الأحد، 27 ديسمبر 2009

"فصل الكلام في مواجهة أهل الظّلام"






ننشر فيما يلي المقدّمة التي صدّر بها الأستاذ حميد زناز كتابه "فصل الكلام في مواجهة أهل الظّلام"، وقد نشرته رابطة العقلانيّين العرب بالتّعاون مع دار السّاقي. (الطّبعة الأولى، 2009) نصوص تواجه "الإعصار الدّينيّ"، متحلّلة من كلّ رقابة، زاهدة في كلّ حذلقة متلعثمة. (الأوان)
لم تستطع الحداثة أن تشقّ لها طريقا آمنا في صحراء الإسلام الشاسعة ولو كانت عقارب التاريخ تشير إلى نهاية العقد الأول من الألفية الثالثة. فالمرأة لا تزال حليفة الشيطان الرجيم وجهنّمُ هي دوما تلك العلمانية الآتية من الغرب المُلحد. ولا يزال الإرهاب الفقهيّ والنصيّ جاثما على الأرواح والعقول في الأغلب الأعمّ.
لقد سعيت عبر المداخلات التي يتضمّنها هذا الكتاب إلى تبيان استحالة وهُراء محاولة التوفيق بين الدوغما الإسلامية ومتطلبات الزمن الحديث. فالاجتهاد، ذلك الفانوس السحريّ الذي ترفعه النُّخَبُ المسلمة والمتأسلمة شعارا وتزعم من خلاله مواكبة العصر، ما هو في حقيقة الأمر سوى إعادة جدولة الأصولية. إنّ حرية الاعتقاد وحقّ التفلسف واستقلالية الفرد وحريّته في تسييرذاته والمساواة بين الجنسين، والتسامح وغيرها من القضايا الإنسانية المعاصرة،لا يمكن بأيّ حال من الأحوال أن تجد لها أجوبة معقولة في إطار الدين. وذلك أنّ الديانات كافة هي في الحقيقة معادية لحقوق الإنسان الأساسية.
إن حالة التخلّف والبطالة العقلية التي تعانيها البلدان الإسلامية ليست عَرضية، بل هي متجذّرة في عمق الهيكل الديني ذاته، وتعود أساسا إلى عدم الفصل بين أمور الدين وأمور الدنيا، بين قضايا الأرض وقضايا السماء.. فمن نافلة القول أنه بدون فصل غير مشروط بين الدنيا والدين ستصبح الظلامية المتعاظمة بمثابة مرحلة عليا من مراحل الإسلام في السنوات المقبلة.
ولأنني لا أحبّذ الخوض في تحاليل نظرية قد تحلّق فوق الواقع ولا أن أُثقل ذِهن َ القارئ بمصطلحات رنّانة فقد اخترت الاستئناس بشهادات رجال ونساء عانوا مرارة العيش في بلدان ظنّوا أنها أوطان. وقد استعنت بالتحقيق الصحفي معتمدا بنحو خاصّ على التجربة الذاتية والملاحظة العينية والذهنية المباشرة. وفضّلت لمسَ الواقع بدل التحليق في أوهام الأحلام النظرية. على أنني لا أبتغي من وراء هذه الصفحات إقناعَ أيّ كان، كما لا أودّ السقوط في حيادية جبانة. وإنما كان هدفي الأول والأخير هو فضح أولئك الذين يتسلّقون أكتاف العروبة والإسلام، و ذلك بالعودة إلى أقوالهم وأفعالهم والتفكير فيها ثم تحليلها وتبيين أهدافها. ثم إنّني أتساءل عن أسباب فشل المسلمين ولا سيّما العرب منهم حيث نجح غيرهم ، كما أتساءل عن سرّ مقاومة أغلبية المسلمين لأفكار التقدم والتحرّر. وأحاول الإجابة عن سؤال كثيرا ما قُمِع هو: كيف ولماذا روحَن التاريخُ دينَ المسيح وسيَّسَ دينَ محمّد؟
أحاول البحث بكل حرّية، وبعيدا عن التشنج والعُقد، عن الصندوق الأسود بين حُطام العالم الإسلامي، علّني أعثر على سرّ هذا السقوط الحضاري المتوالي. وفي تناولي لأخبار هذا العالم الإسلامي الذي غدا "الرجل المريض’ لعالم اليوم، لن أكتفي بقراءة القرآن كما يفعل بعض خبراء العالم الإسلامي، ولن أنتخب أحاديث تدعو إلى السلم ولا آيات تدعو إلى التسامح، بل سأفسح لضحايا تلك العلّة الكبيرة التي أصابت العقل في بلدان الإسلام مجالا للتعبير عن آرائهم وأفكارهم. وسأناقش أفكار المسؤولين ومواقفهم على الصعيدين السياسي و الثقافي إزاء علاج ذلك المرض العُضال الذي أسميتُه: "الإدمان الديني".
كتبت من دون حذلقة، وأطلقت العنان لقلمي، فجال كما شاء دون رقيب ولا حسيب، وراح يحفر في قول هذا وذاك مدحا أو قدحا، ويبحث عن سرّ استماتة الأقلّية وانبطاح الأغلبية أمام رياح الإعصار الديني. ولقد سعيت إلى استحضار مثل شعبي هنا وتأمل محتوى مقال أو كتاب هناك، منتقلا من الذاتي إلى العام، ومن المكتوب إلى الملموس ومن الروحانية إلى الرجم!
لقد أردت أن أشارك في هذا الصراع المصيري الشامل الدائر بين أطراف الجسم الإسلامي المتشظيّة. فحاولت أن أتابع المواجهة التاريخية بين الثابت والمتحوّل، وأن استنطق اللامعقول، وأحاجج الذين يريدون أسلمة الوجود، لعلّني أُسهم في اكتناه المأزق الذي وقع فيه مسلمو اليوم.


تاريخ الملائكة

بقلم نبيل فياض

في هذه الحلقة من "تاريخ الملائكة"، نحاول أن نثبت أنّ ملائكة اليهوديّة، وبالتالي المسيحيّة والإسلام، مأخوذون عن ديانات قبلها، خاصّة الزرادشتيّة. ونحن هنا نعتقد أن اليهوديّة، في شكلها البدئي، كانت ترى أن العلاقة إلهي- بشريّ مسألة أقلّ من عاديّة، ولا حاجة لوسيط بين الطرفين. ففي ميثة خلق العالم، النسخة اليهوية، من سفر التكوين ( 4:2 – 24:3 )، نجد آدم في الجنّة يسمع "خطى الرب الإله وهو يتمشّى "، فنادى الربّ الإله الإنسان وقال له: "أين أنت؟"، قال الإنسان: "إنّي سمعت وقع خطاك في الجنّة"؛ وفي ميثة الطوفان يخاطب الربّ نوح دون وسيط؛ " قال الله لنوح: ادخل السفينة أنت وجميع أهلك" ( تك 1:7 ). ورغم أنّ اليهوديّة أقحمت المفهوم "ملاك" في نصوص مبكّرة إلى حدّ ما من التكوين، حيث يظهر "ملاك الربّ" أوّل مرّة في الآية 7:16 في رواية هاجر وابنها اسمعيل، نجد أن الله ذاته يصارع يعقوب، في رواية يهودية شهيرة، فيخلع حق وركه، ويسميه إسرائيل، لأنه " صارع الله " (23:32 ). لكن يبدو أن اليهود وجدوا أنه من الأكثر احتشاماً أن يكون ثمة وسيط بين الإلهي والبشري، خاصة مع التقائهم بثقافات ما بين النهرين وفارس، فازداد انتشار الملائكة في الأسفار العبرانيّة، وتحديداً في تلك التي تنتمي إلى زمن لاحق.
الملائكة تعريفاً:
في الديانات القائمة على مفهوم الوحي، الإله والبشر بعيدون عن بعض. من هنا، فالملائكة تجسّر الهوّة بين الطرفين. الملائكة تسبّح بحمد الله، تنفّذ إرادة الله، وتحمل كلام الله. كذلك فالملائكة تساعد الناس في الوصول إلى الخلاص أو أن تنال امتيازات خاصّة. أكثر من ذلك، فحين تعمل الملائكة نيابة عن الله، يمكن لها أن تؤثّر بقضايا بشريّة عبر أفعال مثل مكافأة المؤمنين ومعاقبة الآثمين ومساعدة المحتاجين.
في كثير من الديانات العالميّة، الملائكة كائنات روحانيّة تعمل وسائط بين الله والبشر. كرسل لله، يمكن للملائكة أداء أغراض كثيرة. ودورهم يمكن أن يكون تعليم أمر، أو إفهام البشر حول مصيرهم. كذلك تلعب الملائكة دوراً هامّاً جداً في اللاهوت الخلاصي حين تقوم بتدوين أفعال المرء الصالحة أو الطالحة في هذه الدنيا، وتمكّن الإله في الحياة الأخرى من أن يدين بعدل هذا الإنسان وفق سجلاته.
بالمقابل، تميل الملائكة لأن تلعب أدواراً أقل شأناً في الأديان ذات الآلهة العديدة. وفي الديانات التي تعتبر أن الكون كلّه مقدّس وأنّ الإله والإنسان لهما الجوهر ذاته، الملائكة أقل أهمية. فليس هنالك ثمة حاجة لهم من أجل تجسير الهوة بين الآلهة والبشر. مع ذلك، حتى في هذه الديانات، ثمة كيانات روحانيّة تشبه الملائكة يمكن لها مساعدة الناس فيما يتعلّق بالإله.
اليهوديّة والزرادشتيّة:
في عام 586 ق.م.، غزت قوات الإمبراطوريّة البابليّة اليهود، فدمّروا هيكلهم وحملوا معهم جزءاً من السكّان اليهود إلى السبي. وكان المسبيون مشكلين على نحو خاص من المتعلمين ومن الطبقة العليا إضافة إلى أفراد من العائلة المالكة. استمر " السبي البابلي " خمسين عاماً تقريباً. عام 539 ق.م.، غزا الفرس، بقيادة الملك كوروش الأخميني، بابل، وعام 538 ق.م.، أصدر الملك قراراً قال فيه إنه يسمح لليهود بالعودة إلى وطنهم الأم. لم يُطلق فقط سراح المسبيين، بل قام كوروش، وإلى حد ما بعض خلفائه من الأخمينيين، بدعم إعادة بناء الهيكل أيضاً. وكان الدافع لسياسة كوروش هذه ليس فقط تسامحه الديني ( شجّع أناساً آخرين من الوثنيين على التمسّك بدياناتهم الخاصّة ) بل حكمته السياسيّة أيضاً؛ ومن يتم التعامل معه بنوع من الكرم لا يرجّح له أن يثور. لكن لم يكن كل اليهود راغبين بالعودة إلى الوطن. ففي سنوات السبي، وضع الشعب اليهودي من الذين تكيّفوا مع العيش هناك في بلاد ما بين النهرين أسساً لعيشه، مستقرين هناك ومنغمسين في الأعمال وحتى في السياسة. وهكذا، فإن يهوداً كثر لم يعودوا إلى وطنهم الأم، مع أنهم أبقوا على تمسكهم بيهوديتهم الدينيّة. فواصلوا حياتهم في وطنهم الجديد، ومع ترسيخ دعائم الإمبراطوريّة الفارسيّة، ارتقى بعض اليهود المسببين إلى مناصب عليا في خدمة البلاط الإمبراطوري.
ثمة ملاحظة مغرقة في الأهميّة تتعلّق بالتاريخ الديني للشعب اليهودي، وتحكي عن تقسيم ديانة هذا الشعب زمنيّاً: ديانة إسرائيل القديمة، ويهوديّة ما بعد السبي. ومنذ منتصف القرن العشرين، أعلن ماثيو بلاك بشكل لا لبس فيه في الـ Peake’s Commentary، أن " ما نعرفه عن اليهوديّة، باعتبارها متميّزة عن ديانة إسرائيل القديمة، أنها ظاهرة ما بعد سبيية ". وكونها " ما بعد سبيية " يعني أنها مدينة بالكثير للملوك والوزراء الزرادشتيين الفرس الذين منحوا اليهود فرصة " العودة " من السبي. لكن الحقيقة أن بلاك ليس أول من أدلى بهذا الرأي. فقبله نجد الأستاذ الأمريكي في كامبردج، لورنس هـ ميلز، الذي ترجم كثيراً من الأفستا إلى الإنكليزية ونشر عملاً عنوانه، زرادشت، فيلو، الأخمينيون وإسرائيل، عام 1903، وعملاً آخر حمل عنوان، ديانتنا نحن في فارس القديمة عام 1913، والكتابان أشارا إلى مديونيّة اليهوديّة لزرادشت والفرس. بل إن سي دبليو كينغ، قبل ميلز بأعوام، كتب عام 1887 قائلاً، إن اليهود أخذوا ملائكتهم، إيمانهم بخلود النفس، اعتقادهم بالحياة ما بعد الموت، الدينونة الأخيرة وفكرة الثواب والعقاب بعد الموت، " الأخيرة تتم على بحيرة مشتعلة "، من " مخطط زرادشتي " . وهو ما أوصل جي ف موور إلى الاستنتاج عام 1927: " إن علماء كثر مقتنعون أن منظومة الأفكار اليهوديّة برمتها استولى عليها اليهود من الزرادشتيين ".
إن الديانة الفارسيّة التي أسسها زرادشت، والتي كان أنبياؤها يدعون بالماجي، كان لها أثر على العالم وهو ما لا يعترف به إلا قلة اليوم. إن الزرادشتيّة هي أول ديانة ظهرت على الأرض وادعت أنها منزلة، وهكذا فإذا تمكنا من إثبات اعتماد هذه الديانة التي تدعي أنها منزلة على الأخرى، فسوف تكون الزرادشتيّة هي المعطية لا المتلقية.
في سفر إستير من الكتاب المقدّس العبراني، نجد أفضل تأريخ لا يخلو من ميثولوجيا لقصّة العلاقة الفارسيّة-اليهوديّة. فقد كان اليهود المقيمون في بلاد فارس معرضين للإبادة بسبب حقد وزير اسمه هامان – من أخطاء محمد الشهيرة ربطه هامان بفرعون - ، فتمّ خلاصهم بفضل تدخّل استير، وهي يهوديّة أصبحت ملكة، يرشدها عمها مردخاي. فانقلب السحر على الساحر، وشنق هامان وحلّ مردخاي محلّه، وقتل اليهود أعداءهم. وأقيم عيد البوريم للاحتفال بذكرى هذا الانتصار، وأوعز إلى اليهود أن يحتفلوا به كل سنة. وما زالت عادتهم هذه قائمة في ربيع كل عام.
بعودة إلى عالم الحقائق يمكننا القول، إنه أثناء نهاية حقبة السبي، كان أوّل احتكاك هام بين الثقافتين اليهوديّة والفارسية، وذلك من خلال اليهود الذين كانوا يعيشون وقتها في الإمبراطوريّة الفارسيّة. ومن الواضح في التوراة أن التفكير اليهودي تغيّر بعد السبي. والسؤال هو التالي: هل أن هذه التغييرات كانت نتيجة للقاء الثقافي بين المفكّرين اليهود والإيرانيين، أو أن مرد هذه التغييرات صدمة السبي في الوعي الجمعي اليهودي؟ فخلال السبي، كان على اليهود ليس فقط أن يبدّلوا كيفيّة عبادتهم، كونه لم يعد لديهم هيكل أو قرابين حيوانيّة والتي كانت مركز إيمانهم، بل كان عليهم أيضاً أن يغيّروا كيفية تفكيرهم بالله. فالمفهوم اليهودي عن الله كحام قبلي، والذي كان سينقذهم من أن يغزوا أو يسبوا، كان عليه أن يجتاز إعادة نظر ( أجمل من عالج مفهوم اليهوديّة للإله، وإن بلغة فلسفيّة- شعريّة، كان نيتشه في " عدو المسيح ").
في اعتقادنا أن العنصرين الحاضرين هنا، واللذين أوحيا بالتغييرات في يهودية ما بعد-السبي: ليس فقط التفكير اليهودي الجديد المتعلّق بالله والإنسانيّة، بل أيضاً التماس مع الزرادشتيّة، ديانة الإمبراطوريّة الفارسيّة. لكن من ثم يطالعنا سؤال جديد: كيف وصل اليهود القدامى إلى تعلّم الزرادشتيّة؟ من غير المرجح تماماً أن يكون العلماء والمفكّرون اليهود عرفوا على نحو مباشر يوماً الكتب الزرادشتيّة المقدّسة، أي الغاثات ( النص المؤسس للديانة الزرادشتيّة، والذي يعزا إلى النبي زرداشت بالذات ) أو الياشتات ( تراتيل تمتدح العديد من الآلهة الوسيطة والأرواح الحارسة، متبناة من الميثولوجيا ما قبل الزرادشتيّة ). إن الاستخدام الكهنوتي للأفيستا ولغتها القديمة كان سيبدو عائقاً بين اليهود وهذا النص المقدّس. لكن معظم تراث الديانة الزرادشتيّة، الذي يعرفه ويمارسه معظم الناس العاديين، موجود في التقليد الشفوي: أي عبر كلمة الفم، لا دراسة الأسفار المكتوبة. هذا التقليد الشفوي كان يتضمّن قصصاً حول الله، الخليقة، الصراع الأخلاقي والكوني بين الخير والشر، الدينونة الإلهية ونهاية العالم. كان التقليد الشفوي سيتضمن أيضاً كل الرموز الزرادشتية المعروفة كالنار، النور والظلمة، إضافة إلى صلوات وقصص حول اليازاتات أو الكائنات الروحيّة الوسيطة والنبي زرادشت. وهذه هي كل العناصر المكوّنة لما يمكن أن ندعوه بالزرادشتيّة " الكلاسيكيّة " ( كما تطوّرت عن زرادشتيّة الغاثات " البدئيّة " ). هذه هي الطريقة التي التقى بها اليهود الزرادشتيّة – عبر الحوارات الخاصّة والتجارب المدنيّة والسياسيّة، وليس من خلال الدراسات الدينيّة المعياريّة. وكونه أعيد تصنيع الديانة اليهوديّة بعد كارثة السبي، فقد بدأت هذه التعاليم الزرادشتية بالتسرّب إلى الثقافة الدينيّة اليهوديّة. بالمناسبة، تسرّب الثقافة الزرادشتيّة الشفويّة يمكن أن يذكّرنا بتسرّب الثقافة اليهوديّة الشفويّة إلى الإسلام، عبر شخص محمد الذي عرفنا من أكثر من مرجع إسلامي أنه كان يزور بيت المدراس ( بيت ها-مدراش ) حيث كان يتحاور مع الربانيين هناك، أو عبر من اعتنق الإسلام من اليهود، مثل ابن سلام وغيره.
إن غاثات زرادشت، التي تسبق كوروش بنحو من ألف سنة تقريباً، تصف الله بتعابير شاملة ومجرّدة؛ لكننا زمن الاحتكاك اليهودي-الزرادشتي، لا يبدو واضحاً على وجه الدقة نمطيّة التوحيد التي كان يؤمن بها الزرادشتيون. فهل كانت توحيدية حقيقية والتي تعبد إلهاً واحداً فحسب، والذي بالمقارنة معه تبدو الآلهة الأخرى إما شياطين شريرة أو أنها غير موجودة؟ هذا ما تبدو عليه توحيديّة زرادشت، لكنها ليست توحيديّة الملوك الأخمينيين الذين حكموا الإمبراطوريّة الفارسيّة، الذين كانوا قادرين على دمج توقير الآلهة الثانويّة ضمن عباداتهم، مادامت هذه الآلهة الثانويّة كانت تعتبر خلائق الإله الأوحد وليست آلهة بحد ذواتها. وقد كان اليهود ينظرون إلى الملائكة كوسائط شبه-إلهيّة، لكنهم لم يمضوا بعيداً كالزرادشتيين في تبجيل هؤلاء الوسطاء بتراتيل مدائحيّة كالياشتات.
لابد أن نشير هنا إلى أن التوحيد لم يأت إلى ديانة العبرانيين مرة واحدة. كان اليهود في فترة من تاريخهم يؤمنون بما يسمى علميّاً Henotheism، بمعنى عبادة إله أوحد والقبول في الوقت ذاته بوجود آلهة أخرى عديدة. يقول الباحث ك.ل. نول، إن " التوراة تحتفظ لنا بحديث يقول إن يهوه اعتاد أن " يعيش " في الجنوب، في أرض أدوم، وأن إله إسرائيل الأصلي كان إيل شدّاي ". وتلمّح قصص توراتيّة عديدة إلى الاعتقاد القائل إن الآلهة الكنعانيّة موجودة كلها وفي أيديها معظم السلطات في الأراضي التي تعبدها أو في أغراضها المقدّسة؛ فسلطانها فعلي ويمكن التضرّع إليها من قبل من يعتبرونها نصيرتهم. وهنالك روايات عديدة حول خوف الأمم المحيطة بإسرائيل من إله إسرائيل أو إجلالها له رغم استمرارها، أي الأمم، في عبادتها متعددة الآلهة ( أنظر مثلاً: 1 صم 4؛ 2 مل 5 ). لقد حظر على الإسرائيليين عبادة آلهة أخرى غير يهوه، لكنهم لم يكونوا موحدين بالكامل قبل السبي البابلي. ويشير الباحث مارك س. سميث إلى هذه المرحلة على أنها أحد أشكال monolatry ( عبادة إله واحد مع عدم إنكار وجود آلهة أخرى ). بل يبرهن سميث أن يهوه اجتاز صيرورة اندماج مع إيل وأن القبول بعبادات عشيراه كانت شائعة في حقبة القضاة. ويتم تفسير الاية 27:3 من سفر الملوك الثاني على أنها تصف قرباناً بشريّاً قاد الجيش الإسرائيلي الغازي إلى الخوف من شيموش.
إن الوصايا العشر لا تنكر ولا تؤكّد وجود آلهة أخرى. مع ذلك، وكما هو مدون في التاناخ، وعلى الرغم من تعاليم التوراه، غالباً ما يعبد الإله الشفيع يهوه مقترناً بآلهة أخرى مثل بعل أو عشيره أو إيل. وبمرور الوقت، انتحل الإله القبلي كل أسماء الآلهة الأخرى في عيون شعبه. ومن ثم اعتبر دمار الهيكل والسبي إلى بابل عقاباً إلهياً على عبادة آلهة أخرى. ومع نهاية السبي البابلي، صارت اليهوديّة في التاناخ توحيديّة صارمة. مع ذلك ظل هنالك على ما يبدو عناصر من " التعددية الإلهيّة " في أسفار توراتيّة بعينها، مثل استخدام دانيال المتكرر لعبارة " ربّ الأرباب "، خاصّة في المزامير. إضافة إلى ما سبق، كلمة إله في العبريّة (إيلوهيم) هي أيضاً بصيغة الجمع، وتعني " الأقوياء " أو " الحاكمين "، إن في العبرية أو في اللغات الكنعانيّة ذات الصلة. وهكذا " إيلوهيم " يمكن أن تشير إلى مجموعة من "الحكّام"، كالملائكة، الآلهة الكاذبة، بل حتى أصحاب السلطات من البشر بمن فيهم المسئولون أو القضاة ضمن إسرائيل، كما يصفهم سفر الخروج 6:21 و 8:22، دون انتهاك لمقاييس التوحيد في التوراة. في الترجمة العربيّة للنص العبراني يضيع المعنى الكامل للنص الأصلي حين يترجم إيلوهيم بمعنى الله في حين هو يعني هنا قاضيا أو حاكما. ويعتقد بعض الباحثين أنّ النص 3: 13- من سفر الخروج يصف اللحظة التي يخبر فيها يهوه موسى أنه هو إيل، الكائن الأسمى.
خلقت غزوات الإسكندر المقدوني في القرن الرابع قبل الميلاد أوّل ثقافة "عالميّة" (بالنسبة للعالم الغربي على الأقلّ)، استطاعت خلالها الشعوب والآلهة والأفكار الانتقال من جنوب أوروبا، عبر الشرق الأوسط، إلى إيران والهند، والعكس صحيح. وفي هذا العالم الكوزموبوليتاني، الهيليني، ازداد الاحتكاك بين اليهود والفرس، وصار تأثير الزرادشتية على اليهوديّة أكثر قوّة. ويتراءى لنا هذا التأثير بوضوح في الكتابات اليهوديّة المتأخرة مثل سفر دانيال وأسفار المكابيين، التي كتبت في القرن الثاني ق.م. في سفر المكابيين الثاني (غير موجود في التاناخ اليهودي، لكنه موجود في النسخة الكاثوليكيّة-الأرثوذكسيّة من الكتاب المقدّس)، تطالعنا رواية كتابيّة حول التماس اليهودي-الزرادشتي، إضافة إلى الشهادة الأولى حول نفط الشرق الأوسط. تعود هذه الوثيقة إلى العام 124 ق.م.، وهو ما يجعلها ضمن أحدث أسفار العهد القديم – تأخرها جعل القانون اليهودي لا يعترف بها. وفي الإصحاح الأول من هذا السفر، هنالك قصّة حول كيفيّة إعادة نار المذبح اليهودي إلى الهيكل بعد السبي. وقد كانت أعراف الهيكل اليهودي تتطلّب وجود نار مشتعلة على الدوام في المذبح (سفر الخروج 20:27)، مع أن هذه النار لا تمتلك الصفة " الأيقونيّة " الخاصة بالنار الزرادشتيّة المقدّسة. مع ذلك، وخلال تجديد الهيكل اليهودي، ظهرت هذه القصة وتم تكريرها في سفر المكابيين، بعدها بأربعمائة سنة: "فشاع ذلك (تجديد النار) وأخبر ملك فارس أنّ المكان الذي خبّأ فيه الكهنة النار حين جلائهم قد ظهر فيه ماء طهّر به نحميا والذين معه تقادم الذبيحة. فسيّجه الملك بعد التحقيق وجعله مقدّساً " (2 مك 1: 32-33). (نلاحظ هنا أنّ نحميا هو الذي أنشأ مع عزرا، في حوالي السنوات 445\425، جماعة اليهود الجديدة. وهناك مذكرات منحولة (2\13) تنسب إليه إعادة بناء المذبح والهيكل، مع أنّ المذبح قد دشّن منذ عام 538 والهيكل منذ عام 515 (عز 3\1 ت و 6\14 ت )). وفي الآية 20 من الإصحاح ذاته؛ يقال: "أرسل ملك فارس (يقال إنه أرتحششتا الأوّل ( 464-424 )) نحميا إلى هنا، فأرسل سليلي الكهنة إلى الذين خبّؤوا النار للبحث عنها". هذا يظهر دون لبس أنّ الكتّاب اليهود، زمن توليف سفر المكابيين الثاني على الأقل، كانوا يعرفون أن الزرادشتيين يبجلون النار – وهكذا، إذا كان الأمر برمّته صحيحاً، فهذا يعني أن الزرادشتيين عرفوا واحترموا التشابهات بين ديانتهم وديانة اليهود. والسائل المشتعل الذي يتحدثون عنه هنا هو البترول، حيث يدعى "نفطا"، وهي كلمة مكونة من كلمتين عبرية وفارسيّة.
يواصل التأثير الإيراني في دلائله البينة في الكتابات اليهوديّة التي تأتينا من الحقبة المعروفة بفترة "ما بين العهدين"، أي، بعد توليف آخر سفر قانوني من العهد القديم وقبل توليف العهد الجديد. وهذه الفترة تغطي زمناً يمتد من العام 150 ق.م. تقريباً، إلى العام 100 م. تقريباً. كتابات ما بين العهدين هذه تصف هرميّة معقدة من الكائنات الملائكيّة، الأمر الذي يمكن اعتباره صدى للمفهوم الزرادشتي حول بلاط اليازاتات المقدّس. أما الفكرة اليهوديّة حول رؤساء الملائكة الرئيسين السبعة، فلربما تكون مستوحاة من الأمشا سبنتا السبعة، وهم أرفع الأرواح الحارسة في الاعتقاد الزرادشتي، كما لاحظنا من الحلقة الأولى في هذه السلسلة. كان لليهود أفكارهم الخاصة حول الملائكة قبل أن يلتقوا الزرادشتية بزمن طويل، وفي اعتقادنا أن هذا المفهوم البدئي مأخوذ برمته عن شعوب بلاد ما بين النهرين؛ لكن الملائكة هنا كانوا بلا أسماء، تمثيلات غير مشخصنة لرسالة الله وفعله. مع ذلك، وبعد السبي، كان للملائكة اليهود أسماء وشخصيّات، كما تم الحديث عنهم أيضاً كحرس لظواهر طبيعيّة عديدة، مثل اليازاتات الزرادشتية تماماً، التي تناولناها بالبحث في الحلقة الثانية من هذه السلسلة. كذلك فإن الفكرة اليهوديّة- المسيحية حول "ملاك حارس"، ربما تكون مستلهمة من شخصيّة الفرافاشي الزرادشتية، وهو ملاك حارس لكل كائن بشري فرد.
تتعايش كلّ من الثنويّة dualism" الكونيّة" و"الأخلاقيّة" في الفكر الزرادشتي عبر تاريخ الديانة الطويل؛ فتاريخهم ليس تاريخ فكرة ثنويّة أخلاقيّة "بدئيّة" والتي "خلفتها" أو "أفسدتها" فكرة ثنويّة كونيّة. وانعكاس النمطين الثنويين موجود على حدّ سواء في التفكير اليهودي. فسفر التثنيّة التوراتي، مثل الأسفار الأولى الأخرى من العهد القديم، كان قد أعيد تحريره وربما أعيدت كتابته خلال السبي وبعده. وفي مقطع هام من سفر التثنية نلمح نسخة يهوديّة من الثنويّة الأخلاقيّة:
" أنظر! إني قد جعلت اليوم أمامك الحياة والخير، والموت والشر. إذا سمعت إلى وصايا يهوه إلهك التي أنا آمرك بها اليوم، محبّاً يهوه إلهك وسائراً في سبيله وحافظاً وصاياه وفرائضه وأحكامه، تحيا وتكثر ويباركك يهوه إلهك في الأرض التي أنت داخل لترثها. وإن تحوّل قلبك ولم تسمع وابتعدت وسجدت لآلهة أخرى وعبدتها، فقد أعلن لكم اليوم أنكم تهلكون هلاكاً ولا تطيلون أيامكم في الأرض التي أنت عابر الأردن لتدخلها وترثها. وقد أشهدت عليكم اليوم السماء والأرض بأني قد جعلت أمامكم الحياة والموت، البركة واللعنة، فاختر الحياة لتحيا أنت ونسلك… " ( تث 30: 15-19 ).
لكن رغم هذه الانعكاسات اليهوديّة للثنوية الأخلاقيّة، فإن مذهب " الثنوية الكونيّة "، بمضمونه الرمزي والميثولوجي، هو الذي أثّر بأكثر ما يمكن بالمفكّرين اليهود المتأخرين. وحتى قبل السبي، وبفعل تهديد الدمار الذي قد يلحق بالشعب اليهودي من قبل الامبراطوريات الغريبة، فقد كان الأنبياء اليهود يقدّمون الرؤيا تلو الرؤيا حول حرب وكارثة ليستا فقط سياسيتين، بل أيضاً كونيتان. وهذا النمط من النبوءات، بعد السبي، تطوّر إلى ما يعرف بالأدب الأبوكاليبتي. وهو نوع من القصص الديني، يتضمن الشعر والنثر للتبشير باستخدام مستوى رفيع من الرمزيّة الميثولوجيّة لوصف حرب ليست فقط كونيّة بين قوى الخير والشر، بل يمكن أن نجد هناك أيضاً مخططاً لنهاية الزمان القادمة.
منذ بداياتها، كانت التعاليم الزرادشتيّة تقول إنّ للزمن ولخليقة الله بداية ووسطا وزمنا نهائيّا، سوف تحاكم فيه كلّ الأنفس. ومن ثم طوّرت تعاليم زرادشت ووضّحت عبر مجموعة من المقولات الميثولوجيّة، التي استعير كثير منها من الآلهة والآلهات ما قبل الزرادشتيّة والهندو-إيرانيّة، إضافة إلى ميثات الصراع الكوني من بلاد ما بين النهرين. من ثم راحت الزرادشتيّة تعلّم أيضاً حول زمن مقدّس بعينه، بنياناً تاريخيّاً للعالم المخلوق. وغالباً ما يعزا للزرادشتيين إدخال الأخرويات، أو معرفة نهاية الزمان وأحداثه، في العالم الديني للغرب والشرق على السواء.
يقول بعض النقّاد إن اليهوديّة لا تدين للزرادشتيّة بشيء، بل العكس. وتوخيّاً للحياد والموضوعيّة البحثيّة نقدّم هنا مختصراً لرأي من هذا النوع. فقد دافع الراحل جيمز دارمستتر عن الرأي المعاكس تحديداً، مؤكّداً بالتالي أن الفكر الفارسي الأولي تتأثّر للغاية بالأفكار اليهوديّة. فقد أصرّ أن الأفستا التي بين أيدينا، ترجع إلى زمن متأخر وأنها أشبعت كثيراً بالعناصر الغريبة، خاصة تلك المأخوذة من اليهوديّة، إضافة إلى تلك المستمدة من الأفلاطونيّة الجديدة عبر كتابات فيلون. وقد أطلقت هذه الآراء قبيل وفاة الباحث الفرنسي عام 1894 بزمن قصير. ومنذ ذلك الوقت، تصدّى لها اختصاصيّون كبار، فحاربوها بقوّة. بالمقابل، ثمة من يقول إنه لا يمكن الوصول إلى قرار حاسم في صالح أي من الطرفين المتنازعين. ويضيف إنه ربما أن الحقيقة تكمن بين الطرفين الراديكاليين المتطرفين، ومن الممكن أنه حين نصل إلى تحديد دقيق لتفاصيل الديانة الآشوريّة والبابليّة، فلربما أن ذلك يلقى مزيداً من الضوء على معضلة مصدر هذه التشابهات، وربما تظهر أرجحيّة لتأثير مشترك فعل فعله على الديانتين الفارسيّة واليهوديّة.
وإذا كان ما طرحه هذا الباحث صحيحاً، لدينا كل المبررات للتساؤل عن السبب الذي يمنع المدارس الدينية والكنائس والكنس أن تروّج لحقيقة كهذه؟ وأية ديانة هي هذه اليهوديّة، والتي استطاعت أن تتحكّم وتسيطر على حكّام وكهنة واحدة من أعظم الامبراطوريات التي عرفها عالمنا حتى اليوم؟ وأن أولئك الذين قاموا بنشرها كانوا مجموعة ضئيلة من اليهود الأتقياء الذين أسرتهم امبراطوريّة سابقة مترامية الأطراف وقويّة. لكن الحياديّة البحثيّة تدفعنا إلى الاعتراف بأن المعضلة الحقيقية التي قد تواجهنا في بحثنا هنا هي في تحديد ما كانت عليه تعاليم زرادشت الأصليّة:
1 – كيف يمكن أن نميّز بين إصلاحات زرادشت وديانة القبائل الإيرانيّة قبله؛
2 – كيف يمكن أن نميّز بين ديانة زرادشت والديانة التي تقدّمها لنا الكتب الزرادشتيّة التي بين أيدينا الآن، مثل الأفستا.
لم تحلّ هاتان المسألتان إلى اليوم بالكامل، لكن ما نعرفه حتى الآن كاف لأن نقول بثقة تؤهلنا لأن نربك المتعصبين من اليهود والمسيحيين: الديانة اليهودية – وبالتالي المسيحية والإسلام – تضرب بجذورها في تربة الغزاة الفرس الذين أقاموها ليسوغوا مكانتهم كملوك للعالم.
بالمناسبة، فإن ما واجهنا في بحوثنا حول الأصل اليهودي للإسلام – ونحن نعارض ما يقوله الأب جوزف قزي في "أعربي هو أو قس ونبي" وكريستوف لوكسنبورغ في " القراءة السريانيّة الآرامية للقرآن" – يشابه تماماً ما واجهنا في بحوثنا حول الأصل الزرادشتي لليهوديّة: ماذا كان عليه شكل اليهوديّة عندما ادّعى محمد نبوته؟ وكيف وصلت إليه هذه المعلومات التي تبدو في غالبيتها من أصل أغادي غير تاناخي؟
تتشارك الزرادشتيّة واليهوديّة والمسيحيّة بسمات كثيرة للغاية إلى درجة أنه يبدو أن ثمة رباطاً بينها. فهل هذا الرباط موجود بالفعل؟ إذا كان الأمر كذلك، كيف حصل؟ وكم من التشابه بين هذه الديانات يمكن ردّه إلى تطوّر متواز، أكثر منه تماساً وتأثيراً مباشرين؟
أبسط إجابة على السؤال الأول هي، نعم، هنالك تأثير كبير للزرادشتيّة على اليهودية والمسيحيّة؛ لكن المعضلة هي صعوبة توثيق هذا بدقّة، خاصة في مراحل اليهوديّة الأولى. الدليل هناك، لكنه دليل "ظرفي" بالكامل وهو غالباً لا يصمد أمام المحاكمة البحثيّة الصارمة. مع ذلك، يمكن للمرء أن يتجرّأ ويقدّم هذه الأفكار بنوع من اليقين، والتي تحمل سمة أن الأرجح أن لا تكون ثمة طريق محددة لإثبات أنها حقيقية أو غير حقيقية.
كل الديانات تستعير من الديانات التي سبقتها وتتبنى موادّ قديمة لشريعتها الجديدة، واليهودية غير مستثناة هنا. والعالم الإيراني المتعلّق بالملائكة والشياطين، النور والظلمة، الله ونقيضه، وخط الزمن المقدّس، يدخل عالم الأبوكاليبس اليهودي. إن كثيراً من هذه الكتابات الأوكاليبتيّة موجود من حقبة "ما بين العهدين"، مثل سفر أخنوخ، وهو توليفة لرؤى تتعلّق بالملائكة، الشياطين، والدينونة الأخيرة. فالفكرة الأبوكاليبتيّة حول نهاية الزمان، إضافة إلى الدينونة الأخيرة من قبل الله مع حلول النهاية، تدينان بالكثير للفكر الزرادشتي.
هرميّات الملائكة التراتبيّة:
الملائكة في منظوماتها المختلفة، أو سوياتها المختلفة، كانت جزءاً من ميثولوجيا بلاد ما بين النهرين القديمة. ولاحقاً في العام 400 تقريباً للميلاد، وصف الفيلسوف اليوناني ديونيسيوس الأروباجيتي هرم الملائكة؛ واعتماداً على كتاباته، تصنّف الملائكة تقليديّاً في تسعة منظومات. المنظومة العليا من الملائكة هي السرافيم، يتلوها الكروبيم، العروش، السيطرات، الفضائل، القوى، المبادئ، رؤساء الملائكة والملائكة. ووفقاً لهذا المخطط، تكرّس الدائرة الأولى من الملائكة – السرافيم، الكروبيم، والعروش – وقتها لتأمّل الله. الدائرة الثانية - السيطرات، الفضائل، والقوى – تحكم الكون. والدائرة الثالثة - المبادئ، رؤساء الملائكة والملائكة - تنفّذ أوامر الملائكة الأعلى.
رؤساء الملائكة هم ملائكة فائقون أو ملائكة من سويّة أعلى موجودون في عدد من التقاليد، بما فيها اليهوديّة، المسيحيّة، الإسلام والزرادشتيّة. كلمة رئيس ملائكة باللغة اللاتينيّة مشتقة من كلمتين يونانيتين، "أرخه" بمعنى حاكم، و"أنخيلوس"، بمعنى مرسل. يقوم الملائكة بمجموعة من الوظائف في الهرم السماوي بما فيها القيام بالواجبات السماويّة والإدارة اليوميّة للأكوان. غالباً ما يوصف رؤساء الملائكة أيضاً بأنهم منغمسون في معارك روحانيّة مستمرّة مع الشياطين، أو أنهم رسل الربّ للتفاعل مع بني البشر.
بحسب التقليدين اليهودي والمسيحي، فإن عدد رؤساء الملائكة هو سبعة، مع أن المراجع تختلف فيما بينها في أسماء وهويات هؤلاء السبعة السماويين المرافقين لله. رؤساء الملائكة الأربعة المقبولون مسيحيّاً؛ هم: ميكائيل، جبرائيل، رفائيل، وأوريئل؛ أما الاختلاف فيدور حول وضعية كلّ من، راغوئيل، رميئل، حموئيل، جوفيئل، زادكيئل، سيميئل، أوريفيئل، زاخريئل، سيلافيئل، جيغوديئل، وبراحيئل. وكل اسم من هذه الأسماء المختلف على مكانتها اقترح بأنه بقية أحد رؤساء الملائكة في التيارات المختلفة إن ضمن اليهوديّة أو المسيحيّة.
بمرور القرون، راح الناس يصفون وظائف الملائكة بطرق مختلفة. وتطوّر دور الملائكة ليحظى بتفاصيل هائلة في الأديان القائمة على الوحي – نقل أو إفشاء الحقيقة أو الإرادة الإلهيتين للكائنات البشريّة.
لا بدّ أن نلاحظ هنا أنّ أسماء الملائكة كلّها مستمدة من اسم الإله "إيل" في اليهوديّة، الذي غالباً ما يرد بصيغة الجمع، إيلوهيم؛ وهو إله غير أصيل عبرانيّاً. هذا يعني أن الملائكة غير ذات ترابط وثيق باسم الإله اليهودي القبلي، يهوه؛ كبعض أنبياء التوراة، يصحاك (إسحق) مثلاً. لقد قلنا في مقالات عديدة أنّه كان ثمة تنافس بين الإلهين، الأصلي والمستورد، وجد أفضل صيغه في الصراع بين إسحق (يصحاك: يهوه يضحك) وإسمعيل ( يشماعإيل: إيل يسمع)، حيث انتصر يهوه بوضوح على إيل. لكن التسوية لم تحصل إلا في زمن لاحق، وهو ما عبّرت عنه الشخصيّة الأسطوريّة الأبرز في تاريخ الميثولوجيا اليهوديّة، أي، إيل ياهو النبي. والذي يعني اسمه حرفيّاً، إيل هو يهوه. إذن، الملائكة، كما يدلّ اسمها بوضوح، مفاهيم مستوردة أقحمت في اليهوديّة لأنه لا يعقل احتشاماً أن تظل العلاقة مباشرة بين الإله وأنبيائه.
يرى غالبيّة الباحثين اليوم، أنّ مفهوم الملائكة ورؤساء الملائكة ظهر أولاً في الديانة الزرادشتيّة. لكننا نعتقد أن المفهوم أقدم من ذلك، وكما أشرنا في القسم الأول من هذه الدراسة، كان لدى شعوب بلاد ما بين النهرين مفاهيمها للملائكة. وربما أنّ الكشوفات الأثريّة تدخلنا أعمق في التاريخ من الحقبة السومريّة. لكن ما بين أيدينا اليوم ينتهي عند السومريين، كنصوص مدوّنة. مع ذلك، نعتقد أن هذا التصنيف الهرمي المنظّم جاء فقط مع الزرادشتيّة، ومنها انتقل إلى اليهوديّة والمسيحية والإسلام. وكما أشرنا، تقول تعاليم الزرادشتيّة إن هنالك سبع قوى أو سلطات سماويّة، معروفة باسم الأمشا سبنتا، تعمل مع الله، أو تنبثق منه، لإدارة الكون. وجلّ الباحثين اليوم يرون أنّ هذه الفكرة تشرّبتها اليهوديّة أثناء السبي البابلي.
ليس ثمّة إشارة صريحة إلى رؤساء الملائكة في الأسفار القانونيّة في الكتاب المقدّس العبراني. مع ذلك، باستثناء أعمال متأخرة مثل دانيال، الإشارات إلى الملائكة غير شائعة. وأوّل إشارة إلى رؤساء الملائكة ترد في الأدب من فترة ما بين العهدين، كما في سفر عزرا الرابع 36:4. أما أول إشارة إلى سبعة رؤساء ملائكة فنجدها في سفر أخنوخ الأثيوبي (ترجمناه إلى العربيّة ولم ننشره)، حيث ترد قائمة السبعة كما يلي: ميكائيل، جبرائيل، رفائيل، أوريئل، راغوئيل، زراحيئل، ورميئل. من هنا جاءت الفكرة المقبولة اليوم على نطاق واسع في الدوائر الأكاديميّة الرصينة، بأن الاهتمام اليهودي بالملائكة تم تعلمه خلال حقبة السبي البابلي. يقول الحاخام شمعون بن لاقيش الطبراني (230 – 270م. تقريباً)، ( وهو أمورا بارز للغاية ) إن كل الأسماء الخاصة بالملائكة أحضرها اليهود معهم من بابل. في تقليد القبالة الربّاني، الرقم الذي يعطى لرؤساء الملائكة لا يقل عن سبعة عادة: اسم واحد جديد هنا، ساريئل. أحياناً نجد اسماً جديداً آخر هو حنيئل.
الزرادشتيّة واليهوديّة:
تأثر الرأي المتعلّق بالملائكة في اليهوديّة بالزرادشتيّة. فالميثولوجيا الزرادشتيّة تصف صداماً كونيّاً بين أهورا مزدا وأهريمن – قوتا الخير والشر مع جيوشهما من الملائكة والشياطين. ومثل أهورا مزدا، إله العهد القديم يهوه له جيش ملائكة. وهؤلاء الملائكة المحاربون يخوضون غمار حرب ضدّ قوى الشرّ بقيادة الشيطان، الذي يشبه أهريمن. وفي أعقاب الرأي الزرادشتي، تقسم اليهوديّة الكون إلى ثلاثة أقسام: الأرض، السماء (الجنّة) والجحيم. الأرض هي وطن البشر. السماء محجوزة لله وملائكته. الجحيم هو العالم المظلم للشيطان وأتباعه. والملائكة تقوم بدور متشابه في الديانتين، حيث أنها تربط السماء بعالم البشر وتكشف لهم خطط الله وقوانينه. إن وظيفتهم هي خدمة الله وتنفيذ إرادته. فهم يكافئون على الخير ويعاقبون على الشر والجور. كذلك فهم يساعدون الناس على فهم إرادة الله، ويأخذون أنفس الأخيار إلى الجنة.
مختصر إجمالي:
نحاول في هذه الفقرة أن نختصر الأفكار الكثيرة الواردة في مقالتنا هذه، دون أن نشيؤ بالطبع إلى ضرورة متابعة السلسة من باديتها. لاشك أن مواضع التشابه بين الزرادشتيّة واليهوديّة، ومن ثم بين الأولى من جهة والمسيحيّة والإسلام من جهة أخرى، تبدو كثيرة وملفتة. فأهورا مزدا، إله إيران الأعلى، كلّي العلم، كلي الوجود، والخالد، المعطى قوّة الخلق، والتي يمارسها بشكل خاص عبر وساطة سبنتا مانيو ("الروح القدس")، ويحكم الكون بوساطة الملائكة ورؤساء الملائكة، يمدّنا بأقرب مواز ليهوه، إله اليهود، ومن ثم الله، إله المسلمين، يمكن أن نجده في العالم القديم. لكنّ قوة أورموزد (أهورا مزدا) معاقة من قبل عدوّه، أهريمن، والذي ستدمّر سطوته مع نهاية العالم. الشيطان، بجيشه من الملائكة الساقطين أو الأبالسة، يقدّم لنا الموازي الفعلي والحقيقيّ في اليهودية- المسيحيّة- الإسلام لأهريمن (أنغرا مانيو) الزرادشتي. بل يبدو لنا أحياناً أنّ قوّة الشيطان تتفوّق على قوّة يهوه- الله في ما يسمى بالديانات السماويّة. هذا يعني، رغم زعم ما يسمى بالأديان السماوية أنها توحيدية بالمطلق، أن الثنوية غير غائبة فيها عبر نقيض إله الخير، الشيطان. وقد أشار الباحثان الربّانيّان اليهوديّان، شور وكوهوت، واللاهوتي المسيحي، ستيف، إلى كثرة التشابهات بين الديانتين محط دراستنا.
بقي أن نقول، إنه ربما ساعدت الثنويّة الإلهية في الزرادشتيّة علماء اليهود في التخلّي عن شكل وحدانيتهم الملتبس، إن عبر الـ Henotheism أو الـ monolatry ، من أجل الوصول إلى وحدانيّة تبدو مطلقة، لأن شيطانها يشوبها برائحة الثنويّة إياها.

http://www.alawan-sa.org/%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%84%D8%A7%D8%A6%D9%83%D8%A9-4-3.html
 

الثلاثاء، 22 ديسمبر 2009

كيف انتقل "يهوه" إلى الإسلام؟

بقلم سلمان مصالحة




صيغة "يهوه" التّوراتيّة:
لقد رأينا، استنادًا إلى ما ورد في التّوراة، أنّ ثمّة إجماعًا في التّراث الدّيني اليهودي على أنّ المصطلحات العبريّة "إهْيِهْ"، و"إهْيِهْ أَشِرْ إهْيِهْ"، ثمّ الصّيغة الأكثر شيوعًا ألا وهي صيغة "يهوه"، هي الاسم الصّريح، الاسم الأعظم والأقدس للّه، ولذلك فهو لا يُلْفظ كما هو بل يُلفظ "أدوناي"، وذلك حذَرَ الانتقاص من هذا الاسم الأعظم. وعلى ما يبدو، يستند هذا الحظر على التّلفُّظ بالاسم الصّريح "يهوه" إلى ما ورد في الكلمة الثالثة، من بين الكلمات (= الوصايا) العشر، الّتي ذكرها اللّه في التّوراة: "لا تَنْطِقِ اسْمَ يهوه إلهكَ سَوْءًا: فَلَنْ يُبَرِّئَ يهوه الَّذِي يَنْطِقُ اسْمَهُ سَوْءًا." (خروج، فصل 20: 6). لقد لعب يهوه دورًا كبيرًا على مرّ التاريخ اليهوديّ، واستنادًا إلى ما ورد في التّوراة هنالك من يذهب بعيدًا في التّفسير الأسطوريّ فيقول إنّ الاسم "يهوه" كان منقوشًا على سيف الملك داود لدى لقائه مع جوليات: "فَقَالَ دَاوُدُ للفلِسْطِيّ: أنْتَ تَأْتِي إلَيَّ بِسَيْفٍ وَبِقَنَاةٍ وَبِرُمْحٍ، وَأَنَا آتِي إلَيْكَ بِاسْمِ يهوه صباؤوت [= الأجْناد]، إلهِ مَعَاركِ إسْرائيلَ الّذِي جَدَّفْتَهُ." (صموئيل الأول، فصل 17: 45)، أو أنّ الاسم كان منحوتًا حتّى على عصا موسى، بحسب الأسطورة.
من الجدير بالذّكر أنّ اللغة العبرية، على غرار العربيّة، تشتمل على حركات تُثبت على الحروف، وهي حركات قد تغيّر من لفظ الكلمات ودلالاتها. ولهذا السّبب لا يوجد إجماع على حركات تشكيل الاسم "يهوه" في الموروث اليهوديّ. هنالك من قال إنّ الاسم يُلفَظ "يِهْوِهْ"، وهنالك من قال بأنّ الاسم يُلفَظ "يِهُوَهْ"، غير أنّ الأبحاث المعاصرة تقول إنّ اللّفظ الدّقيق للاسم في الماضي كان "يَهْوِهْ"، وذلك استنادًا إلى ورود الاسم المُقدّس بصورة مختصرة "يَهْ"، والّذي يُعتَقَد بأنّه اختصارٌ للاسم الصّريح للّه. فقد ورد في المزامير على سبيل المثال: "مُبَارَكٌ يهوه إلهُ إسْرائيلَ، مُنْذُ الأَزَلِ وَإلَى الأَبَدِ — فَقَالَ كُلُّ الشَّعْبِ: أَمِنْ، هَلِّلُوا يَهْ." (مزامير 106: 48). يُشار هنا إلى أنّ عبارة "أَمِنْ، هَلِّلُوا يَهْ" هذه، هي أصل عبرانيّ توراتيّ وتعني: آمَنْتُ [= لَبَّيْكَ]، الحَمْدُ لِلّهِ. وقد شاعت كتابتها ولفظها "آمين، هَلِّلُويَا"، كما وردت في الأصل العبريّ، وكذا تظهر في الترجمات العربيّة، وغير العربيّة، للتّوراة.
أمّا من ناحية الدّلالة:
المعزوّة للمصطلح "يهوه" في اليهوديّة، فقد أشار راشي في تفسيره، إلى أنّ هذا الاسم فيه ما يدلّ على الجوهر الحقّ للإله. وذكر مُفسّرون آخرون أنّ هذا الاسم ينماز عن سائر الأسماء بأنّه خاصّ بالله لا يشاركه فيه أحد، وهو بمثابة اسم شخصيّ يتفرّد به الإله، ولهذا السّبب أيضًا فقد أُطلق عليه مصطلح "الاسم الصّريح"، أو الاسم الأقدس. بالإضافة إلى ذلك، يُشار هنا أنّ الصيغة العبريّة التّوراتيّة للاسم "يهوه" هي صيغة فريدة بذاتها، وهي صيغة خاصّة بالإله الّذي لا شريك له، مثلما أنّ الصيغة أيضًا فريدة ولا شريك آخر لها في اللّغة.
إنّ هذه الصيغة للاسم "يهوه" مشتقّة من الجذر العبريّ "هاء واو هاء" وهو الجذر الّذي يحمل معنى "الكون" [= مصدر الفعل كان، يكون]. فالفعل الماضي منه في اللّغة العبرية هو: "هَيَهْ" [= كان]، والحاضر: "هُوِهْ" [= كائن]، والمستقبل: "يِهْيِهْ" [= يكون]، والمستقبل بضمير المتكلّم هو: "إهْيِهْ" [= أكون). من هنا فإنّ التّعبير التّوراتي "إهْيِهْ أَشِرْ إهْيِهْ"، والذي ورد على لسان الله لدى تكليمه موسى من جوف العوسجة المحترقة، يعني: أكُونُ الّذِي أكُونُ. وهكذا فإنّ المصطلح "يهوه"، أي الاسم الصّريح الأعظم لله الّذي يرد في التّوراة، هو صيغة عبريّة مُركّبة من الماضي والحاضر والمستقبل، وهو يشير بحسب العقيدة اليهوديّة إلى طبيعة هذا الإله، ألا وهي الكون، أي الوجود، في الماضي منذ القدم - الأزل، والكائن في الحاضر، والّذي يكون في المستقبل إلى الأبد.
كيف انتقل هذا الاسم إلى الإسلام؟
من أجل الإجابة على هذا السؤال دعونا نعود إلى التراث الإسلامي لنستقرئ ما دوّنه لنا السّلف بهذا الخصوص. فلنبدأ ولنقرأ معًا هذا الحديث: "عن أنس بن مالك، قال: كنت جالسًا مع النبي صلعم في المسجد، ورجل يصلّي فقال: اللّهم إنّي أسألك بأنّ لك الحمد، لا إله إلا أنت المنّان، بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا حيّ يا قيّوم أسألك. فقال النبي صلعم: هل تدرون ما دعا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: دعا الله باسمه الأعظم الذي إذا دُعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى." (شرح السنّة للبغوي: ج 2، 390؛ أُنظر أيضًا: صحيح أبي داود: ج 1، 279؛ الأسماء والصفات للبيهقي: ج 1، 340؛ الدعاء للطبراني: ج 1، 123؛ مشكل الآثار للطحاوي: ج 1، 181).
بعد قراءة هذا الحديث يعلو السؤال: ما هو، إذن، هذا الاسم الأعظم للّه الّذي يذكره النبيّ في الحديث؟ هل هو اللّه، أم المنّان أم البديع، أم ذو الجلال والإكرام، أم الحيّ أم القيّوم؟ إذ أنّ الحديث المذكور آنفًا يشتمل على أكثر من صفة أو اسم للّه، كما أنّه لا يُفصح عن هذا الاسم الأعظم من بين هذه الأسماء الحسنى الواردة في دعاء الرّجل.
من أجل الوصول إلى إجابة واضحة على هذا التّساؤل، نحن مضطرّون إلى مواصلة البحث واستقراء المأثورات الإسلاميّة. وها هي الرّوايات التّالية تدفع بنا قدمًا نحو الإجابة على السؤال: "عن أسماء بنت يزيد: أنّ النبي صلعم قال: اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، وفاتحة آل عمران الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم." (سنن الترمذي: ج 5، 517؛ أنظر أيضًا: شرح السنة للبغوي: ج 2، 392؛ المعجم الكبير للطبراني: ج 17، 417؛ أنظر أيضًا: مسند ابن حنبل: ج 6، 461؛ مصنّف ابن أبي شيبة: ج 6، 47؛ الدر المنظّم في الاسم الأعظم للسيوطي: ج 1، 2)، وفي رواية أخرى: "عن أبي إمامة عن النبي صلعم، قال : إنّ اسم الله الأعظم لفي سور من القرآن ثلاث: البقرة وآل عمران وطه." (الكشف والبيان للثعلبي: ج 2، 62؛ أنظر أيضًا: معارج القبول للحكمي: ج 1، 208؛ مشكل الآثار للطحاوي: ج 1، 184؛ الدر المنظّم للسيوطي: ج 1، 2).
فماذا يوجد في هذه السّور الثّلاث؟ وما هي المصطلحات التي ترد فيها وتدلّ على اسم اللّه الأعظم، وليست موجودة في غيرها؟ على هذا السؤال تجيب الرّواية التي يوردها الطحاوي: "… قال أبو حفص: فنظرت في هذه السور الثلاث، فرأيتُ فيها أشياء ليس في القرآن مثلها: آية الكرسي الله لا إله إلا هو الحي القيوم، وفي آل عمران: الله لا إله إلا هو الحيّ القيوم، وفي طه: وعنت الوجوه للحيّ القيوم… فثبتَ بذلك أن اسم اللّه الأعظم هو: الحيّ القيّوم." (مشكل الآثار للطحاوي: ج 1، 184؛ أنظر أيضًا: تفسير القرطبي: ج 3، 271؛ الكشف والبيان للثعلبي: ج 2، 62؛ بحر العلوم للسمرقندي: ج 1، 238؛ فتح القدير للشوكاني: ج 1، 510؛ الدر المنظّم في الاسم الأعظم للسيوطي: ج 1، 2).
من أين، إذن، جاء:
هذا المفهوم القائل بأنّ هذا المصطلح، "الحيّ القيّوم"، هو الاسم الأعظم للّه؟ قبل الإجابة على السؤال، من الجدير بالذكر أوّلاً أنّ تعبير الـ"قيّوم" هذا هو صيغة عربيّة إسلاميّة مُستَحدَثَة، وليست من التّراث اللّغويّ العربيّ الجاهليّ. والصّيغ المستحدَثَة ابتغاء إفادة معانيَ ودلالاتٍ جديدةً في اللّغة عادة ما تأتي وتتطوّر بتأثير الاتّصال بلغات وحضارات أخرى. ومنذ القدم أثارت هذه الصيغة المُستحدَثة الكثير من التّساؤلات اللّغويّة: "قال ابن كيسان: القيّوم فَيْعُول من القيام وليس بفَعُّول، لأنه ليس في الكلام فَعُّول من ذوات الواو، ولو كان ذلك لقيل قَوُّوم. والقَيّام فَيْعَالٌ أصله القَيْوَام، وأصلُ القَيُّوم القَيْوُوم." (معاني القرآن للنحّاس: ج 1، 260-261؛ أنظر أيضًا: تفسير الطبري: ج 6، 155-159؛ التبيان في إعراب القرآن للعكبري: ج 1، 106؛ تفسير اللباب لابن عادل: ج 3، 243؛ الدر المصون للحلبي: ج 1، 932).
ولكن، وقبل المضيّ قدمًا في بيان هذا الجانب، حريّ بنا أن نذكر أنّ ثمّة قراءات أخرى مختلفة للنّصّ القرآنيّ، فـ"القيّوم" ليست هي القراءة الوحيدة للنّصّ. فهنالك قراءة أخرى هي "قَيِّم"، وهنالك قراءة أخرى ثالثة مختلفة وهي "قَيّام" كما قرأ عمر بن الخطّاب وابن مسعود: "قرأ عمر وابن مسعود (القيّام) وقرأ علقمة (القَيِّم) وكلّها لغات بمعنى واحد." (تفسير البغوي: ج 1، 312؛ حول اختلاف القراءات، أنظر أيضًا: صحيح البخاري: ج 6، 2709؛ أنظر أيضًا: تفسير الطبري: ج 6، 155؛ الكشف والبيان للثعلبي: 2، 62؛ معاني القرآن للفراء: ج 1، 172؛ تغليق التعليق لابن حجر العسقلاني: ج 4، 4؛ فتح الباري لابن حجر العسقلاني: ج 13، 430؛ عمدة القاري للعيني: ج 36، 117؛ الدر المصون لـلحلبي: ج 1، 932؛ المسند الجامع لأبي المعاطي النوري: ج 19، 179؛ معاني القرآن للنحّاس: ج 1، 260).
وبشأن هذه الاختلافات في قراءة النصّ القرآني، فإنّي أميل إلى الاعتقاد بأنّ قراءة عمر بن الخطّاب وابن مسعود هي الأقرب إلى الصّواب على ما يبدو. فمثلما أنّ مصطلحات أخرى انتقلت من العبريّة إلى القرآن، كذا هي الحال بخصوص قراءة "الحيّ القيّام"، إذ أنّها هي الأخرى على ما يبدو منقولة من العبريّة. فهذه الصّيغة "حيّ وقيّام" هي صيغة عبريّة قديمة، وقد وردت في التلمود في أوصاف الإله، إذ نقرأ بشأن الإله: "مَلِكٌ إلهٌ حيّ وَقَيّام، جَلّ وَتَعالَى…" (التلمود البابلي، باب الاحتفال: صفحة 13 أ، چماراه)، كما نقرأ أيضًا: "مَلِكُ مُلُوكِ المُلوكِ القدُّوس المُبارَك الّذي هو حَيّ وَقَيّام إلَى الأبَد وإلَى أبَد الآبدين…" (التلمود البابلي، باب البركات: ص 28 ب، چماراه؛ ص 32 أ، چماراه؛ أنظر أيضًا: التلمود الأورشليمي: باب سنهدرين، ص 30 أ، فصل 6). وفي هذا السّياق، يُشار هنا إلى أنّ المفردة العبريّة "قيّام" الواردة في هذه النّصوص القديمة معناها: قائمٌ، كائنٌ، موجودٌ.
يمكننا العثور على تعزيز لهذا التصوّر:
فيما دوّنه لنا السّلف من نصوص: "والقيّوم مبالغة من القيام، وهو الثباتُ والوجود. وهذا دليل على اتصافه بالوجود في جميع الأحوال وأنّه لا يجوز وصفه بالعدم بحال، وذلك حقيقة القدم." (التبصير في الدّين للإسفراييني: ج 1، 155). أو أنّه، بكلمات أخرى، كما يروى: "هو الحيّ القيوم الذي لا يموت ولا يزول أبدا. ويقال الحيّ الذي لا بادئ له… وروى الضحاك عن ابن عباس أنه قال: الحيّ قبل كل حيّ، والحيّ بعد كل حيّ، الدائم الذي لا يموت." (بحر العلوم للسمرقندي: ج 1، 238؛ أنظر أيضًا: معاني القرآن للنحّاس: ج 1، 259). أي أنّ صفة القيّوميّة هذه قائمة منذ الأزل وإلى الأبد: "فصفات الخالق الحي القيوم قائمة به، لائقة بجلاله، أزلية بأزليته، دائمة بديموميته، لم يزل متّصفًا بها ولا يزال كذلك، لم تُسبق بضدّ ولم تعقب به، بل له تعالى الكمالُ المطلق أوّلا وأبدًا، ليس كمثله شيء." (معارج القبول للحكمي: ج 1، 211؛ أنظر أيضًا: قوت القلوب لأبي طالب المكّي: ج 1، 492). كما تذكر الرّوايات الإسلاميّة أنّ اسم الحيّ القيّوم متضمّنٌ لجميع الصّفات الفعليّة للإله: "ولهذا ورد أنّ الحيّ القَيُّوم هو الاسم الأعظم." (التّنبيهات اللّطيفة للسعدي: 23).
وهكذا يتّضح لنا أنّ دلالة الاسم "الحيّ القيّوم"، أو "القيّام" بحسب القراءة الأخرى للنصّ القرآني، هي ذات الدّلالة لـ"يهوه" التوراتي، كما نجدها في المأثورات اليهوديّة. ليس هذا فحسب، بل يمكننا القول إنّ مصطلح "الحيّ القيّوم" هو استنساخ ونقل وترجمة إسلاميّة لمصطلحات عبريّة توراتيّة وتلموديّة تتعلّق بـ"يهوه"، الاسم الصّريح والأعظم لله في اليهوديّة، كما تتعلّق أيضًا بالمصطلح التّوراتي المركّب "إهْيِهْ أشرْ إهْيِهْ" الّذي ذكره اللّه لموسى في البريّة: "فَقَالَ اللّهُ لِمُوسَى: (إهْيِهْ أشِرْ إهْيِهْ)، وَقَالَ: كَذَا تَقُولُ لِبَنِي إسْرائيلَ: (إهْيِهْ) أَرْسَلَنِي إلَيْكُمْ… هذا اسْمِي إلَى الأَبَدِ، وَهذا ذِكْرِي إلَى دَوْرٍ فَدَوْرٍ." (سفر الخروج، فصل 3: 10-15). وحول هذه المسألة بالذّات، ولكي تكتمل الصّورة وتتضّح بجميع جوانبها، سأفصّل الحديث في المقالة القادمة.
والعقل وليّ التّوفيق.
***

سيمون ڤايل: عندما يغيّب الألم الألوهة

بقلم حربي محسن عبد الله

منْ لايرى في الحياة إلا وجهها الدموي، بتعبير آخر منْ لايرى فيها غير صراع قوى، لن يتمكن من التعاطف أو الاستماع لما تقوله سيمون فايل، ولن يرى فيها غير الإنسانة المثالية الحالمة، في أحسن الأحوال. وهذه هي المقاربة الأسهل التي تميل إليها الأكثرية من البشر. بمعنى آخر منْ يؤمن أن الحياة هي هكذا أو هي ما يقع. ولكن منْ يتفحص مواقف وكتابات سيمون فايل بعين النقد الحقيقي الذي يرتكز على نظرة ومقاربة أخرى، ترى الحياة مسيرة طويلة وشاقة نحو الكمال الإنساني الذي يصل إلى القناعة بأن القداسة والكمال من الأمور التي يمكن اكتسابها( كما تؤمن البوذية)، يرى في ما تقوله وتكتبه جرأة نادرة وصدقا وصراحة ونقدا لاذعا يخرج من إنسان حقيقي يعيش الحالة التي يكتب عنها ويتماهى مع عذاب الآخرين ويشاركهم بلواهم حقيقة عملية لا مجازا وتنظيرا. بل نرى فيها أيضا منْ يتنكب الطريق الصعب بعدم الإستسلام التام لأي خيار من الخيارات التي تضعها أمامنا الأقدار، بل الوقوف أمام أي رأي، قد يفرضه القطيع الذي يميل بطبعه إلى السهولة وهيّن الخيارات، بالنقد والتعديل.
كما إنها عندما تصل إلى قناعة معينة بالتحول من دين آبائها "اليهودية" إلى "المسيحية" أو عندما تقرر الانضمام إلى الحزب الشيوعي أو مغادرته لا يفوتها أبدا أن تضع هذا التحوّل تحت مبضع النقد، أي إنها لا تستسلم أبداً لما يبدو أنه من الثوابت على أنه مطلق نهائي، وهذا ما كان يثير من حولها اللغط وتتعرض بسببه للنبذ والعداء من قبل رفاق الأمس.
سيمون ڤايل، الفيلسوفة والمناضلة الكبيرة، التي ولدت في باريس في 3 شباط 1909 من أسرة يهودية مثقفة غير متديِّنة، وتوفيت في 24 آب 1943 في قلب مسيحية لم تنتسب البتة إلى مؤسساتها، تحارب الإيمان الدوغمائي بمحاربتها للعجز وتؤكد هذا الموقف في مقاربة لها قائلة «… العجز الذي نجد أنفسنا أسرى له في لحظة معينة، والذي يجب عدم التعامل معه إطلاقاً كشيء نهائي، لا يعفينا من أن نبقى مخلصين لأنفسنا، ولا يبرِّر بأيِّ شكل كان التخاذل أمام العدو، أيّاً كانت المسمَّيات التي يتزين بها [هذا العدو]، فاشية كانت أم ديموقراطية أم ديكتاتورية أم پروليتارية. إن عدونا الرئيس هو الجهاز الإداري، البوليسي أو العسكري؛ ما يعني أنه ليس ذاك الذي يواجهنا والذي هو عدونا بمقدار ما هو عدو إخوتنا. إنما عدونا هو مَن يدَّعي أنه يدافع عنَّا ويحوِّلنا إلى عبيد. وفي كلِّ الأحوال، تبقى أحقر الخيانات أن نقبل الخضوع لهذا الجهاز وأن ندوس بأقدامنا، في سبيل خدمته، في أنفسنا وعند الآخرين، على القيم الإنسانية كلِّها».
عندما تتحدث سيمون فايل عن الشقاء والألم الذي يعيش فيه الملايين من العمال فانها تتحدث عن شيء عايشته هي ولم تقرأ أو تسمع عنه من أحد لذلك توجّه سهام نقدها نحو من ينظّر عن أمور لم يختبرها حقيقة حتى وإن كان المعني لينين أو تروتسكي لأنها وببساطة تعرف أنهم لم يكونوا عمالا في يوم من الأيام. ومن السهولة بمكان وصف حالة من الحالات ولكن من المؤكد أن التماهي معها دون معايشتها أمر عسير. فهي تعرف معنى الألم الذي يصل به الإنسان حد الإغماء والرغبة الدفينة في الخلاص منه بالإنقطاع عن حالة الوعي أو طلب الغيبوبة، الذي قد يكون بعيد المنال. عندما تتحدّث عن العذاب والشقاء والألم فهي تدرك تماما اللحظة التي تغيب فيها الألوهة لبعض الوقت تاركة الانسان للفراغ، فتقول "لا يمكن الفصل بين الشقاء وبين الألم البدني، على الرغم من أنّ من الممكن جدّاً التمييز بينهما. فحين نتحدث عن الشقاء يبدو كل ما ليس له علاقة بالألم البدني، أو بما يشبهه، سطحيّاً وواهيّاً ومن الممكن إزالته عن طريق مراجعة فكرية مناسبة. [والألم] غالباً ما يماثل الشقاء. هذا الشقاء الذي يمكن اعتباره انقطاعاً للحياة عن جذورها والذي يشبه الموت إلى حدٍّ ما. […] فالألم أجبر المسيح على التوسل كي يتجنبه، ودفعه إلى البحث عن العزاء عن طريق البشر، معتقداً أنّ أباه قد تخلَّى عنه. و[العذاب] هو الذي دفع بارّاً [كأيوب] لأن يصرخ في وجه ربِّه […] لأن الألم يغيِّب الألوهة بعض الوقت، فيجعلها تبدو بعيدةً كالموت أو كالضوء في زنزانة دامسة الظلام. عندئذٍ تغمر الرهبةُ النفسَ بالكامل. لأنه أثناء غياب كهذا لا يبقى شيء نحبه. والرهيب هو توقف النفس عن المحبة، لأنه وسط هذه الظلمات التي لا يوجد فيها ما نحب، يكاد غياب الألوهة أن يصير نهائيّاً.
الأمر الذي يستلزم من النفس الاستمرار في حبِّها ولو للفراغ، حيث يجب عليها أن تستمر في رغبتها في أن تحب، ولو من خلال جزء لامتناهٍ في الصغر. عندئذٍ يأتي ذلك اليوم الذي يتجلَّى لها فيه الإله، فيريها جمال العالم، تماماً كما حصل مع أيوب. أمَّا إذا كفَّت النفس عن المحبة فإنها تسقط فيما يشبه الجحيم." تذكرني هذه الكلمات بأحداث رواية "شرق المتوسط" للراحل عبد الرحمن منيف وكيف يتساءل بطل الرواية وهو تحت التعذيب في أقبية البوليس السري وعندما يصل العذاب ذروته عن الإله الذي يحكم هذا العالم وكيف يرضى بما يحصل في هذه الزاوية الرهيبة من الكون.
عندما اختارت سيمون فايل الوقوف إلى جانب الجمهوريين في الحرب الأهلية الاسبانية لم يفتها أن تلاحظ ماتطبعه الحرب في النفوس من آثار لاتمحى من الهمجية والرغبة الدفينة بالقتل والقسوة وإن تغلفت بالتضحية والفداء من أجل هدف نبيل فتقول «نتطوع في بادئ الأمر حاملين أفكاراً تدعو إلى التضحية، ثم ما نلبث أن نجد أنفسنا وقد وقعنا في أتون حرب تشبه حروب المرتزقة، بما يرافقها من وحشية وقسوة لا تراعي أية قيمة للأعداء. لأني أشعر بأنه حين تضع السلطات الزمنية والروحية مجموعة من البشر خارج النطاق الذي يضفي قيمةً على الحياة الإنسانية فإنه يصير من الطبيعي أن يتحول الإنسان إلى قاتل. لأننا حين ندرك أنه صار بوسعنا القتل من دون أن ينالنا القصاص أو اللوم فإننا سنقتل، أو على الأقل، سنشجع بابتسامتنا أولئك الذين يقتلون ".
تنقلنا سيمون فايل، في كتاب (مختارات) الذي صدر عن دار معابر للنشر في دمشق ترجمة محمد علي عبد الجليل، إلى عوالمها المتعددة فنتعرف على امرأة خبرت الحياة والأفكار ولامس شغاف قلبها الحب الكبير للإنسان بقوته وضعفه. الملفت فيما تقول وتكتب هو العمق والتنوع فكأنها مسبار يتفحص ما يمر تحته بعدسة غاية بالدقة غير مبالية بما يبدو للوهلة الأولى وكأنه من البديهيات. تتحدث في فصل بعنوان "الإلياذة أو قصيدة القوة" وكيف تحوّل القوة الإنسان إلى شيء فتقول:" إنَّ البطل الحقيقي، الموضوع الحقيقي، مركز الإلياذة هو القوة؛ القوة التي يستعملها الرجال، القوة التي تخضع الرجال، القوة التي تنقبض أمامها أجساد الرجال. فالنفس البشرية لا تفتأ تظهر لهم وهي تغيِّرها علاقاتها مع القوة، تجرُّها وتعميها القوة التي تعتقد النفس امتلاكها، تنحني تحت وطأة القوة التي تخضع لها. فالذين كانوا يحلمون بأن القوة أصبحت، بفضل التطور، شأناً من شؤون الماضي، أصبح بإمكانهم أن يروا في هذه القصيدة وثيقةً؛ والذين يعرفون كيف يميزون القوة، اليوم كما في الماضي، في مركز التاريخ البشري بِرُمَّته يجدون فيها أجمل المرايا وأصفاها. القوة هي ما يحوِّل أيَّ شخص يخضع لها إلى شيء. فعندما تمارَس حتى نهايتها، تجعل الإنسان شيئاً بالمعنى الأكثر حرفية، لأنها تجعله جثةً. يكون هناك شخصٌ ما، وإذْ بعد لحظة ليس هناك أحد. إنها لوحةٌ لا تملُّ الإلياذة من تقديمها لنا:
… كانت الخيول تجرُّ العربات الفارغة.. ترنُّ على طرقات الحرب.. هي في حِداد على سائقيها الذين لا ملامةَ عليهم. فهم كانوا على الأرض يرقدون، هم أغلى بكثيرٍ على الكواسر من غلائهم على نسائهم."
ثم تأخذنا في "رسالة إلى رجل دين" إلى وجهة نظرها بالخيط الذي يربط الأسطورة بالدين فتربط بهذا الخيط – على سبيل المثال- أسطورة اسكندنافية عن كبير الآلهة وهو "أودن" مع المسيح، و أودِن أو أودين أو ﭭوتان Odin، Odhin، Wotan: وهو كبير الآلهة في الميثيولوجيا الإسكندناﭭية. يُدعى بأبي الآلهة. اسمه مشتق من كلمة تعني الحماسة والغضب والشعر. هو إله الحكمة والحرب والمعركة والموت. وهو الذي ابتكر الأبجدية الرونية أو الفوثاركية (الفوثارك: نسبةً إلى الأحرف الستة الأولى)، وهذا ما تُعبِّر عنه صراحةً قصيدةٌ إسكندناﭭية قديمة تُدعى "هَفَمال" وتعني: "كلمات الواحد الأعلى" وهي تحتوي على نبؤة تسترعي الإنتباه:«أعلم أنني معلَّق على شجرة تهزُّها الرياح، تسع لياليَ كاملةً، مجروحاً برمحٍ، مقدَّماً إلى أودين، نفسي إلى نفسي. معلَّق على هذه الشجرة التي لا يعلم أحدٌ من أي جذر خرجتْ. لم يعطني أحدٌ خبزاً ولا قدحاً مصنوعاً من قرن لأشرب منه. نظرت إلى أسفل، عكفت على حروف الرُّون، تعلمْتها وأنا أبكي، ثم نزلت من هناك». ثمّ تكمل مابدأت بالقول "لا شك أنَّ لتعبير "حمَل الله" علاقةً بمنقولاتٍ قد ترتبط بما نسميه اليوم الطوطمية. فقصَّة زيوس عمون Zeus Ammon عند هيرودوت (عندما ذبح زيوس كبشاً ليتجلى لمن كان يتوسل إليه بأن يتراءى مغطَّىً بجِزَّة من صوفه)، تلك القصة القريبة من كلام القديس يوحنا: "الحمَل المذبوح منذ تأسيس العالم"، تلقي ضوءاً ساطعاً على الموضوع. إنّ القربان الأول الذي نال رضا الله، أيْ قربان هابيل، والذي يُذكَر في قانون القُدَّاس كرمز لقربان المسيح، كان ذبيحةً حيوانية. وكان الأمر كذلك في القربان الثاني، قربان نوح، الذي أنقذ البشرية في نهاية الأمر من غضب الله وأدَّى إلى وضع ميثاق الله مع البشر. وهنا تكمن النتائج نفسها لآلام المسيح. فهناك علاقة خفية بين الاثنين. لا بدّ أنهم فكروا، في عصور موغلة في القِدم، بوجود حضور حقيقي لله في الحيوانات التي يقتلونها ليأكلوها؛ بأنَّ الله قد حلَّ فيها ليُقدِّم نفسه طعاماً للبشر. كانت هذه الفكرة تجعل من الطعام الحيواني تقرُّباً من خلال تناول القربان المقدس، في حين أن ذلك يُعدُّ بتعبير آخر جريمةً، على الأقل من وجهة نظر فلسفية نوعاً ما وديكارتية إلى حد ما. ربما كان هناك في مدينة طيْبة Thèbes، في مصر، حضورٌ حقيقي لله في الحمَـل المضحَّى به ضمن طقوس، كما هي الحال اليوم في خبز الذبيحة المكرَّس. هذا يستدعي أن نلاحظ أنَّ الشمس كانت في برج الحمَـل لحظة صلب المسيح."
وهكذا ننتقل مع مختارات سيمون فايل عبر محاور متعددة إلى صور مكثّفة ذاتية وموضوعية وبنفس العمق والجرأة إلى مختلف المواضيع التي شغلت بال المفكرين والعلماء ورجال الدين والسياسة ومنظريها. فمن تجربتها الانسانية العميقة إلى معاناتها إلى أرائها بالأحداث التي مرّ بها العالم قبل النازية والفاشية وخلال فترة نفوذها، ثمّ نقدها لنظرية الكوانتم ورهانات العلم ثمّ رسائلها التي نقلت بها خبرتها الروحية التي تسلطّ الضوء على فهم ديالكتيكي للدين وما تنطوي عليه سريرة من يعاني الألم الذي يغيّب الألوهة.
 

بين الدين والأصولية الدينية

بين الدين والأصولية الدينية

بقلم شاكر النابلسي

 

 

- 1-
علينا ألا نخلط بين الدين، وبين الأصولية الدينية.
فالدين "إيمان"، والأصولية الدينية "عقيدة"، كما يقول مراد وهبة.
والأصولية الدينية جعلت من الإيمان معتقداً، تستعمله لخدمة أغراضها السياسية والدينية والإيديولوجية.
الدين بيان وقيم وإخبار، والأصولية الدينية اجتهادات وتراكم أحكام، ومراقبة، وعقاب.
جمهور الدين هم الخاصة، وجمهور الأصوليات الدينية هم العامة، من أتباع التدين الشعبي الذي يختلط فيه الدين بالخرافات والأساطير والشعوذات وتقديس الأئمة.
الدين يهدف إلى تكوين صالحين، ودعاة خير ومحبة. والأصولية الدينية تهدف إلى تكوين إرهابيين، بدعوى الدفاع المسلح عن الحقيقة المطلقة، التي لا جدال فيها. فإما معنا وإما الموت. وهذا ما حصل منذ فجر التاريخ حتى الآن. فسقراط كان ضحية الأصولية اليونانية صاحبة الحقيقة المطلقة، عندما تعرّض لها، وسخر منها. وغاندي كان ضحية الأصولية الهندوسية. والأصولية اليهودية هي التي قتلت اسحق رابين، كما قتلت الأصولية الإسلامية أنور السادات. وما إرهاب "القاعدة" وباقي الجماعات الأصولية المسلحة، إلا حماية الحقيقة المطلقة التي يعتقدون أنهم يملكونها وحدهم، والدفاع عنها. الدين هدفه الناس كافة، دون استثناء. والأصوليات الدينية هدفها فئة معينة قابلة للتسييس والموت.
الدين ليس من صنع البشر، في حين أن الأصولية الدينية من صنع البشر المستغلين للدين، على مدار التاريخ، وحتى الآن. وهذا ينطبق على كافة الأصوليات الدينية، مع بعض الفروقات الخاصة القليلة.
-2-
الخلاف الحاد بين الليبرالية العربية والأصولية الإسلامية، يتمركز حول دعوة الفكر الليبرالي إلى قراءة النصوص الدينية المقدسة، قراءة تاريخية ومجازية – كما نادى ابن رشد بوجود معنى ظاهر وآخر باطن (المجاز) للنص، ومعنى للخاصة ومعنى للعامة - وليست قراءة حرفية تواكلية تسليمية مسبقة.
ومعنى هذا، أن الليبراليين يقفون إلى صف المعتزلة القدامى في قولهم بخلق القرآن؛ أي إن القرآن تكوّن متدرجاً، حسب الأحداث التاريخية التي واجهها الإسلام والنبي عليه السلام. ولم يكن مكتوباً مسبقاً، ومحفوظاً منذ الأزل في اللوح المحفوظ، كما تقول السُنَّة والأشاعرة وغيرهم من الأصوليين الدينيين.
-3-
فالأشاعرة - على سبيل المثال - أنكروا وجود القوانين الطبيعية، التي تتحكم بهذا الكون. وهذا يعني بكل بساطة إلغاء "نظرية السببية" في التاريخ والطبيعة، وبالتالي إلغاء العقل والتفكير. علماً بأن القرآن أقرَّ قانون السببية ولكن ليس بصراحة العلم الحديث ووضوحه. فالقرآن كتاب هداية وقيم أخلاقية، وليس كتاب علم وقوانين طبيعية.
وذكر القرآن كلمة "سبب" و"أسباب" تسع مرات. فقال عن ذي القرنين: ﴿إنا مكنّا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سبباً﴾ ﴿فاتبع سبباً﴾ (الكهف: 84 ،85)، ﴿ثم اتبع سبباً﴾ (الكهف:92)، ﴿إذ تبرأ الذين اتُّبعوا من الذين اتَّبعوا ورأوا العذاب وتقطّعت بهم الأسباب﴾ (البقرة: 166) ، ﴿فليرتقوا في الأسباب﴾ (ص: 10)، ﴿وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحاً لعلي أبلغ الأسباب﴾ (غافر:36)، ﴿أسباب السموات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذباً﴾ (غافر:37). وتأتي الأسباب، بمعنى الطُرق والأساليب، كما في الآيات: (البقرة: 166)،(غافر:36).
وتأتي الأسباب بمعنى العلل، كما في الآيات (غافر:37)، و(ص:10). وبعض العامة والباحثين يظنون أن نصَّ "وجعلنا لكل شيء سبباً" من القرآن. والصحيح أن لا نص في القرآن أتى بهذه الصيغة. ولكن الأشاعرة القدامى والجُدد ينكرون أن القرآن قال بالسببية.
-4-
ونرى أن الأصولية الدينية، ليست قاصرة على الإسلام وحده، أو على منطقة معينة من العالم كمنطقة الشرق الأوسط مثلاً، ولكنها موجودة في الأديان السماوية الأخرى وفي مناطق مختلفة من العالم حتى المتقدم منها.
فهناك أصولية مسيحية متشددة في أمريكا، تمنع تدريس نظرية دارون في المدارس والجامعات في بعض الولايات الأمريكية حتى الآن. والأصوليات جميعها تشترك معاً في قواسم مشتركة واحدة، وهي التطرف، والغلو، والتشدد، والتفسير الحرفي للنصوص، ومعاداة النظريات العلمية، ومنع إعمال العقل في النص الديني، ولكن بدرجات متفاوتة. ولو كان لدينا ما اقترحه هاشم صالح في كتابه "معضلة الأصولية الإسلامية" من إقامة "علم الأصوليات المقارنة"، لاستطعنا أن نكتشف بوضوح أن الأصولية الإسلامية، هي أقل الأصوليات الدينية السماوية الثلاث تطرفاً، وغلواً، وتشدداً، وكذلك مساحةً وفضاءً.
ولكن جامعة شيكاغو استطاعت أن تقوم بجزء كبير من هذه المهمة (علم الأصوليات المقارنة) عندما رصدت خمسة ملايين دولار، من أجل كتابة بحوث عن الأصوليات المقارنة، والتي انتهت في خمسة مجلدات، درست كافة الأصوليات في العالم، دراسة علمية مقارنة.

  

الشبق الأيروتيكي سبب لي مشاكل مع قبائل "سلطانات الرمل"

لينا هويان الحسن: الشبق الأيروتيكي سبب لي مشاكل مع قبائل "سلطانات الرمل" / وسام كنعان 

 

* لو كنت في حالة عوز لما كتبت الرواية لأنني كنت سأنشغل بعوزي.
*سأظل أتفقد انحدار وسطنا الثقافي إلى مزيد من السوء .
*الدراما البدوية السورية تعتمد على أقلام ليست محترفة.
في حوران وحلب، والساحل السوري… كانت صورة القبب الطينة ، ورحلة الشمس نحو الأفق على إيقاع بدوي… لا تفارق مخيلة (لينا هويان الحسن) الطفلة التي لم يحالفها الحظ بسؤال تقليدي واحد حول ما تحب أن تصيره في المستقبل ، لذا خبئت طموحاتها بموازاة ترحال عائلتها من محافظة لأخرى، بحكم عمل والدها حتى صادفها ظرف مكنها من البوح.. فباحت: أحلم أن أصبح رسامة… والحلم مازال ينام عند ضفتي مخيلتها التي تنضح بشخصيات حقيقية، توثق لحياة شعب هم البدو… من معشوقة الشمس إلى بنات نعش إلى روايتها الأخيرة سلطانات الرمل وما تزال ذاكرة الروائية السورية الشابة تختزن الكثير والكثير من لحظات طفولتها، وأيام دراستها للفلسفة بجامعة دمشق.. أكثر تلك اللحظات حضوراً لحظات افتتاحها لمعارضها التي كانت تنظمها في الجامعة، هناك أرادت أن تميز اسمها عن اسم إحدى زميلاتها التي حملت نفس الاسم والكنية، فربطته باسم بدوي جميل هو اسم والدها العاشق هويان…
1- رواية (سلطانات الرمل ) هي خطوتك الثالثة على طريق كتابة النص الصحراوي بعد ( معشوقة الشمس,و بنات نعش ) وهي تتحدث عن المجتمع البدوي الواسع الذي لم يقدم الأدب أو الدراما صور واقعية عنه على أن يكون لها علاقة بالتوثيق الحقيقي, كيف تصفين تلقي القارئ لأعمالك؟
رواية ( بنات نعش ) طبعت ثلاث مرات إضافة إلى ذلك كل من قرأ ( بنات نعش ) قرأ ( سلطانات الرمل) والعكس صحيح, فعندما تقول( بدو) كأنك تقول ألف ليلة وليلة, كما أن عالم الصحراء عالم واسع جذب إليه الكثير من الأدباء والمبدعين السرياليين والوجوديين, أمثال رامبو ومارتين ونرفال , وحتى مصممي الأزياء استوحوا ألوانهم من الصحراء فمثلا ً (إيف سان لوران ) عاش طفولته بالجزائر, وطلب أن يدفن في المغرب, وأيضا ً هناك الشخصيات البدوية التاريخية , مثل عنترة وعبلة, وأبو زيد الهلالي, والزير سالم التي أحبها الناس لأنها تنتمي للصحراء .
2-في هذه الرواية تشعب, و تنوع, ومجموعة كبيرة من الشخصيات, ومن وجهة نظري هي ليست كأي رواية عادية نستطيع قراءتها في أوقات الفراغ ذلك لأنها بحاجة لقارئ صافي الذهن يستطيع أن يتواصل مع كل الشخصيات, فما رأيك ؟
أنا لا أكتب رواية لتكون عادية, وعندي من النرجسية ما يكفي لأن يكون القارئ متفرغ لقراءة روايتي, وللأسف القارئ العربي أعتاد على النصوص التي تعتمد على الخيال الآني, والمؤقت, والتي تقرأ في ساعة ونصف, كما أنني تحدثت عن عالم البدو الذي لا أريد مسخه من أجل تقليد أحد, فهناك كتاب روايات قصيرة, سرعان ما اختفوا, وبالمقابل هناك روايات تقرأ في نصف ساعة, وعدد صفحاتها لا يتجاوز السبعين وهي من أجمل الروايات مثل بعض روايات ( دايستوفسكي ,و بوشكين ) والتي لا تفارق ذهنك طوال العمر, فهي مكثفة يجب قرأتها بنفس واحد و ذهن صافي.
3-كونك إعلامية وروائية حتما ً تعرفين أنه ليس لدينا في سورية صناعة نجم, وبأن الجمهور يعزف عن القراءة شيئاً فشيء, فما هي الخطوات التي اتبعتها لتصبحين معروفة ومقروءة ؟
أرغب –مثل أي كاتب- أن تكون رواياتي مقروءة, و عملي في الصحافة جعلني معروفة, وبالنسبة للقارئ أنتقد من يتهمه بأنه أمي لا يقرأ, بل وأراهن على ذوقه, فعندما يشيع خبر بأن هناك عمل ملفت نرى الناس مقبلين على قراءته. وهذا ما يحدث مع روايتي "سلطانات الرمل" حالياً.
4-أنت تكتبين زاويا رأي في أكثر من جريدة، وموقع إلكتروني وهذا ربما يسبب لك عداوات بسبب الفهم الخاطئ في بعض الأحيان لوجهة نظرك, كما حصل في أحد المرات حيث كتب عنك أحدهم (رأي مسبق) قبل قراءته لروايتك, فكيف تتعاملين مع هذا الموضوع؟
سأستخدم ميزة (البدوي) الذي يملك من التعالي ما يكفي لأن يكتب ما يراه أنه الحق والصحيح, والذي لا يجامل الباطل, فعندما أتكلم عن الأدب النسوي الرديء اكتشفت أن هنالك أكثر من عشر كاتبات اعتقدن أنهن المعنيات, هذه مشكلتهم, وأنا لست معنية بأمراض الوسط الثقافي.
5-هل تفكرين بالسفر إلى مكان آخر لا توجد فيه عداوات الكار الواحد بالشكل الموجودة فيه بدمشق, علماً أن الأخيرة هيأت أجواء استثنائية للكثير من الكتاب الكبار.؟
كل مكان في العالم غدا مزحوما بالعداوات، وعداوة الكار عداوة قديمة ولا أعول بالمطلق على أن يتحول سكان وسطنا الثقافي إلى ملائكة, أمنياتي في المستقبل أن أعيش في مكان هادئ على شاطئ البحر, مع زوج رائع, وأن يكون لدي طفلين, وأتمنى أن أستطيع تربية قطة وكلب…. أما بالنسبة للوسط الثقافي في سورية, فسوف أتفقده من حين لآخر, لأطمئن على حاله, الذي لن يتغير أو يتطور أو قد أتفاجئ أنه انحدر لمزيد من السوء.
6 -معروف عنك كثرة اعتذارك عن حضور المؤتمرات الأدبية بالعموم ما مشكلتك مع هذه الأجواء؟
أنا انتقائية وحسب, ولا أعتذر عن كل المؤتمرات وأنا على يقين أن المؤتمرات لا تصنع كتاب, وروائيين, فأنا أحب الفردية (أحب أن آخذ غزالي وآكله على الشجرة دون مشاركة أحد ), كما يجب على الكاتب أن يكون صاحب مشروع حقيقي هذا الأمر لا تحققه المؤتمرات كونها تتيح فرصة للتعارف لا أكثر ولا أقل.
7-ظهرت قدرتك في سلطانات الرمل وغيرها على تصوير لحظات حميمة بين الرجل والمرأة, فما هي الآلية التي عملت عليها, لإيصال هذه التفاصيل,وهل هي تفاصيل مهمة في الرواية, خاصة أن هناك كتاب يعتمدون على هذه التفاصيل بكامل رواياتهم ؟
هذه اللحظات تأتي عفوية, وتلقائية, ومن حق الكاتب الاحتفاظ لنفسه كيف يكتب هذه التفاصيل, حتى لا يخرِّب على القارئ متعة القراءة, في "سلطانات الرمل" مُدحت (الأيروتيكية) الموجودة فيها, وهذا ما كنت أتمناه أن يشعر القارئ بشخصية من لحم ودم, وهذا الشق "الايروتيكي" سبب لي مشكلة مع العشائر المذكورة في الرواية: مثلا ً لم يعترض أهل الأمير أحمد أبو ريشة من عشيرة الموالي على سيرة الأمير, ولكن اعترضوا على مقطع صغير وهو الذي وصفتُ فيه الليلة الأولى للأمير مع ( حمرا الموت ) التي حارب من أجل الحصول عليها, ومع أني حاولت أقناعهم بوجهة نظري أصروا على موقفهم المعترض, كروائية لي الحق بأن أجعل بطلي حقيقي وله حضوره الصحيح بالطريقة التي أراها مناسبة، فهذا يشعرني بالسعادة.
8-نحن نسعى في الحياة لتحيق توازن معين مع الطرف الآخر، فكيف تحقق لينا توازنها مع الرجل وأين هو من خريطة حياتها؟
الرجل أجمل ما حدث في حياتي، بداية ً بأبي، ومرورا ً بأبناء عمومتي هؤلاء البدو الذين فتحوا عيني على نمط من الذكورة الواضحة، والتي علمتني الكثير، وانتهاءً بالرجال الذين عشقتهم…
9-هنالك عبارة تقول: (الإبداع يخلق في رحم المعاناة والفقر) فمثلا ً( جان جنبه) كان لقيطا ً، ووضعه الاجتماعي سيء، ولكنه كتب أجمل المسرحيات العالمية،أما أنت كما أعرف وضعك الاجتماعي والمادي مريح، فكيف يمكن للإبداع أن يخلق في كنف الأرستقراطية أو في ظروف تقاربها؟
من الممكن لو كنت من سكان العشوائيات لكتبت ما يشبه رواية (محمد شكري – الخبز الحافي) المليئة بالألم، ولكن الظرف الذي وجدت فيه سجل كنقطة إيجابية لي، إذ ساعدني ذلك لأبحث في الماضي، والتاريخ القريب والبعيد فكتبت (سلطانات الرمل وبنات نعش) ومن الممكن لو كنت بحالة عوز لانشغلت بعوزي، إذ أن الجائع يعمل ليسد رمقه.
10-ألا تشعرين أن هناك قضايا معاصرة تجذبك أو تستفزك للكتابة عنها، كونك صحفية وروائية، وأنت ابنة هذا العصر؟
أنا مؤمنة بهذا الكلام، وهناك مشاريع في ذاكرتي لم تنجز بعد، ولكن أعتبر نفسي الكاتبة الوحيدة في جيلها التي لم تخف من الالتفات إلى الماضي والكتابة عنه، أما الحاضر أصبح مبتذلا ً من كثرة ما كتب فيه من خواطر يروج لها أنها روايات؟
11-يصفون الدراما التلفزيونية بأنها (فن الثرثرة الجميلة) فهل تفكرين بتحويل إحدى رواياتك إلى عمل تلفزيوني؟
الدراما خلقت تحد بجودة العمل الروائي، فكاتب السيناريو ليس كالكاتب الروائي، وهناك روايات تحول بسهولة لأعمال درامية، لأنها مكتوبة أصلا ً بما يشبه الدراما، وأيضا ً هناك روايات مهمة حولت لأفلام سينمائية وفشلت كرواية ماركيز (الحب في زمن الكوليرا) فالعدسة لا تستطيع تصوير كل ما يتخيله القارئ بالرواية، و لا أقبل تحويل أي رواية لي في الوقت الحالي، وأن حدث فبشروط خاصة، وصعبة، ذلك لأني لا أريد أن أحط من قدر رواياتي.
12-هل تضعين إستراتيجية لعملك، أو أنك ابنة اللحظة وتنتظرين الإلهام؟
من الصعب القول أني ابنة اللحظة، أو أنني أنتظر الإلهام، ففي رأسي مكتبة أرشيفية هائلة أخزن فيها كل ما قرأت، وشاهدت، وعشت، وعندما أمسك بالقلم تحضر الذاكرة فورا ً إلى أوراقي، فروايتي الأخيرة استغرقت مني تسعة أشهر من الكتابة على الورق، ولكنها كانت لسنوات تتراكم في ذاكرتي .
13-استندت في أجزاء روايتك على كتابات المستشرقين والمؤرخين لكن ثمة شقاق يحصل بين المؤرخين غالباً فكيف لك أن تدققي في المعلومة التي ربما تتحول في يوم ما إلى وثيقة؟
معظم ما استندت إليه كان مجرد تقارير خاصة بالمستشرقين الذين كانوا بالأصل جواسيس لحكوماتهم، وهؤلاء لن يكذبوا على الحكومات. 14-ما رأيك بالدراما البدوية، والتي بات يبذخ عليها الكثير من الأموال لتظهر بهذا الشكل، وتستقطب المشاهد، وهل تخافين أن تقارن أعمالك الأدبية بالدراما التلفزيونية؟
أنا أعتقد أنها اعتمدت على أقلام غير محترفة، ومولعة بالفانتازيا، وأن المخرجين، والممثلين السوريين هم الذي أجادوا. على صعيد النصوص نحن نفتقد لكتاب ذوي اطلاع كافي، يكتبون وفي ذهنهم الشيك الذي سيقبضونه مجرد انتهائهم من كتابة السيناريو ، طبعا هذا الكلام لا يشمل كتاب مثل نهاد سيريس أو الراحل ممدوح عدوان في مسلسله الزير سالم، كذلك لدينا كتاب شباب وجدد محتمل جداً أن يطوروا في جودة درامانا.
15-هل هناك من زودك بمعلومات ساعدتك عند كتابة سلطانات الرمل وهل لديك مرجع بشكل عام؟
قمت بالاستعانة بأحد أقاربي الذي أعطاني معلومات عن ( الكلاب السلوقية، والصقور، والأسلحة) و في معرفة طباع أهل الصحراء، وطرق الصيد المتبعة.
16-هل تودين أن توجهي كلاماً ما للقارئ؟
الشيء الذي أريده هو أن أبقى على تواصل مع القراء، وأن أكسر( تابو) الأدب الرديء الخالي من المضمون، وأنا أعرف أن مهمتي صعبة، وهذا يعطيني مزيدا ًمن النشاط لأستمر بكتابة أعمال تعيد للقارئ الثقة بالرواية العربية.
عن موقع بوسطة

 

دخول الكويت رغم أنف المانعين

دخول الكويت رغم أنف المانعين
بقلم نصر حامد أبو زيد


-المشهد الأول:
المكان: مطار الشيخ سعدون الصباح في الكويت
الزمان: حوالي الساعة الخامسة والنصف مساء بتوقيت الكويت، يوم 15 ديسمبر 2009.
وصلت طائرة شركة "الوطنية" الرحلة رقم 2003 القادمة من القاهرة.
تقدمت بأوراقي – كارت التأشيرة كما يسمونه – مرفقا به جواز السفر، فأخبرتني السيدة المسؤولة أنها تريد "الـتأشيرة الأصلية"، ولما لا حظت حيرتي قامت هي بنفسها ووجدتها مع مسؤول آخر، وبدأت إجراءات النظر في جواز السفر استعدادا لختمه بالسماح بالدخول. في هذه اللحظة تقدم مني شاب في غاية اللطف والأدب والدماثة – علمت فيما بعد أن اسمه "نواف" – طالبا أن أستريح حتى انتهاء الإجرءات. بالنسبة لي هذا سلوك عادي يحدث في استقبال ضيف مدعو من جهة معروفة. سألني الشاب : كيف كانت الرحلة، وأجبت الإجابات العادية : كانت مريحة وكل شيء تمام والحمد لله. حوار عادي، سؤال عادي وجواب عادي، ونحن جالسان على إحدى الأرائك في صالة الدخول. بعد تردد ليس طويلا، تساءل الشاب في خجل عما يمكن أن يكون رد فعلي على ما سوف يقول : "يا دكتور ما بعرف كيف ستتفهم ما يتحتم علي إني أقول، أنا مكلف بإعادتك إلى القاهرة على الرحلة التي تغادر في الساعة العاشرة." تساءلت : هل أفهم من هذا أنني ممنوع من الدخول؟ "للأسف يا دكتور، واعذرني أنا عبد المأمور". (الشاب كما هو واضح يحاول التواصل معي باللهجة المصرية. علمت منه فيما بعد أنه يمتلك مسكنا في القاهرة، وأنه يعشق مصر والمصريين). سألت مستغربا: ومن صاحب قرار المنع؟ قال الشاب : "صدقني يا دكتور لا أعرف".
2- من وراء الجدار العازل:
قلت له : "علي بالاتصال بالأستاذ "طالب المولي" والذين ينتظرونني في صالة الوصول." عرض الشاب أن استخدم تليفونه الكويتي بدلا من استخدام تليفوني الدولي، فشكرته؛ لأن الأصدقاء المنتظرين في الخارج يتعرفون عليَّ من رقمي الهولندي. فوجئ "طالب المولى" بالخبر، وطلب مني الانتظار قليلا وسيتصل بي مرة ثانية. بعد دقائق اتصل ليقول إن بعض أعضاء البرلمان من الاتجاه الإسلامي أثاروا بعض اللغط اليوم بخصوص زيارتك في سياق استعدادهم لإعداد قرار بسحب الثقة من الحكومة، لكن الصدمة أنهم نجحوا في ابتزاز وزير الداخلية. تساءلت ضاحكا: وما دخلي بهذا الموضوع؟
توالت الاتصالات من الدكتور "أحمد البغدادي" – شفاه الله وأعاده سالما من رحلة علاج بانجلترا أصر على تأجيلها لحضور محاضرتي يوم 16 وتقديمي للجمهور الكويتي. واتصل بي أصدقاء آخرون يعتذرون بأسف أحسست معه أنني يجب أن أخفف عنهم، وهكذا كنت أفعل. بدأت اتصالات من صحف كويتية يسألون عن رد فعلي الذي عبرت عنه بوضوح واضعا القرار تحت حذائي، واستعدادي لفضح هذا القرار بعمل مؤتمر صحفي في مصر وآخر في هولندا. هنا يجب أن أؤكد أنني أتحدث عن "القرار"، وليس عن "المسؤول" صاحب القرار، ولا يمكن أن أتخيل أبدا أن يظن أحد أنني أقصد "الكويت" الوطن، كما فهم بعض من علقوا على هذه العبارة في صفحات "تعليقات القراء" على الإنترنت. من له أدني معرفة بكتاباتي وأفكاري – أقصد معرفة مباشرة لا معرفة سماعية نقلية – يعرف معنى ما أقول. الكويت وطن لا يلوثه قرار – ورقة – يمكن أن تداس بالحذاء، وإن كان تتسلح بتوقيع مسئول لا يحترم القانون : القانون الذي لم يمنعه من منح التأشيرة، ولكنه أصر على أن يضع القانون تحت حذائه بسحب التأشيرة دون الاهتمام بإبداء أي تبرير قانوني للمنع. القرار الذي يستهين بالقانون إلى هذا الحد – راضخا لابتزاز سياسي رخيص – هو قرار مكانه سلة المهملات. هذا هو الأمر ببساطة متناهية.
3- الكويت-الوطن العربي الجميل:
اهتم بي اهتماما بالغا في الساعات التي قضيتها بالمطار الشاب "نواف"، الذي عرفت منه فيما بعد أنه "مدير شركة الطيران الكويتية" ، وأنه ليس من رجال أمن المطار ولا من ممثلي وزارة الداخلية. بعد أن تأكد الشاب أن "الخبر" – المنع من الدخول – لم يزلزلني كما توقع، بدأ التعرف عليَّ : من أنا؟ وماذا أعمل؟ وفيم كانت الدعوة؟ ولماذا سُحِبت التأشيرة بعد منحها؟ حين أنبأته بما أعلم سألني : من هؤلاء الذي اعترضوا : شيعة أم سنة؟ قلت : في حدود علمي يا أخ "نواف" هم من السنة. عاد فسألني: السلفية أم السنية؟ سألته: وما الفرق؟ قال: السلفية متشددون جدا. هم الذي هاجموا رئيس جمعية سعودية قال إن الاختلاط بين الرجال والنساء ليس ضد الشريعة وتسببوا في فصله، أما السنية فمعتدلون. (كنت قد قرأت في صحيفة "الوطن" وأنا بالطائرة بعض ذلك الهجوم.) تساءلت مندهشا: هم فصلوه، قال الشاب : لا يا أستاذ، الحكومة السعودية فصلته. سألت "نواف": هل الإخوة السلفيون ممثلون في البرلمان؟ لا، لأنهم ضد الديمقراطية. قلت له : إذن فالذين اعترضوا على الدعوة والتأشيرة هم السنية، لأنهم أعضاء في البرلمان. بدت علامات الدهشة والاستغراب – استغراب حقيقي يكاد يقارب تخوم الاستنكار – على وجه "نواف" : ليه، كان يمكن يحضروا المحاضرة ويناقشوك ويردوا على أفكارك. أليس ديننا يحض على الاجتهاد والنقاش بالتي هي أحسن؟! قلت : شفت بقى يا عم "نواف" المشكلة اللى احنا غارقانين فيها؟ قال : تعرف يا دكتور الظاهر انهم خايفين منك لأنهم مش حيقدروا يناقشوك.
بين الحين والآخر كان "نواف" يستأذن لفترات غياب ولم أكن أسأله عنها. عاد مرة بعد فترة غياب طالت، عاد متهللا : لا مؤاخذة يا دكتور اللي ما يعرفك يجهلك، أنا قاعد آخد وادي معاك في الكلام وانا مش واخد بالي إن حضرتك الدكتور نصر أبوزيد المفكر المعروف. اعذرني ما ربطتش الاسم بمعلوماتي، قلت له لعل معلوماتك عني مش وحشة؟ ضحك "نواف" ببراءة عذبة وقال: اعذرني يا دكتور ما خطر ببالي إن مفكر كبير زيك ياخد ويدي في الكلام مع واحد بسيط زييي. شعرت بخجل حقيقي من هذا الإطراء، وقلت له: يا "نواف" العمل في مجال البحث والفكر مهنة زي كل المهن. لو انت بتمارس مهنتك بجد وإخلاص وأمانة ومعرفة، فلست أقل من أي مفكر. المفكرين بني آدمين عاديين، بعضهم بيمارس الفكر بجد وإخلاص وأمانة ومعرفة، وبعضهم زي بعض أصحاب المهن الأخرى مزورين ومرتشين. حكيت لنواف باختصار سيرتي الذاتية : الأسرة والأهل والنشأة. بدأ "نواف" يكلمني عن ابنته – طفلة أكبر قليلا من عامين – وأراني صورتها على الموبيل. سألته: ناوي تعلمها لغاية فين؟ لغاية ما تحب توصل، يارب تبقى زي ما تحب تكون.
تحدثنا في أمور كثيرة عن "التعليم" و"السياسة" و"الاقتصاد" و"المشكلات الاجتماعية". بعد أن ضمن "نواف" راحتي التامة في قاعة "كبار الزوار" كان يسـتأذن لإنهاء بعض الأعمال في المكتب، هكذا عرفت أنه مدير شركة الطيران الكويتية التي سأستقلها عائدا إلى القاهرة. في هذه الغيبات كان يحرص على أن يكون معي أحد موظفي المكتب حتى يعود. سألته مازحا: جرى إيه يا نواف هو انا تحت الحراسة ولا إيه؟ رد بانزعاج حقيقي : حاشا لله يا دكتور! لا أريد أن أتركك وحدك، زميلي معك ربما تحتاج لشي. شرحت له أنني أمزح، ولكني سألته: طيب فين الجواز؟ حاجزينه ليه؟ أنزعج مرة أخري : يا دكتور والله راحتك هي أهم شيئ عندي. لن أجعلك تمر عبر إجراءات بوابات الوصول إلى الطائرة. سأحملك بنفسي بشنطتك حتى المقعد. لذلك أحتاج الجواز لإنهاء الإجراءات، ويكفي الإزعاج الذي سببناه لك. وهذا ما حدث، قبل الإقلاع بدقائق حمل "نواف" حقيبتي ومررنا عبر كل البوابات الإلكترونية حتى المقعد: مع ألف سلامة يا دكتور، شرفتنا ونعتذر عن الإساءة.
4- دخول الكويت بالصوت دون الصورة:
الجهة الداعية هي مركز الحوار الثقافي (تنوير) وهو مركز أنشأه مجموعة من المثقفين الكويتيين يتركز نشاطه في الإطار الثقافي والفكري وله موقع إلكتروني: www.kwtanweer.com
ضمن إطار الدعوة هاتفني الدكتور أحمد البغدادي الذي أعرفه من خلال كتبه وآرائة ولم أشرف بلقائه. الدعوة لأي فعالية فكرية في أي مجتمع عربي تحتل أولوية قصوى في ترتيب نشاطي، مهما كانت الدعوة متأخرة في التوقيت. في هذه الحالة تلقيت الرسالة الأولى للدعوة في 21 أكتوبر، أي قبل أقل من شهرين من الموعد المحدد. قبلت الدعوة مرحبا وتم الاتفاق على إلقاء محاضرتين يومي 16 و 17 ديسمبر 2009 : الأوالي بعنوان "الإصلاح الديني في الدولة الدستورية"، والثانية بعنوان "قضايا المرأة بين الخطاب القرآني والرؤية الفقهية". خلال فترة إقامتي المؤقتة في المطار لم يكف الهاتف عن الرنين من رجال الصحافة والإعلام والمثقفين وبعض أعضاء البرلمان، وكلها مكالمات تبدأ بالاعتذار وتؤكد المساندة والتأييد. اتصلت النائبة د. رولا دشتي والسيدة ابتهال الخطيب والنائب الأستاذ صالح الملا والنائبة د.أسيل العوضي، وكلاهما تقدم باستجواب لوزير الداخلية – بعد تجديد الثقة به من جانب الإسلاميين الذين كانوا قد طرحوا من قبل حجب الثقة عن الوزارة كلها – لتقديم التبريرات القانونية للمنع من الدخول. حين وصلت إلى مطار القاهرة بعد منتصف الليل (صباح يوم 16 ديسمبر) وجدت مكالمات كثيرة ممن أعرف (طالب المولى، واحمد البغدادي) وممن لا أعرف. لكن الوقت كان متأخرا، وأنا عادة أغلق تليفوني المحمول في الساعة العاشرة مساء، ولا أرد على أي مكالمات على التلفون الأرضي بعد ذلك إلا إذا كان الرقم الطالب هو رقم زوجتي الدكتوره ابتهال حين تكون في القاهرة وأنا في هولندا.
في الصباح اتصلت بكل من "طالب مولى واحمد البغدادي" اللذين أبلغاني قرارهما بإقامة الفعالية في موعدها مساء اليوم (16 ديسمبر) كما هو مقرر، وطلبا مني ضرورة المشاركة عبر التليفون. وقد كان، وبهذا ثبت للمانعين عبثية المنع في العصر الحديث.
في تمام الساعة السادسة مساء بتوقيت القاهرة – السابعة بتوقيت الكويت – بدأت وقائع الفعالية بتقديم من الأستاذ "طالب المولى" استمعت إليه كاملا. ثم جاء دوري فبدأت مداخلتي بتعليق على ما حدث لم يخرج على ما طرحته من أن المشكلة الأساسية هي مشكلة صاحب القرار الذي خضع للابتزاز فداس على القانون من أجل حماية كرسيه المزور. من حق أي جماعة أو أي شخص أن يعبر عن اعتراضه على أي قرار يراه غير ملائم أو يراه ضارا بمصالح البلاد، لكن مهمة المسئول الحفاظ على القانون. في حالة تأشيرة دخول المواطن المصري العربي "نصر حامد أبوزيد"، تمت الموافقة على منح التأشيرة لعدم وجود مانع قانوني. هذا الوضع لم يتغير، ولا يجب أن يتغير، باعتراض معترض، اللهم إلا إذا كشف الاعتراض عن وجود خطر محدق من دخول الشخص يعرض البلاد لوباء مرضي أو وباء سياسي/اجتماعي. وفي هذه الحالة الأخيرة من حق الشخص أن يعرف الأسباب القانونية لمنعه من الدخول رغم سلامة إجراءات منح التأشيرة.
السياسي في بلادنا صار صدى باهتا للتطرف باسم الدين. التطرف يبتز ويهدد والسياسي يذعن، فتسقط كل أقنعة الليبرالية والديمقراطية وحقوق الإنسان التي يتجمل بها السياسي. يجب أن تكون معركة المثقف ضد السياسي، الذي هو الصدى الباهت للتطرف الديني. جريمة ثقافية كبرى أن يتحالف المثقف مع السياسي باسم محاربة التطرف والإرهاب، ذلك أن السياسي متطرف وإرهابي من نفس النمط. متطرفان يكره كل منهما الآخر، وإرهابيان يرهب كل منهما الآخر، والضحية نحن: الشعب بكل طوائفه ومنهم المثقفون المستقلون، ابناء البطة السوداء أو العرجاء كما نقول في الأمثال المصرية. من هنا أؤكد دائما وفي كل مناسبة على ضرورة أن يتمسك المثقف باستقلاله حتى لو تبنى السياسي منظور المثقف. على المثقف أن يكون دائما حارس قيم وعليه أن يحذر أن يتحول بالتحالف مع السياسي فيكون "كلب حراسة". علينا أن نتعلم من دروس التاريخ كيف تتحول الأفكار على يد السياسي إلى أدوات قمع وسجن وتعذيب. لم يكن المأمون ليبراليا ولاعقلانيا حين استخدم مقولات المعتزلة لامتحان البشر من الفقهاء والقضاءة وتعذيبهم، ولا كان المتوكل عادلا حين قلب الموازين فاضطهد المعتزلة. في الحالتين تم خداع المفكرين فدفعوا الثمن. أعظم الأفكار تلوثها السياسة، في بلاد تعتبر "الحرية" فسادا، وترى المواطنين "رعايا"، في بلاد تضطهد المخالفين في العقيدة كما تضطهد المخالفين في الرأي من المنتسبين لنفس العقيدة.
قامت جريدة القبس بتغطية الفعالية بشكل طيب في عددها الصادر يوم 18 ديسمبر 2008.
http://www.alqabas.com.kw/Article.a…
5- الكويت في بيتي:
بعد هذه المقدمة بدأت موضوع محاضرتي – ستنشر فيما بعد – التي استغرقت حوالي ساعة. وقبل أن استأذن في الانصراف – تليفونيا – نبهني الأستاذ "طالب المولى" إلى أنه قادم للقائي في القاهرة يوم السبت 19 ديسمبر. في اليوم التالي للفعالية يوم 17 ديسمبر أكد الأستاذ "طالب" أنه سيصل القاهرة يوم الجمعة 18 على أن يلقاني يوم السبت 19 في بيتي. كان الرجل حريصا كل الحرص على أن ألقاه في بيتي دون أن أتجشم أي عناء للقائه في المطار أو في الفندق. ولما كنت أقيم في المدن الجديدة بمحافظة السادس من أكتوبر، حيث يصعب وصول سائق التاكسي إلى المكان دون وصف تفصيلي دقيق، فقد استعنت بالصديق الدكتور على مبروك لإحضار العزيز "طالب" وأن يحضر لقاءنا. كانت المفاجأة أن الأستاذ طالب أحضر معه الهدية التذكارية التي تعطى للضيف الزائر بعد الفعالية باسم المركز. سلمها لي وتكفل الدكتور علي بالتصوير، الصورة التي ستؤكد لمن لا يفقه أنني دخلت "الكويت" صوتا وصورة رغم أنف المانعين. كان يوما رائعا تعرفت فيه على مضيفي. وكانت الزيارة أكثر من رائعة، خاصة في جزئها الثاني بعد أن عادت الدكتورة ابتهال من الجامعة وتعرفت على الضيف العزيز وشاركتنا النقاش في قضايا الفكر الديني، المساواة، وحقوق المرأة.
  

الأربعاء، 16 ديسمبر 2009

" مسلمة الحنفي ... قراءة في تاريخ محرّم "

في كتابه - مسلمة الحنفي ... قراءة في تاريخ محرّم -


محيي المسعودي



في كتابه " مسلمة الحنفي ... قراءة في تاريخ محرّم "
الباحث العراقي جمال علي الحلاق يُعيد ل"مسيلمة الكذاب" اسمه وعقيدته
(( الم ترى الى ربك كيف فعل بالحبلى , اخرج منها نسمة تسعى , بين صفاق وحشا, وان الى الله المنتهى .. ..... والشمس وضحاها . في ضوئها ومجلاها . والليل اذا عداها. يطلبها ليغشاها . فادركها حتى اتاها واطفأ نورها ومحياها. ))
هذه بعض من آيات "مسيلمة الكذاب " التي استظهرها الباحث والشاعر العراقي المقيم في استراليا جمال علي الحلاق في كتابه الذي صدر عن دار الجمل للنشر والتوزيع بعنوان "مسلمة الحنفي ... قراءة في تاريخ محرّم" وجاء الكتاب في 190 صفحة من القطع المتوسط . ويُعد الاول من نوعه في اعادة قراءة "تاريخ محرّم" بلغة صريحة . يمهد البحث للكشف عن شخصية مسلمة الحنفي او من عُرف ب "مسيلمة الكذاب" من خلال اعادة قراءة تاريخ العقيدة الحنفية والاحناف في الجزيرة العربية, اعتمادا على اكثر من 100 مرجع من بينها امهات الكتب واولها القران الكريم, كما نقّب وحفر الباحث في المراجع والدواوين الشعرية العربية لشعراء من العصر الجاهلي والاسلامي بكل مراحله واستغرق الباحث سنوات طويلة وهو يجمع جمل واحاديث وابيات شعر متناثرة في مصادر متعددة وفي ازمنة وامكنة مختلفة ليُعد تركيبها ويكشف عن بعض الحقائق المغيبة والمهربة والمسروقة . الكتاب بذاته يكشف عن مقدار الجرأة والمخاطرة الكبيرتين اللتين تميز بهما الكاتب, ذلك, عندما تناول تاريخ سعت المؤسسة الدينية الى طمسه على مدار اربعة عشر قرنا, وعدت الحديث عنه بمثابة ردة عن الاسلام يكون مصير الخائض فيها القتل . هناك ثمة حقائق كشفها واكدها الباحث, اولى تلك الحقائق ان مسلمة الحنفي "مسيلمة" لم يكن "مرتدا" كما سعت المؤسسة الدينية الى ترسيخه في العقلية الجمعية على مدار القرون الماضية لان مسلمة الحنفي لم يكن مسلما اصلا حتى يرتد عن الاسلام بل كان نبيا حنفيا من بين عشرات الاحناف المعروفين في الجزيرة العربية قبل واثناء ظهور الديانة الاسلامية وان الاخير دعا الى التوحيد قبل النبي محمد "ص" وبعده . وبيّن الباحث ان الاسلام امتداد للديانة الحنفية كما يؤكده المسلمون بقولهم " حنيفا مسلما" اذ قدموا الحنيف على المسلم . وقسم الباحث الاحناف الى اقسام . ذكرمنهم احناف اليمن ونبيهم عبهلة العنسي واحناف اليمامة ونبيهم مسلمة الحنفي واحناف مكة ونبيهم محمد بن عبد الله وانبياء آخرون . ودحض الباحث معظم الصفات الخُلقية والخلقية السيئة التي وصَفت بها المؤسسة الاسلامية "مسلمة" من خلال ما دونه المؤرخوها ورموزها . وشكك بمدونات هذه المؤسسة لانها هي المنتصرة وهي التي كتبت هذا التاريخ , واستظهر واشار الباحث الى مفاصل مهمة في التاريخ سعت المؤسسة الاسلامية الى طمسها وتعميتها وتهريب الحسن من الاحداث والاحاديث الى ذاتها ورموزها . وخرج الباحث بحقيقة مفادها ان التاريخ لم يدون الحقائق والوقائع التاريخية بصدق وكان منحازا بالكامل الى المنتصر الذي كتبه . ومن الجدير بالذكر ان الكاتب جعل كتابه في قسمين , الاول جاء بمبحثين المبحث الاول عمد فيه الى تاسيس قاعدة منهجية لقراءة الاخبار وكيفية استظهار الحقيقة التاريخية منها . والمبحث الثاني سعى فيه الى كشف الارضية السياسية والاجتماعية والاقتصادية لمنطقة اليمامة "موطن مسلمة الحنفي وعشيرته ومريديه انذك ومدى تاثيرها في شبه جزيرة العرب . اما القسم الثاني من الكتاب فقد جاء عبر تسعة مباحث تخصصت جميعها في دور وفاعلية مسلمة الحنفي على الصعيد الثقافي والاجتماعي والسياسي والعقائدي قبل دعوة النبي محمد واثناءها وبعدها ثم الحق بها مبحثا عاشرا تناول فيه سجاح بنت سويد نبية بني تميم وزوجة مسلمة . واستطاع الباحث جمع وترتيب بعض ما تبقى من قرآن مسلمة مؤكدا فيه دعوة مسلمة الى التوحيد . وجاء في مقدمة الكتاب قول الباحث جمال الحلاق " ان التردد والخوف في الاقتراب من الحقائق التاريخية المسكوت عنها هو بحد ذاته خيانة لوجود ذات الباحث , قبل ان يكون خيانة لمنهج البحث والمعرفة , كما ان التسليم بالتحريم يعني مباشرة انه لا مجال للتغيير الاجتماعي . " وسيظل المجتمع يستنسخ نفسه ويصبح الكل فائض عن الحاجة . وقال الباحث ان المؤسسة الدينية بانغلاقها عملت على العكس من الآية القرآنية القائلة " الم نجعل له عينيين * ولسانا وشفتين ..." وذلك عندما اختزلت الانسان بالاذن فقط التي تجاوزتها الاية . وحوّلت هذه المؤسسة الامة الاسلامية على طول التاريخ الى اذن فقط . ليتحول العالم الى ما يشبه القطيع, من خلال زرع الخوف بين صفوفه اتجاه النصوص المقدسة وقتل الجرأة عند الناس في السؤال او الخوض فيها وفي تاريخها حتى اصبح المسلم يرى العالم بين واحدة فقط هي عين المؤسسة .
وختم الباحث كتابه بالقول : هذا البحث محاولة في الاقتراب من كنه التكالب الجمعي على نبذ مسلمة الحنفي كوجه آخر للحنفية , واعادة قراءة ما تمّ تهريبه من سيرة الرجل المبثوثة كجمل قصيرة او اخبار مضببة واخرى معمات حتى يصعب على الذهن البسيط بلوغها , لكنها تظل مفاتيح لكثير من الاقفال التي تغلق مسامات التنفس على الرأي المختلف , وتضيق الخناق على التجربة الحياتية المختلفة.
واخيرا تجدر الاشارة الى ان الباحث لم يذكر العلاقة بين تسمية الموحدين العرب الاوائل ب "الاحناف" وبين قبيلة مسلمة الحنفي أي "بني حنيفة" وهل ان تطابق الاسماء جاء صدفة ام ان الديانة الحنفية "التي كان النبي محمد احد رجالها قبل دعوته للاسلام" هي ديانة بني حنيفة وقد سُميت باسمهم .


 

الاثنين، 14 ديسمبر 2009

المجتمع والعنف

بقلم نوربار رولاند Norbert Rouland   ترجمة : سامي الرّياحي


مهما تكن الأهميّة التي تمنح للحرب، والمستقبل الذي نتوقّعه لها، فإنّها شكل شائع من العلاقات بين المجتمعات في العصور التاريخيّة. إنّها كذلك إحدى طّرق استخدام العنف كصيغة من صيغ تسويّة النّزاع. ومع ذلك فغالبا ما يتدخّل هذا العنف لحلّ النّزاعات الدّاخليّة في المجتمع، حيث أنّه يحق لنا التساؤل إن كان لا يتعايش مع الحياة الاجتماعيّة. فاستخدامه ليس مخصوصا بالجنس البشريّ فحسب، إذ تلجأ إليْه المجتمعات الحيوانيّة أيضا، وسوف نقدّم بعض التدقيقات حول هذا الموضوع قبل أن نحاول الإجابة عن هذا السّؤال.
1 ـ دروس المجتمعات الحيوانيّة :
ـ العدوان داخل النوع و مابين الأنواع : AGRESSION INTRA – ET INTERSPECIFIQUE إنّ كلّ تمظهر للعنف ليس بالضّرورة أمرا عدوانيّا. وذلك هو شأن الصّيد، فالحيوان الذي يقتل فريسته من أجل التهامها مثله مثل الصيّاد الذي يقتل طريدته دون نوايا عدائية. ولارتباطها بالعلاقات العدائيّة فإنّ العدوانيّة يمكن أن تتخذ أشكالا متعدّدة. فهي إماّ أنْ تُمارس بين أفراد من أنواع مختلفة (عدوان ما بين الأنواعagression interspécifique )، ومثل هذه الحالات نادرة جدّا وتظلّ عواقبها ضارّة لأنّ هذه الصراعات ليس ذات طابع توافقيّ، ولكنها ذات طابع تدميريّ أساسا. أو أنّها تتدخل كثيرا ما بين أفراد النّوع ذاته (عدوان داخل النّوع وما بين الأفراد intraspécifique interindividuelle). وأغلب علماء الاتنولوجيا يعتقدون أنّ هذا النوع من العنف لا يضرّ بالحياة الاجتماعية إلاّ عرضا. وبصفة عامّة فإنّ وظائفه ـ هي على العكس ـ تعود بالنّفع على النّوع الحيوانيّ حيث تضمن المحافظة عليْه. فهي تسمح أوّلا بتوزيع محكم لحيوانات من نفس النّوع على مساحة ما من الأرض، فإذا ما استطاعت أنواع مختلفة من التعايش دائما على نفس الأرض لأنّها لا تستغلها بنفس الكيفيّة، فإنّ الأمر ليس كذلك بالنسبة إلى أفراد من نفس النّوع، ذلك أنّه لا يمكن لأرض ما أن تهبهم إلاّ قدرا معيّنا من الثروة. إنّ العدوانيّة يمكن أن تصلح لتثبيت الهرميّة الاجتماعيّة. ففي حال وقوع تمرّد فإنّ الأقوى، أو من يحتلّ مكانة عليا في السلّم الاجتماعي، سيفرض نفسه على الأضعف أو من هو في الأسفل. وفي كلّ الحالات فإنّ العدوانيّة لا تهدف في أغلب الأحيان إلى القضاء على أحد الزعماء ولكن تهدف إلى إبعاده أو الحصول على طاعته. وتتحقّق هذه النتيجة بأقلّ كلفة للمجتمعات من عدّة صراعات شّكليّة وذات آثار محدودة تتمّ عبر طرق مختلفة مثل مواقف التهديد الّرادعة (رفرفة ذيل من سمكة في اتجاه سمكة أخرى) ومثل معارك الشرف( تشابك سمكتيْن بفكّيْهما وتجاذبهما، وهو ما قد يتطلّب وقتا طويلا دون أيّ خسائر تذكر، وهو موقف قارنه ك.لورنز k.Lorenz بالقرويين السويسريين حيث يمكن للمتصارعيْن التجاذب طيلة ساعات عدّة ..من السراويل).
وأخيرا يمكن للعدوانيّة أن تولّد صراعا بين مجموعات ـ أو بين أفراد مجموعات ـ تنتمي إلى نفس النوع (عدوانيّة داخل النّوع وما بين المجموعات agressivité intraspécifique intercommunautaire)، فإذا نُقل أحد الفئران من عائلته إلى عائلة أخرى فسوف يقتل في الحال، لأنّه توجد حالة من الحرب المستمرّة بين هذه المجموعات المختلفة. وخلافا لشكل العدوانيّة داخل النوع سالف الذّكر، فإنّ ّ هذه الأخيرة لا تحقّق أيّ وظيفة لصالح النوع التي استشهدنا به. إذ بتصفيّة المجموعات الأقل قوّة تضمن بقاء المجموعات الأكثر قوّة أو الأشدّ عدوانيّة وتوسّعها. وحسب ك. لورينز k.Lorenz فقد نكون هنا أمام طريق مسدود للتطوّر، إذ أنّ العدوانيّة داخل النّوع وما بين المجموعات intraspécifique) et intercommunautaire) قد لا تؤدي إلى أيّ نتيجة تذكر. ومثلما هو حال عدوانيّة ما بين الأنواع ( agressivité interspécifique ) فإنها مضرّة بطبعها ولكنها تختلف عنها بكونها أكثر شيوعا وهذا ما يجعلها أكثر خطورة.
وخلافا لذلك، فإنّ العدوانيّة داخل النوع وما بين الأفراد لا يمكن لها أن تحاكي أيّ شكل مرضي من العلاقات الاجتماعيّة، وقد تبدو هذه الملاحظة أكثر ثباتا في أنّ درجة العدوانيّة الخاصة بمجتمع معيّن ترتبط ارتباطا مباشرا بوجود روابط شخصيّة بين أفراد من نفس النّوع. فالحيوانات التي تعيش ضمن عصابات سميكة(الرنكة، العصافير، القوارض) هي أقلّ عدوانيّة، ولكنّ تضامنها معدوم إذ أنّ الرّوابط فيما بيْنها ليست روابط فرديّة individualisés . وعلى العكس فإنّ ما يمكن تسميّته بالصداقة والوفاء بيْن اثنيْن أو بين العديد من الأفراد المتميّزين جدّا لا توجد إلاّ عند الحيوانات التي تكون درجة العدوانيّة فيها مرتفعة ( كالذّئاب). إنّ الحبّ والكره قريبان جدّا من بعضهما، وهو ما تعبّر عنه الحكمة الشعبيّة منذ عهود طويلة. إلاّ أنّ الأمر ليس كذلك دوْما فالعدوانيّة تعقب الحبّ والمودّة منذ ملايين السنين (وكذلك الزّواحف والحيوانات القديمة جدّا، فهي عدوانيّة ومجرّدة من العواطف). إنّ الرّوابط الشخصيّة لم تظهر إلاّ عند كاملات العظام والعصافير والثدييّات و الحيوانات التي ولدت بثلاثيّة سفلى(منذ مليون سنة تقريبا)، ومعها وجدت إمكانيّة الرّوابط العاطفيّة أو الودّية. وبعبارة أخرى، إذا وجدت العدوانيّة دون حبّ فإنّ الحبّ لا يمكن أن يوجد دون عدوانيّة. إنّ العدوانيّة وإضفاء الطّابع الشخصي على العلاقات بين الأفراد وكذلك المودّة والحبّ هي المثال التراكميّ للتطوّر.
مقارنة بين المجتمعات الإنسانيّة والحيوانيّة:
إنّ لدى علماء الإثنولوجيا اتّجاها نحو التشكيك في جدوى المقارنات بين المجتمعات الإنسانيّة والحيوانيّة. فممّا لا شكّ فيه أنّ هذه المجتمعات منفصلة عن بعضها باختلافات جذريّة. وبصفة أدقّ فإنّ مجرّد إعطاء قيمة للشخص الإنساني ـ هذه القيمة مختلفة كذلك حسب المجتمعات وهي ليست إلّا أثرا من آثار النّظريات العنصريّة ـ يمنعنا من تشخيص العوامل الخالصة للعدوان داخل النّوع وما بين الأفراد تشخيصا إيجابيّا. فليس مبرّرا لاستبعاد فرد أن يكون الأضعف أو الأقلّ موهبة من الآخرين.
غير أن ّ هذه الاختلافات لا تمنع حسب وجهة نظرنا أيّ مقارنة. فالإنسان رغم قدرته على التفكير ليس كائنا عقليّا. إذ لازال ـ وقد يكون في الغالب ـ خاضعا لعاطفته. إنّ العدوانيّة تقوم دائما بدور في الصلات التي يعقدها الإنسان مع الآخرين. وكما هو شأن الحيوان فإنّ هذه العدوانيّة لا تقود بالضرورة إلى العنف، ففي حالات عديدة تعوّض بتحويلها إلى صراعات شكليّة تحديدا. وعندما يقع حلّ نزاع بالعنف رغم كلّ شيء، فإنّ استخدامه يخضع عادة لقانون وهذا ما سنلاحظه في دراستنا للنظام الثأري * فلا يتمّ الانتقام بشكل أعمى ولكن من خلال الخضوع لقواعد اللّعبة. ومن ناحيّة أخرى فإنّ الكائنات البشريّة تظهر عدوانيّة وعنيفة أكثر أو أقلّ تبعا للإطار السوسيولوجي الذي تنشأ فيه علاقاتهم، وفي هذا المستوى يوجد تواز ما مع المجتمعات الحيوانيّة. إنّ الإنسان عامّة لا يبرهن على عدوانيّة ما بين الأنواع agressivité interspécifique، فمجتمعات الصيّادين تقتل من أجل الحاجة مثلما هو الشأن عندما ندجّن حيوانات كي نأكلها، ومجتمعاتنا الحديثة تهتم كثيرا بحماية بعض أنواع الحيوانات النّادرة أو المهدّدة بالانقراض.
إنّ العدوانيّة داخل النّوع وما بين المجموعات تؤدّي غالبا إلى استخدام العنف. وهي مع ذلك متطورة جدّا حتى وإن برهنت في أكثر من مرّة على ضررها. ومثلما رأينا فإنّ الحرب ظاهرة عامّة في العصور التاريخيّة. ورغم ذلك فإنّ العدوانيّة داخل النوع وما بين الأفراد وإن لم تكن متواترة جدّا فإنّها أقل خطورة لأنّها لا تؤدّي مباشرة إلى العنف. ويتوقّف كلّ هذا أيضا على درجة المسافة الاجتماعيّة الفاصلة بين الأفراد، فبقدر ارتفاعها يكون استعمال العنف محتملا والعكس صحيح.
سنتبيّن فعلا أنّه عندما ينشب صراع بين أفراد ينتمون إلى نفس المجموعة في مجتمع ما فسيكون من الأفضل تسويته بالطرق السّلميّة، وفي مقابل ذلك، عندما يتنازع أفراد ينتمون إلى مجموعات مختلفة فإنّ اللّجوء إلى الثأر سيكون دائما ضروريّا. إنّ البعض من هذه الأفكار يمكن أن يسمح حسب رأينا بالإجابة جيّدا عن سؤال حتميّة العنف في المجتمعات الإنسانيّة.
سؤالان يمكن طرحهما فعلا. هما: هل العنف حتميّ؟ وما هي الأسباب التي تفسّر عدم شيوعه في كل المجتمعات؟
أ ـ هل العنف حتميّ؟
حتى لو افترضنا أنّ العنف متأصّل في الطبع الإنسانيّ، فقد يعتقد المرء بأنّ واحدا من أهمّ إنجازات الثقافة إفادة ستكون في إزالته. فما بين 1946 و 1950 عرض بعض الكتاب الأمريكيين ( تافت Taftو ألنسكي Alinski و قالتونغ Galtung) نماذج من المجتمعات التي قد يستبعد فيها العنف والجريمة، وتتمثّل الحلول المقترحة بوجه عامّ في جعل القيم الثقافيّة متجانسة، وفي التقليص الجذريّ من انعدام المساواة على الصعيديْن السيّاسي والاجتماعي الاقتصادي(أو إزالتها). إنّ نظريّة د. سزابو D.szabo ذات طبيعة وصفيّة أكثر. فعند هذا الكاتب ينجم العنف عن عوامل فيزيولوجيّة (متأصّلة ضمن جينات تطوّر الدّماغ البشري)، وكذلك عن عوامل اجتماعيّة وسوسيولوجيّة. وتتكوّن هذه الأخيرة ضمن درجة التماسك بين مختلف المجموعات الفرعيّة لمجتمع ما. فبقدر ما يكون قويّا يقلّ ازدياد العنف. وهي ملاحظة دقيقة، إذ سنتبيّن أنّ مجتمعات الصيّادين ـ القاطفين هي جماعيّة أكثر من مجتمعات المزارعين المستقرّين عموما، وهم يفضّلون الصيغ السلميّة لتسويّة النّزاعات. ولكن ينبغي الذّهاب بعيدا في تحليل الأسباب إذ أنّ درجة تماسك مجتمع ما تقتضي تضافر العديد من العوامل التي ينبغي أنّ نحدّدها.
وعلاوة على ذلك، فكل مجتمع ولو كان متكاملا فإنّه يبدو لنا قد شهد أشكالا من العنف. فنحن نعتقد دون حرج مع العميد ف. بولون F.Boulan أنّ تصوّر مجتمع خال من العنف غير ممكن، لكن في المقابل من الممكن الحدّ من مظاهره. وبدقّة أكثر نعتقد أنّه إذا كانت العدوانيّة حتميّة فإنّ العنف يمكن أن يكون قيدا. إنّ العدوانيّة أمر حتميّ لأنّ الإنسان ـ كما تبيّنا ذلك ـ لم يستطع أن يبرهن إلى حدّ الآن أنّه قادر على حكم نفسه بواسطة عقله فحسب، ومن ناحيّة أخرى فإنّ العدوانيّة باعتبارها تصعيدا يمكن أن تكون لها آثار خلّاقة ومفيدة للمجتمع. وبناء عليه فهي تحمل وجه يانس (( Janus* إذ لا يمكن التخلّي عن محاسنها ولا تجنّب كل مساوئها.
ومع ذلك ليست كلّ المجتمعات عدوانيّة ولا عنيفة بنفس الدرجة. وفي هذا الصدد فإنّ التجربة الانتروبولوجيّة لا تؤكد النظريّة التي تجعل من التعدّدية الاجتماعيّة محدّدة لدرجة العنف. ومن جهة أخرى فإنّ الطريقة التي تنظر بها الفئات المهيمنة في المجتمع للتعدّدية تكتسي أهميّة أكثر من مستواها، إذ تعتبر أمرا نافعا وليس مولّدا للعنف، والعكس بالعكس. ومن ناحيّة أخرى فإنّ الملاحظات الاثنوغرافيّة تجنح إلى التأكيد على عوامل أخرى ينبغي علينا الآن النّظر إليها.
ب ـ النّزوع إلى العنف : مقاربة ما بين الثقافات:
إنّ المعطيات الاثنوغرافيّة تسمح لنا بملاحظة أنّه إذا ما استخدم كلّ مجتمع طرقا سلميّة وعنيفة لتسويّة النّزاعات فإنّه مجتمع غير متوازن في توزيعه. ومن جهة أخرى فعندما يكون الاختيار الفعليّ لصالح الثأر فإنّه لا يطبّق بنفس الحدّة في كلّ المجتمعات. إنّ اللّجوء إلى العنف وأبعاد التضامن في الثأر هما الإشكاليتان اللّتان ينبغي علينا الآن دراستهما.
ـ اللّجوء إلى العنف:
تضفي بعض المجتمعات قيمة على السّلم. فالرّجل الحقيقيّ عند هنود "الزّوني" Zuni ( أمريكا الشماليّة) أو عند "المبوتي"Mbuti(صيادون ـ قطّافون في الكونغو) هو الذي يعرف كيف يتجنّب العراك. وعند الآخرين نجد العكس مثل "الندمبو " Ndembu في زمبيا إذ يتخذ الصراع مكانة هامة في الحياة السيّاسيّة والاجتماعيّة ويتواتر اللّجوء إلى العنف بكثرة. فلا يتأسّس أيّ تلازم ذي دلالة بين مختلف هذه المواقف تجاه العنف والمعطيات البيولوجيّة I (فإذا كانت هناك شعوب ميّالة إلى الحرب فعلا أكثر من شعوب أخرى فليست طباعها الفيزيولوجيّة هي الدّافع إلى ذلك بقدر تاريخها ونظام القيم الذي يخصّها). وعلى هذا الأساس، ينبغي علينا الاتجاه إلى البحث عن عوامل تتصل بالنّظام الثقافي.
إنّ وجود بعض العوامل المؤسّساتيّة (القانونيّة) قد يبدو مساعدا على تسويّة سلميّة للصراع. وخلافا لذلك يدفع غيابها إلى اللّجوء الدّائم إلى العنف. وكذلك فإنّ حضور طرف ثالث قادر على حمل أطراف النّزاع إلى حل سلميّ (وسيط، حكم) أو فرضه عليهم( قاض، سلطة سياسيّة) قد يكون عاملا مشجّعا.
وسيكون دور تدخّل الطرف الثالث وبالأحرى مؤسّسات الدّولة هو الحدّ من العنف. وهنا يُعترف بأطروحة الاتّجاه التطوّري الكلاسيكيّة التي يستعيدها دائما مؤرّخو القانون. إلاّ أنّها أطروحة غير مكتملة وقد تكون غير دقيقة كذلك. فمن جهة تبيّن المعطيات الاثنوغرافيّة أنّ الكثير من المجتمعات التي تضفي قيمة على السّلم لا تعرف وسائل لتسوية الصراعات يتدخّل فيها طرف ثالث أو أنّها تعرف قليلا من ذلك.
ومن جهة أخرى، بيّن ك. ف. و س.س.أوترباين K.F. et C.S Otterbein في مقال هام أنّه لا يوجد تلازم بين تطوّر مركزيّة السلطة وتدنّي الثأر وهو ما يوضّحه الجدول الموالي:




درجة مركزيّة السلطة السّياسيّةعدد المجتمعات التي تثمّن على السلمعدد المجتمعات التي تثمّن على العنف
مرتفع 7 11

13 20
المجموع = 51 مجتمعا
كما توجد فرضيّة أخرى مقبولة في الغالب، وهي أنّ الحرب من المفترض أن تعزّز التماسك الدّاخلي للمجتمع، وأنّ المجتمعات الأكثر قتالا قد تشهد كذلك بين المجموعات المكوّنة لها أقلّ نسبة من الثأر. إلاّ أنّه، وضمن هذا المقام أيضا أُنجزت دراسة حول العيّنة ذاتها فلم تثبت إلاّ تلازما نسبيّا بين هذه الخصائص، فلا يُرصد هذا التلازم إلاّ إذا كان المجتمع مقاتلا(حربيّا) ويملك سلطة سيّاسيّة داخليّة شديدة المركزيّة..أما في المجتمعات التي تكون فيها السلطة السيّاسيّة ضعيفة فإنها يمكن أن تظهر ميلا قويّا إلى الثأر كميلها إلى الحرب في نفس الوقت. ونتبيّن أيضا دون حرج وجود علاقة بين تنوّع بعض العوامل البيئيّة واللّجوء إلى العنف. كما أنّ"رابابور"Rappaport يؤكّد كذلك على حقيقة ما إذا كان تنامي عدد السكّان وعدم تزايد المساحة المطلوبة ـ وهو اختلال عموما ـ مولّدا لصراعات تنتهي بتجريد مجموعة لصالح مجموعة أخرى بشكل عنيف. غير أنّه ينبغي أن نفهم لماذا يفضّ هذا الصراع تلقائيّا بواسطة العنف أكثر من فضّه بطرق أخرى من جهة، ولماذا يوجد عدد من المجتمعات فاقدة للزعامة تسوّى نزاعاتها المتعلّقة باستخدام الأرض بطريقة سلميّة من جهة ثانيّة؟
إنّ مختلف هذه النّظريّات غير مقبولة على الإطلاق. فهناك نظريّات أخرى تملك قدرة تفسيريّة أكبر. وبصورة عامّة سنلاحظ في البداية مع س. روبارتس S.Roberts أنّ نسبة العنف تتوقف على نموذج القيم الثقافيّة الخاصة بمجتمع ما. فعندما ترفع هذه القيم من قيمة الفرديّة والتنافس والعدوانيّة، فإنّ العنف ما بين الأفراد يغدو مهماّ(كما يوضّحه مثال المجتمع الأمريكي). ومن ناحيّة أخرى، إذا كان العنف ما بين الأفراد مرتفعا فإنّ ما يوجد داخل العلاقات بين المجموعات الفرعيّة هو أيضا عنف مرتفع (كما يبيّنه مثال بعض المجتمعات في غينيا الجديدة). ومع ذلك فلا يتعلّق الأمر هنا إلاّ بملاحظات. فهل توجد عوامل محدّدة لاختيارات ثقافيّة لمجتمع ما لصالح العنف؟ يمكن ذكر عامليْن حاليّا: ـ الأوّل: يتّصل بنموذج التنظيم العائلي: إنّ دراسات ك.ف .و س.س. أوترباين K.F et C.S Otterbein تثبت تلازما واضحا بين تواتر اللّجوء إلى الثأر والمجتمعات التي يسود فيها مبدأ السكن الذكوري، سواء كان هذا السكن أبوّيا أو خاصّا بالخال أو سكنا رجاليا. إنّ التلازم يتأكّد إذا أضيف إلى هذا العامل (الذي يظل رئيسيّا) عامل آخر هو تعدّد الزوجات (خلافا لذلك يكون اللّجوء إلى العنف ممكنا بشكل أقلّ إذا ما تواجدنا في مجتمع نظام الزواج الأحادي: نسائي وأموميّ السكن وذو سكن جديد).





وجود للثأرانعدام وجود الثّأر
مجتمعات أبوّية وذات نظام تعدد الزوجات 11 4
مجتمعات ذات نظام تعدد الزوجات أو أبويّة 6 10
مجتمعات لا تعدد زوجات فيها ولا أبويّة 5 14
المجموع = 50 مجتمعا
ومن المعلوم حقاّ أنّ غالب المجتمعات الإنسانيّة محكومة بمبدأ الهيمنة الذّكوريّة، وأن الأنشطة الحربيّة هي من فعل الرّجال في أكثر الأحيان. وعندما يشجّع التنظيم السكني تجمّع الأفراد من جنس الذكور أجيالا تلو أجيال، تتشكّل جماعات ذات اهتمامات أخويّة أكثر تماسكا ونجاعة، للردّ بواسطة التضامن الثأري على الأضرار التي تستهدف واحدا من أفراده عندما يتزوّج، ويظل الإخوة قريبين من بعضهم البعض ومتّحدين جماعيّا مدى الحياة.
إن هذا التضامن السكني يتزايد إذا كان الرّجال مولودين من نسل قائم على تعدد الزوجات. وفي الواقع، ففي المجتمعات القائمة على تعدّد الزوجات يكون زواج الأبناء متأخّرا أكثر من مجتمعات الزواج الأحادي، فمن المفترض أن يزداد ترابط الإخوة غير الأشقّاء قوّة أثناء تربيتهم مع بعض طيلة فترة طويلة . يضاف إلى ذلك أنّ المقارنات بين الثقافات تبيّن أنّ السكن الأبويّ يقترن بالحرب الدّاخليّة وأنّ السكن الأمومي يقترن بالحرب الخارجيّة. الثّاني: يتصل بنموذج التنظيم الاجتماعي ـ اقتصادي. تفضّل مجتمعات الصيّادين ـ القاطفين ** الرّحل أو شبه الرّحل الصيغ السلميّة في تسويّة النّزاعات خلافا لمجتمعات المزارعين المستقرّين. وفي الواقع تقدّم مجتمعات الصيّادين ـ القاطفين الرحّل العديد من الملامح التي تشجّع على التسويّة السلميّة للنّزاعات. فمن جهة لا تُعتمد هذه التسويّة إلاّ في المشاكل العائليّة أو تتعلّق بسبل الحصول على مواد استهلاكيّة قابلة للتلف، في حين أنّه يوجد لدى مجتمعات المزارعين المستقرّين تحديد قويّ للفرد أو المجموعة في مجال ترابيّ، وكذلك نزوع إلى الملكيّة الفرديّة، وهو ما يولّد مزيدا من فرص الصراع، ويشجّع تبعا لذلك على تنامي العدوانيّة. ومن جهة أخرى فإنّ التّرحال يسمح بحلّ التناقض الذي يوجد ما بين الأفراد عبر التباعد أكثر من الصدام. فالملاحظات الاثنوغرافية تبيّن أيضا أنّ التشتّت هو الأسلوب الأكثر اعتمادا في فضّ النّزاعات (إذ يقول مثل بدويّ: لتقريب قلوبنا علينا مباعدة خيامنا)، شرط ألاّ يكون المناخ الطّبيعيّ قاسيّا جدّا (إنّ التحاشي شائع عند قبائل "الهازدا" في تنزانيا كما أنّ قبائل "الكونغ بوشمان" في صحراء "الكالهاري" ترغب قبل كلّ شيء في تجنّب انشطار المجموعة وهي تفضّ الخصومات بسرعة كي تتجنّب بلوغها مرحلة خطرة). ولكن في كلّ الحالات فإنّ طريقة التسويّة السلميّة هي المعتمدة، فإذا ما سمحت بها البيئة يكون هناك التّشتت، وإلاّ فإنّ الصّراع يسوّى دون عنف لتجنّب انقسام المجموعة. إنّ الصراعات تسوّى من طرف الزعماء أنفسهم دون توسّط طرف ثالث. وخلافا لذلك فإنّ الوساطة في مجتمعات المزارعين ـ المستقرّين تبدو إجباريّة، حسب الصيغة المتّفق عليها وهي متداولة كثيرا، أمّا الإبعاد والتفرّق فإنهما نادران جدّا لأنّه تنجرّ عنهما دائما انعكاسات وخيمة أكثر من مجتمعات الصيّادين ـ القاطفين.
ومن ناحيّة أخرى، فإنّ نمط حياتها يفرض على هذه المجتمعات تنظيما جماعيّا متقدّما، فالبحث عن الطريدة وتوقيت الارتحال ومساره، تقتضي قرارات ينبغي أن تتخذ بشكل جماعيّ، في حين أنّ العمل الزراعي وإن كان خاضعا للضوابط الجماعيّة فإنّه ذو تنظيم جماعيّ من درجة أقلّ غالبا. وتبيّن هذه الضرورة القصوى أنّ تلك المجتمعات تعرف في أغلب الأحيان عادات جماعيّة في الإمساك بالطريدة واقتسام الغذاء لها أثر وقائيّ ضدّ الصراعات، ذلك أنّ اقتسام الغنيمة أفضل من الاستيلاء عليها. إنّ السمة الحيويّة دوما للاندماج في المجموعة تبيّن فعلا أنّ العقوبات الاجتماعية ـ النّفسيّة ( توبيخ، تأنيب، تهكّم، إبعاد وقتيّ كما تقوم بذلك قبائل الإنويت*** فعلا عندما تقع مناداة السّارق باسم الشيء المسروق، أو بعدم التواصل معه من خلال استخدام العبارات الدّالّة على العلاقة الأبويّة مع المخاطب التي تشبه لدينا الإنكار)، والمرتكزة على الفضح وإثارة السخريّة هي عديدة وناجعة. فعند قبائل المبوتي Mbuti يقع الإيماء بشكل مبالغ فيه إلى حدّ السخريّة من تصرّف المذنب، وعند الإنويت Inuit les يقع تنظيم منافسات في الغناء لفضّ بعض النّزاعات إذ أنّ المنتصر ليس من يكون على حقّ ضرورة، ولكن من يتوصّل إلى إجبار منافسه على الانسحاب. لقد لاحظنا أنّ منافسات الغناء هذه توجد خصوصا في مناطق القطب الشماليّ، حيث تكون البيئة الطبيعية أشدّ قساوة والمجموعات محدودة جدّا من الناحيّة الديمغرافيّة . وهو ما يؤكّد أهميّة العوامل البيئيّة في اختيار طرق فضّ النّزاعات. وخلافا لذلك ففي مجتمعات المزارعين المستقرّين تُستخدم بتلقائيّة أكبر عقوبات تمسّ الشخص جسديا أو الأملاك الماديّة لفرد من الأفراد.
وهنا علينا الحذر من التبسيط الساذج للمقابلة الثنائيّة بين المجتمعات البدويّة والحضريّة فالعنف يوجد أيضا عند البدويين (القتل متواتر عند البدويين والإنويت)، والمزارعون لا يسوّون جلّ نزاعاتهم بالقوّة. ومع ذلك يظلّ الجنوح إلى العنف بارزا عند المزارعين أكثر من البدويّين.
لكن يوجد نمط آخر من تنوّع استخدام العنف، وهذا التنوّع يرتبط كذلك بأحجام التضامن الثأري. ـ أحجام التضامن الثأري: إنّ الثأر غير موجود في بعض الحالات ـ وهو في الحقيقة نادر جدّا ـ .فهو من صنع الجماعات أكثر من الأفراد. إلاّ أنّ المجموعات التي تختصّ عادة بهذه القدرة وتحديدا "مجموعة الثأر"لا توجد. (توجد فعلا مجموعة عائليّة ولكنّها لا تستطيع الثأر لأحد أفرادها). وكذلك هي قبائل القامو Gamo في أثيوبيا فهي مجتمع لا ثأريّ، لأنّ الأعمال التي قد تؤدّي إلى إثارة الثأر يعاقب عليها من المجتمع برمّته.
إلاّ أنّ مجموعات الثأر موجودة في غالب الأحيان وأحجامها مكوّنة لحدود الانتقام في نفس الوقت. ذلك أنّها قاعدة مشتركة بين كلّ بين كلّ المجتمعات التي تعرف الثأر مهما كان ميلها للعنف، إذ لا يمارس الثأر إلاّ بين المجموعات المختلفة وليس داخل مجموعة في حدّ ذاتها فمخاطر تفكك هذه المجموعة كبير جدّا. وكذلك هي قبائل"الماسا"Massa (الكامرون ـ تشاد) التي لا تسمح إلاّ بنزال بواسطة العصي بين أفراد العشيرة الواحدة، فلا تؤدّي إلاّ إلى جروح خفيفة غير قابلة للثأر في حين يمكن استعمال الرمح المسيل للدماء والمثير لأعمال الانتقام في النزاع بين العشائر المختلفة. كما أنّ لبعض الحدود سمة خاصّة. فبعضها يتوقف على تصرّفات الأطراف المعنيّة بالنّزاع. فقد تحاسب المجموعة فردا من المجموعة شديد الشراسة وتتخلّى عنه سواء كان جانيا أو متضرّرا. فعند الإنويت يعتبر من يعود إلى الجرم بشكل آليّ أو من يتّهم بأعمال مضرّة، مجسّما لحالة خطيرة وتتملّص منه كل من المجموعة والمجتمع. فهو إمّا أن يبعد ( تعني عبارة qivituk التّخلّي وهي مرادفة للانتحار… ) أو أن تكلّف مجموعته منفّذين لحكم الإعدام يكونون عادة من أقارب مثير الشغب، وهو احتياط حكيم يتّخذ تجنّبا لاحتمال إثارة ردّ الفعل أو الثأر . وعلاوة على ذلك فإنّ حجم الجماعات المعنيّة بالثأر يختلف باختلاف المجتمعات. ففي بعض الحالات تكون المجموعة المرجعيّة هي ذاتها سواء كانت عشيرة بأكملها أو فرعا منها أو سلالة أو جزءا من سلالة. وفي حالات أخرى تختلف هذه الأحجام باختلاف المسافة الاجتماعيّة بين الجاني والمتضرّر، فعند البدويين إذا كان القاتل ينتمي إلى قبيلة معادية أو غريبة، فإنّ قبيلة الضحيّة هي وحدها المعنيّة. وإذا تعلّق الأمر بمزيج أو تحالف بينهما فإنّ أولياء الدّم هم المعنيّون.
الهوامش:
1 ـ Cf. Infra 193 à 197.
2 ـCf. Supra,177-178.
3 ـCf. Infra, 182.
4 - Cf.D. Szabo , Agression, violence et système socio- culturels: essai de typologie, revue de sciences criminelles,1976,p.383 sq.
Cf.F .Boulon , Violence et société ,RRJ,3(1981),p.342 -352 ـ 5
6 _Cf .S. Roberts, Oder and Dispute. An Introduction To legal Anthropology , Penguin Books, 1979,p54.
7 -Cf. K.F et C.S Otterbein , An eye for an eye, a tooth for a tooth . A cross cultural study of feuding American Anthropologist ,67(1965),p.1450 -1482 Cf. également dans le même sens : K.F. Otterbein ,internal war : a cross-cultural study, American Anthropologist 70 -2(1968),277-289.
8 -Cf.K.F et C.S Otterbein , op, cit ., 1476.
9 -Cf. S. Roberts ,op.cit .,p 157.
10 ـأخذ الجدول من K.F . et C.S Otterbein, op, cit., p,1475
11 ـ يمكن أن نلاحظ مع س.روبارتس أنّ هذه النّظريّة تطرح سؤالا دون جواب .فهذه المجتمعات ذات السكن الذكوري تعرف نسبة من العنف مرتفعة جدّا بين أفراد المجموعة الواحدة في حين أنّه عندما نفسّر النزوع نحو الثأر بين المجموعات عبر التضامن القويّ بين كل مجموعة من هذه المجموعات فإنّنا نتوقّع أن تفضّل كلّ مجموعة طرقا لتسويّة سلميّة لنزاعاتها الدّاخليّة… و نضيف أنّ المقارنات ما بين الثقافات تبيّن أنّه إذا كان السّكن الأبوي يقترن بالحرب الدّاخليّة فإنّ السكن الأمومي يقترن بالحرب الخارجيّة .و نلاحظ أيضا أنّ أ. أ.هوبل E.A. Hoebel (la vengeance,DC,15-16[1988],160-170-) ينقد الطريقة التي كوّنا منها السيدة و السيّد أوترباين Otterbein مثاليْهما و عبّر عن شكوكه حول استنتاجاتهما.
12 ـCf. N. Rouland ,les modes juridiques de solution des conflits chez les Inuit, Etudes Inuit 3 (1979),p.96 -101.
13 - Cf. Verdier, Le système vindicatoire. Esquisse théorique, dans la vengeance dir. R. Verdier. I. Paris ,Cujas,1980,p.20-22.في مجتمعاتنا الحاليّة تعتبر الحرب الداخليّة غالبا أسوأ من الحرب ضد دولة أخرى أفلا يصدر هذا التصوّر بدوره عن الآليّة الذهنيّة ذاتها؟
14 ـCf. N. Rouland op,cit.,p.70-75.
* يانس أوJanus : أحد آلهة روما الأقدمين .هو حارس الأبواب يشرف على مداخلها و مخارجها .لذلك يتمثّل بوجهيْن .كان هيكله في روما مفتوحا زمن الحرب مغلقا دائما زمن السّلم.
** صيّادون ـ قطافون: ترجمة لمصطلح chasseurs- cueilleurs : اعتمدنا على معجم الاثنولوجيا و الانتروبولوجيا ترجمة مصباح الصمد .تحت إشراف :بيار بونت و ميشال إيزارPierre Bonte ,Michelle Izard. ص.609ـ 611.
*** الإنويت: les Inuit: يعني الكائنات البشرية حسب لغة شعوب الاسكيمو قديما.هم ساكنو المناطق الشماليّة:سيبيريا و آلاسكا ومناطق القطب الشمالي بكندا…(راجع معجم الاثنولوجيا و الانتروبولوجيا السابق الذكر :ص227 ـ 230).
نوبار رولان. الأنتروبولوجيا القانونيّة. ص 300 ـ 308.
Norbert Rouland : Anthropologie juridique : p: 300 – 308. PUF.1988.
ص :297 ـ300. بيف :1988. Norbert Rouland: anthropologie juridique : P 297-300. PUF:1988. système vindicatoire

 
Free Hit Counter Search Engine Submission - AddMe