن الذي يدركه.
إذا كان علينا أن نستخلص، بخلاف ذلك، أن المعرفة cognition لا يمكن فهمها، بطريقة ملائمة، بدون الحس المشترك الذي ليس شيئا آخر سوى تاريخنا المادي والاجتماعي، فيجب علينا أن نستنتج أن الذي يعرف والذي هو معروف أي الذات والموضوع يشكلان شيئا مشتركا ومتزامنا. المعرفة هي، بعبارة فلسفية، أنطولوجية. 
لقد عرضنا للتيارات الثلاثة التي قاربت الظاهرة المعرفية بصفة عامة وفي شموليتها، والمقام هنا لا يسمح بعرض الانتقادات والمؤاخذات التي وجهت لهذا التيار أو ذاك نتيجة ما قد يكون شابه من نقص أو اعتراه من خطأ من زاوية معينة.
هذه الظاهرة تميزت أيضا بكونها شكلت نقطة التقاطع لعدة علوم وميادين متنوعة؛ منها ما ينتمي للعلوم التطبيقية كالذكاء الاصطناعي والعلوم العصبية، أو للعلوم الإنسانية كعلم النفس المعرفي واللسانيات والفلسفة التحليلية. ولعل هذا التنوع هو الذي دفع البعض إلى تسميتها بعلوم وتقنيات المعرفة[12] ، لكن التعريف الشائع هو علوم المعرفة.
فالذكاء الاصطناعي هو بصفة عامة قدرة الآلة على تنفيذ عمليات تعتبر ذكية كالتعرف على الأشكال، والتعلم، وأخذ القرار. هناك مدرستين: إحداهما تعتبره علما معرفيا هدفه استيعاب واستنساخ ميكانيزمات اكتساب المعارف والفهم، والأخرى ترى أنه فرع من المعلوميات يستثمر إمكانيات الواقع لابتكار أحداث مصطنعة [13] .
علم النفس المعرفي هو فرع من علم النفس الذي يدرس المعرفة ويعالج الميكانيزمات العقلية وبالتالي أنشطة الدماغ. إنه يرتكز على ملاحظة سلوك الأفراد في محاولة للكشف عن استعمال الصور العقلية وتعيين العوامل التي تؤثر في هذا الاستعمال. منذ عدة سنوات شكلت مقاربة معالجة المعلومات الأفق الكبير لعلم النفس المعرفي التي تعتبر التطور العقلي متكونا من تعاقب عدة مراحل[14] . يقول تيبيرجيان: "يعتبر علم النفس المعرفي الفرد كجهاز لمعالجة المعلومات، حيث يحول المعلومات من طبيعة فيزيائية إلى معلومات من طبيعة عقلية أو تمثلية" [15] .
إذا كان اليوم معظم علماء النفس يعتقدون أن الفكر واللغة ينسجان علاقات وثيقة، فيجب على اللسانيات أن تلتحق بحقل العلوم المعرفية. وهذا اللقاء مع اللسانيات يمر عبر ثلاث قنوات:
- مشاكل الترجمة الأوتوماتيكية للنصوص إلى لغات أجنبية من طرف برامج الذكاء الاصطناعي، استلزمت تدخلها ومساعدتها.
- لا يمكن تصور انبثاق حركة العلوم المعرفية بدون إسهام قواعد العبارات اللغوية linguistique générative. فنظريات اللغوي الأمريكي نوام شومسكي حول قواعد العبارة grammaire générative، كان لها تأثير حاسم في التقارب بين اللسانيات والعلوم المعرفية الأخرى. ذلك أن تكوين وتأليف قواعد العبارة تسعى إلى إبراز البنيات النحوية syntaxique العميقة والغامضة للكلام حيث انطلاقا من ذلك يتم بناء الخطابات الخاصة.
- أخيرا تتقاطع اللسانيات اليوم، في عدة نقاط ميدانية متنوعة مع العلوم المعرفية؛ كعلم النفس اللساني، وعلم الدلالة، واللسانيات العصبية، والفلسفة التحليلية للكلام.
الفلسفة التحليلية أو فلسفة الذهن تهتم بنفس الإشكالية، ذلك أن أصالة العلوم المعرفية تكمن في تقريب الفلسفة من مختبرات البحث، وقد تمحورت الفلسفة التحليلية حول تقليدين مختلفين:
- التقليد الأوروبي الذي اتجه إلى دراسة الوعي الذي هو حامل للمعنى. ويمكن أن نصنف داخل هذا الاتجاه بيرجسون و ميرلوبونتي في فرنسا والتيار الفينومينولوجي الذي يمثله هوسيرل و هايدجر في ألمانيا.
- التقليد الأنجلوساكسوني الذي أخذ اتجاها آخر حيث غض الطرف عن الانطولوجيا (معرفة الكائن) ليهتم بقواعد الفكر. إن دور الفلسفة التحليلية هنا اكتفى بتحديد قواعد إنتاج الأفكار، ومن تم هيمن مبحث الكلام ومبحث منطق القضايا. في محاولة منها لتقعيد الاستنباط، أي توضيح القواعد المتبعة في تكوين القضايا والاستنباطات في العمليات العقلية، واجهت الفلسفة التحليلية الأنجلوساكسونية نفس الموضوعات والمسائل التي اعترضت طريق اللسانيات والذكاء الاصطناعي. على العكس من ذلك، الاتجاه الفلسفي الأوروبي الذي يتصور الفكر كظاهرة شعورية أو واعية، شكل مصدر الانتقادات الجذرية للإدعاءات التي تطالب بنمذجة الفكر [16] .
آخر حقل كبير للبحث في العلوم المعرفية تمثله العلوم العصبية. هذه الأخيرة لوحدها تكون فسيفساء من الميادين المتشابكة (البيولوجيا العصبية، الفيزيولوجيا العصبية، علم الغدد العصبي، علم التشريح العصبي....) التي تدرس الأسس البيولوجية والفيزيولوجية والتشريحية للدماغ حيث عرفت تطورا كبيرا خلال العشرين سنة الأخيرة.
لقد شهد علم الأعصاب المعرفي نشأته الأولى في سنوات 1980 التي اتسمت، مثلا، بظهور المدرسة الأولى الصيفية لعلم الأعصاب المعرفي في جامعة هارفارد، وتأسيس مجلة علم الأعصاب المعرفي (Journal of cognitive Neuroscience chez MIT Press) [17] .
وقد ساهم عاملين اثنين في تطور هذا العلم الجديد: العامل الأول ارتبط بالتقدم الهائل الذي عرفته المعلوميات حيث تمكن العديد من الباحثين من التوفر على حواسب غاية في الدقة مكنتهم من تقليد ومحاكاة الأنشطة المعرفية بواسطة شبكة من الخلايا العصبية الاصطناعية. أيضا ساهمت هذه الأنظمة ذات التقنيات العالية، في تطور أدوات المصورة الدماغية imagerie cérébrale .
نتيجة لذلك، شهد ميدان معرفة العلاقات الفيزيائية والكيميائية بين الخلايا العصبية انطلاقة باهرة، كما تمكن العلماء من تحديد التمركز الدقيق لمختلف الوظائف المعرفية؛ فنحن نعرف اليوم نسبيا المراكز الدماغية المسؤولة عن البصر والكلام والسمع.
إن إمكانية معاينة اشتغال دماغ سليم وكامل بطريقة "مباشرة" أثناء إنجازه مهمات معرفية متنوعة، أحدثت ثورة في ميدان العلوم المعرفية بكاملها، وأسست لمرحلة حاسمة في تاريخ العلوم وكذا في تاريخ الفلسفة، كما فتحت منفذا مباشرا على سبيل فهم ميكانيزمات وآليات الفكر.
نقرأ لبوسنير وهو أحد رواد علم النفس المعرفي في مجلة العلم سنة 1993: << الميكروسكوب والتليسكوب فتحتا، في زمانهما، حقولا فسيحة من الاكتشافات العلمية الغير المنتظرة، الآن وقد سمحت الأساليب الجديدة للمصورة برؤية الأجهزة الدماغية للفكر السوي والمرضي، فممكن أن تشكل المعرفة cognition البشرية فجر مرحلة غنية جدا.>> [18]
في الختام يمكن القول إن النزعة المعرفية إذا كانت يطرح للنقاش، بطريقة جديدة، المقاربات التقليدية لفلسفة المعرفة (خاصة تلك التي تنتمي إلى القرن 17 والمنحدرة من ديكارت وهوبز ولوك ولايبنتز ) على ضوء الذكاء الاصطناعي ( تماما مثل ما كان فلاسفة القرن 17 يتصورون الجسم البشري انطلاقا من علم الميكانيكا )، فإنه ( أي الاتجاه المعرفاني ) يرجع له الفضل في كونه تيارا استطاع أن يجمع ويؤلف بين مقاربات علمية متنوعة ومختلفة، كما أنها يحاول تأمل نتائج العلوم العصبية. إلا أن السؤال الذي يطرح نفسه هو هل هذا التيار مرتبط فقط بتطور الذكاء الاصطناعي أم أنه يقترح نماذج صالحة بكيفية دائمة.           

الهوامش


[1] - Le NY J.F., sciences cognitives et compréhension du français, PUF, 1989, p :26-27.
[2]-  Pour un maximum de détails sur la machine de TURING voir :
     Dupuy J.P., Aux Sources Des Sciences Cognitives, La Découverte, Paris, 1995, p : 22-30. 

[3] - Dortier J.F., Les Modèles Théoriques, Sciences Humaines, N°17, Mai 1992, p : 22.
[4] - Ce terme intentionnalité, les cognitivistes l’ont emprunté de Husserl, principal représentant de la phénoménologie transcendantale, à partir de sa théorie de l’intentionnalité qui s’est développée en deux phases : la première phase correspond exactement à ce que Jerry Fodor, dans son article sur le solipsisme méthodologique, appelle la théorie représentationnelle de l’esprit, et la seconde phase peut être rattachée à ce que Fodor appelle la théorie computationnelle des représentations. Ce terme a joué un rôle primordial dans la discussion conceptuelle des sciences cognitives, mais il est hors du propos de le discuter ici. Pour un maximum de détails voir :
- Dreyfus H.L., Husserl et les sciences cognitives, Les Etudes Philosophiques N°1, 1991, p : 3
- Dupuy J.P., Aux sources Des Sciences Cognitives, Op. citée, p : 91-119.    
[5] - Les Macy Conférences, publiées sous le titre de Cybernetics Circular Causal and Feedback Mechanisms in Biological and Social Systems, New York, Josiah Macy Jr. Foundation, 5 volumes. Pour plus de details concernant ces conferences voir: Dupuy J.P., op. citée, p : 68-73.
[6] - Varela J.F., Connaître Les Sciences Cognitives Tendance et Perspectives, Edition du Seuil, 1989, p : 53-56.
[7] - Ibid.
[8] - Vignaux G., Les Sciences Cognitives Une Introduction, Edition La Découverte , Paris, 1992, p : 314-317.
-[9] فضلنا هنا تعبير حس مشترك كترجمة لـ sens commun وذلك لكونه في نظرنا يندرج أكثر في سياق الموضوع الذي ندرسه، باعتباره مجموع  الدلالات والمعاني المادية واللغوية والتاريخية والاجتماعية التي نتملكها في تفاعلنا التكيفي الدائم مع العالم الخارجي: بخصوص
 التعابير التي ورد استعمالها في اللغة العربية انظر مثلا :Sens commun بلحاج عبد الكريم، التفسير الاجتماعي لسببية السلوك والوقائع الشخصية- مقاربة نفسية اجتماعية معرفية، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، الرباط، 2005، ص: 26.                    
[10] - Varela J.F., Connaître Les Sciences Cognitives Tendance et Perspectives, Op. citée, p : 89-117.
[11] - إن مصدر كلمة énaction هو اللغة الانجليزية to enact وليس لها أي مقابل في اللغة الفرنسية وصاحبها Varela)) استعملها لأنها تعبر في نظره عن التقارب بين الفعل l’action والفاعل l’acteur . أما مصدر كلمة faire émerger فهي الفلسفة الفينومينولوجية التي تترجم الكلمة الألمانية hervorbringen إلى faire émerger . وهذا التعبير في نظر فاريلا يتعارض على الفور مع émergence بإضافة فعل faire لأنه يفرض حركة أو سلوكا من طرف الفاعل ولا يتوقف فقط على القيمة الباطنية لما ينبثق(émerger). من جانب آخر فقد ترجمنا énaction بحركية لأن الفاعل عندما يفعل لا ينتج إلا حركة ثم لأنه- وهذا هو المهم- في نظرنا يصب في نفس المغزى الذي يفترض أنه يقرره صاحب المقاربة. بنفس الأسلوب تعاملنا أيضا مع لفظة faire émerger عندما ترجمناها ببروز. لكننا لاندعي أن هذه التسمية التي تبنيناها قائمة بذاتها بل نقترحها كإجراء ضروري يتطلبه النص.
[12] - Varela J.F., Op. citée p :21.

[13] - La Vallée I., La Pensée Artificielle ?, La pensée 282, p :31-32.
[14] - Fortin C. Rousseau R., Psychologie Cognitive,Une Approche de Traitement de L’information, Télé-Université, Presse de l’Université du Québec, 1992, p :3-4.
[15] - Weinberg A., Des Sciences du Cerveau aux Sciences de la Pensée :état des lieux, Sciences Humaines, N°17, Mai 1992, p :19. 
[16] -Ibid.
[17] - Koeing O., Vocabulaire des Sciences Cognitives, PUF, 1998, p : 6.
[18] - Posner M., Seeing the Mind, Science, 262, 1993, p : 673-674.
 
Free Hit Counter Search Engine Submission - AddMe