الثلاثاء، 3 نوفمبر 2009

» أحــلام هنيئــة لدانيــال دينيــت


»أحــلام هنيئــة« لدانيــال دينيــت
الـــذات ليســـت ســـوى وهـــم آخـــر

رودولف ضاهر

إن وتيرة التطور العلمي العام تسارعت لدرجة مضاعفة كميّة المعلومات التي تمتلكها البشرية كل سبع سنوات، وبالرغم من ذلك لا يزال العلم عاجزاً عن الإجابة عن الأسئلة الجوهرية المطروحة عليه: لماذا هناك وجود بدلاً من العدم؟ متى وكيف نشأ الكون ووصل الى شكله الحالي؟ كيف تمّ الانتقال من الفيزياء الى البيولوجيا وبالتالي كيف ظهرت الحياة؟ من هو الإنسان، أو بالأحرى ممّ يتشكّل الوعي البشري، وهل هو فريد من نوعه نسبةً الى الوعي الحيواني من جهة، ونسبةً الى الذكاء الاصطناعي من جهة أخرى؟ قبل أن يكتسب العلم مشروعيته الخاصة مع انتهاء القرون الوسطى والدخول في عصر الحداثة، باتت الأجوبة عن تلك الأسئلة حكراً على السلطتين الدينية والفلسفية اللتين، كلٌّ على طريقتها، حوّلتا تلك الأسئلة الى عقَد لا تُحَلّ، لا بل تزداد تعقيداً عندما يحاول المرء مقاربتها.
منذ حوالى ثلاثة عقود، يحاول الباحث والأكاديمي الأميركي دانيال دينيت (Daniel C. Dennett) الإجابة عن السؤال الأخير المطروح أعلاه، أيّ، بشكلٍ أوّلي، إزالة »العقبات الفلسفية الموضوعة أمام علم للوعي«. هذا العنوان الثاني لكتابه الأخير، «أحلام هنيئة« (Sweet Dreams) المترجم مؤخراً إلى الفرنسية، يمثّل مجهود تمهيدي لمقاربة الإدراك البشري على أسس سليمة. منذ أن نشر دينيت كتابه الأبرز حتى هذه الساعة، «شرح الإدراك« (Consciousness Explained)، إنهالت عليه ردود الفعل والأجوبة التي تفتعلها عادةً نظرية ثورية تمثّل انشقاقاً راديكالياً عن التوجّه العام في مجال معيّن، فجمع المؤلف أجوبته في كتاب «أحلام هنيئة« بشكل يلخّص نظريته الأساسية، كما يلقي ضوءاً تطويرياً على بعض جوانبها.
الخيارات المنهجية
»بالنتيجة، يجب فهم الوعي البشري كإحدى نتائج التطوّر البيولوجي«. على الأرجح، هذا القول للفيلسوف كارل بوبر (Karl Popper) كان حاضراً في ذهن دانيال دينيت عندما كتب أن »الوعي هو فعلاً أمر عظيم، لكنه ليس عظيماً لدرجة انه يستحيل تفسيره من خلال استعمال مصطلحات مماثلة لتلك التي أدّت الى نتائج مثمرة في المجالات البيولوجية الأخرى«. ينطلق دينيت من أحد هواجس العلم الأساسية، وهو هاجس العملانية: إن التعريف العلمي لأيّ ظاهرة يقتصر على الحدّ الأدنى من الوظائف والخصوصيات التي تميّزها عن غيرها: نسبةً الى العلم، العين هي عضو النظر، أكانت سوداء أو زرقاء، وبالتالي لون العين لا يدخل في تعريفها العلمي. تركيبة الذهن البشري الفيزيولوجية والكيميائية ليست مهمّة بحدّ ذاتها، بل المهم هو »البرنامج« الذي يعطي الذهن مميزاته الحسابية. وبالتالي يمكن نظرياً استبدال الذهن بأيّ حاسوب إلكتروني شرط أن يتضمّن هذا الأخير الوظائف التحكّمية نفسها التي يتمتّع بها الأول. لكن العلوم العصبية أثبتت مؤخراّ أن الهرمونات والخلايا العصبية وهيكلية التوصيلات في ما بينها تلعب دوراً محوريّاً في توليد القدرات الذهنية، فلا يمكن تجاهلها عند محاولة إنشاء علم جدّي للوعي. إذاً يجب من جهة توسيع إطار العملانية لتشمل التركيبة »الصلبة« للذهن، ومن جهة أخرى إيجاد مقاربات أخرى لسرّ الوعي، قد لا تمرّ عبر المراقبة الكهربائية للنشاط الدماغي التي تمثل اليوم الوسيلة الرئيسية لدراسة الذهن البشري.
حبة رمل
عندما يدرس العلماء حبَّة رمل واحدة، مهما امتدّت دراستهم لها في الزمن، سيكتشفون دائماً أموراً جديدة فيها: هذا هو المبدأ العلمي للمعرفة اللامتناهية. لكن جهلهم لحبَّة الرمل هذه لن يكون بالغاً. فالمهمّ ليس المعرفة التامة للأشياء، التي هي تحديداً مستحيلة، بل هو خفض »رصيد الجهل« الذي يحيط بها إلى حدٍّ مقبول. يعتقد دينيت أن »مقاربات الغير« للوعي، أي اعتباره موضوعاً علمياً مشابهاً لأيّ حبَّة رمل، تفي بهذا الغرض. يسمّي دينيت إحدى هذه المقاربات »الفينومينولوجيا المغايرة« (heterophenomenology). تعتمد هذه الأخيرة على تدوين الأحاسيس والأفكار والصور والحوادث والأصوات والروائح التي يعتقد أيّ شخص انها موجودة ضمن تدفُّق وعيه. بمعنى آخر، من أجل فهم الوعي يجب تصوير كيف يبدو الوعي نسبةً لأيّ شخص، بالشكل الأكثر حياداً. كلّ إنسان يعتقد أن لديه آلاماً، صُوَراً أو تجارب إدراكية، لذا يجب على أيّ نظرية علمية للوعي أن تأخذ بعين الاعتبار هذه الظاهرات، بغضّ النظر عن اقترابها أو ابتعادها عن الواقع الموضوعي. المادية العلمية الحادّة التي ينتمي إليها دينيت استفزّت ليس فقط العديد من الفلاسفة، بل أيضاً العديد من الباحثين في الميدان نفسه. يواجه المؤلف هذا الرفض لنظريته التي تسلب في نظر معظم العلماء »سحر« الوعي عبر التذكير بقاعدة عامة للتطوّر العلمي: عادةً، حقيقة الأمور تكون على عكس ما تبدو عليه. بالرغم من الإثبات العلمي على عكس ذلك، لا تزال تبدو الشمس وكأنها هي التي تدور حول الأرض، بالتالي لا يمكن، على نحوٍ مشابه، حصر الوعي بما يبدو عليه. فهو ليس حقيقة لا يمكن فهمها إلاّ من الداخل، انطلاقاً من الذي يعي فقط. بل يمكن تحويل الوعي الى موضوع مماثل لآلاف المواضيع التي يتناولها العلم. بعبارة أخرى، من يرى أن الوعي يتمثّل بنوع من وسط مركزي ترتبط به الميزات الذهنية الأخرى، مستقل تماماً عن الأسباب والنتائج المحيطة به، هو غارقٌ في وهم مشابه لذلك الذي ساد في عالم البيولوجيا قبل اكتشاف تركيبة الحمض النووي عام ١٩٥٣: عند كلّ الكائنات البيولوجية محتوى خفيّ إضافي يفضي الحياة عليها. فالذات ليست إلاّ وهماً آخر أنتجه تيّار الحيوية، كونها أساساً وهماً ينتجه الذهن، تماماً كأيّ سحر يقوم به الساحر على المسرح.
التلفاز والشهرة
بعد الانتهاء من التحديد السلبي للوعي، أيّ تحديد ما ليس هو الوعي، ينتقل دينيت الى تحديد إيجابي له. وفقاً للتعريف التوافقي بحدِّه الأدنى بين كل تيارات العلوم العصبيّة والعلوم الإدراكيّة، يتّصف الوعي بالتالي: »في أيّ وقت معيّن، تنشط عدّة شبكات ذهنية بشكلٍ متوازٍ وتعالج المعلومات ـ الموجودة في الذهن ـ بشكلٍ لا واعٍ. تنتقل المعلومة الى الوعي إذا استُفِزَّت مجموعة الخلايا العصبية التي تحملها من قبل مضخّم للتركيز ذات النشاط المتوازن الذي تتّصل فيه عدة خلايا عصبية موزّعة في مجمل الذهن. عندما يكون هذا التواصل بين مسافات بعيدة فعّالاً لحدّ أدنى من الوقت، يجعل من المعلومة مادة لعدّة مقاربات تتضمّن التصنيف الإدراكي، الذاكرة الطويلة الأمد، التقييم والتصرّف الإيرادي. إن هذا الوجود العام للمعلومات في مركز العمل ـ أيّ الذهن ـ هو التجربة الذاتية التي نسمّيها حالة الوعي«. خلال شرحه للتعريف الذي سبق، يوضح دينيت أن الوعي هو أقرب من الشهرة مما هو من التلفاز: الوعي ليس وسيلة خاصة للتصوّر حيث يجب أن تمرّ المعلومات لكي تصبح واعية، بل إن المعلومات تتسابق داخل الرأس من أجل أن تصبح »مشهورة« في داخله. طبعاً هي لن تصبح مشهورة بالمعنى العام للكلمة، لكنها تتسابق من أجل أن تجذب حولها انتباه الذهن، أيّ من أجل وجودها في الواجهة. فكما كان يدرك ذلك هوسيرل (Husserl)، واضع علم الفينومينولوجيا، لا يمكن للذهن أن يدرك، في لحظة واحدة، إلاّ فكرة أو صورة واحدة. ومن يقُمْ ظاهرياً بأكثر من وظيفة في الوقت نفسه يقُمْ فعلياً بمناوبة سريعة بين وظيفتين أو أكثر. الوعي أقرب الى التأثير السياسي، حيث واقع معيّن يستأثر بالمسرح الداخلي الى حين استبداله بواقع آخر أكثر تأثيراً. يبقى أن الذهن ديموقراطي نوعاً ما، لا بل فوضوي، إذ ليس فيه أيّ معدل للملك أو لأي سلطة سياسية مركزية أخرى. اكتشاف الذات إذاً لن يتمّ بعد نزع القشور الإدراكية بين الذات والعالم. الذات ليست معزولة على العالم الخارجي بطبقات تُخرج أو تُدخل المعلومات من وإليها. الوعي ليس ميزة جوهرية، موجودة بحدّ ذاتها، بل هو ميزة تصرّفية، هو ظاهرة تتطلّب تفعيل لما هو موجود فقط بالقوّة. فالمعيار الأساسي لانتقال الوعي الى حيّز الوجود هو النتائج التي تلي بلوغ المعلومات في الذهن الى الشهرة.
الشهرة، كما نعرفها اليوم، هي الشهرة التي تولِّد ردّات الفعل، التي بدورها تولِّد ردّات فعل أخرى، مما يجعل الشهرة تتغذّى من نفسها، فالمشاهير يصبحون أكثر شهرة بمجرّد كونهم مشاهير. الإعلام المعاصر هو الذي يستطيع أن يلتقط أيّ واقع (أكان حقيقياً أو مختلقاً) ويحوّله عبر التضخيم الصدئي الى موضوع مؤثّر، سهل الإدراك وموجود في كلّ مكان، ليصبح ظاهرة اجتماعية جديدة. هذا تماماً ما يحصل بالمعلومات في الذهن، وهكذا يُنتج الوعي. من أجل توضيح هذه الإوالية، يتّخذ دينيت مثلاً على الألوان: إذا وضع شخص منذ الولادة في غرفة لم يرَ أيّ لون فيها، ولم يعرف العالم إلاّ من خلال شاشة تبثّ الصور بالأبيض والأسود فقط، إلاّ أنه مطّلع على كلّ المعلومات المتعلّقة بالألوان على اختلاف ميادينها، فلن يفاجأ أبداً عندما سيشاهد للمرّة الأولى زهرةً حمراء. من يعتقد عكس ذلك يؤيّد ضمناً نظرية الوعي الكلاسيكية التي تعتبر أن الإدراك الفعلي للأشياء يتضمّن حتماً شيئاً إضافياً لا يمكن تحديده علمياً بما أنه لا يمكن إدراكه من الخارج. من يعتمد النظرية الأخيرة لا يملك أيّ إثبات أن يعزّزها، بل يكتفي بالتأكيد عليها لأنها متوافقة مع ما يبدو الأمر نسبةً إليه. فهذه النظرية ليست علمية لأن ما هو علمي، وفقاً للمعيار الذي وضعه كارل بوبر، هو قابلية نظرية ما على سقوطها النهائي إذا أُثبت عكسها أو غيرها. النظرية العلمية هي التي تترك هامشاً لإمكانية نقضها. التحليل النفسي الذي وضعه فرويد (Freud) أو المادية التاريخية التي وضعها ماركس (Marx) هما، على غرار نظرية الوعي الكلاسيكية التي أوصــلها ديكارت (Descartes) وكانت (Kant) الى ذروتــها، غير علمــيتين، لأنهما غير قابلتين للسقوط، فهما تفسّران من تلقاء نفسيهما كلّ النتائج والوقائع التي تتناقض معها، كما أنهما لا تعترفان بأيّ نظرية أخرى أتت التجارب الفعلية مؤكّدةً لتوقّعاتها. فيما نظرية دينيت هي نظرية علمية بامتياز، كونها تقبل بسقوطها إذا تمّ التثبّت من بعض الأمور: يعترف دينيت بأنه يمكن، في نهاية المطاف، أن يكون الوعي بالمعنى الكلاسيكي موجوداً، لكنه يجب أن يتخطّى كلّ العوائق التي يحاول أن يضعها أمامه.
الذاتيات الموضوعية
يستفاد من التعريف الذي يعطيه دانيال دينيت للوعي أن هذا الأخير ليس ميزة نوعيّة يتمتّع بها الإنسان نسبةً الى باقي الحيوانات، بل هو فقط ميزة كميّة. الوعي، عند مختلف الكائنات التي تملك خلايا عصبية، يختلف درجةً، مهما بلغ هذا الفرق بين الوعي البشري وأشكاله الأخرى. عند الضفدعة أو الكلب أو الطير، يلعب الذهن دور جهاز تحكُّم يجب وضعه في إطاره الأساسي، أي غايته البيولوجية الأولى: المحافظة على الفصيلة وتكاثرها. فمثلما تتفاوت الحيوانات ذكاءً، أي قدرةً على ابتكار أساليب وحِيَل للاستمرار، فإن ظهور الخلايا العصبية يسمح حتماً بزيادة عالية لنسبة الذكاء، لأنه يسمح بالتقاط المعلومات ومعالجتها. الوعي البشري، كنتيجة للتطوّر البيولوجي، يخدم اولاً »الذاتية الموضوعية« للبيولوجيا، التي تتخطّى ذاتية الأفراد والمجتمعات والحضارات. لكنه أنتج أيضاً ذاتيات موضوعية أخرى، محصورة بفصيلة البشر، أوّلها الكلام. في موازاة دوره الأكثر وضوحاً كوسيلة اتصال وتواصل، يلعب الكلام دور إبعاد الذات عن نفسها مرحلياً: بمجرّد أن يقول الإنسان »أنا«، يجعل من نفسه موضوع إدراك مساوٍ لأيّ من الظاهرات والأحداث الخارجية التي يدركها. وبالتالي، من خلال الكلام كقدرة تصوير رمزية للأشياء وللذات، يكون الوعي البشري ذا وظائف فريدة للتعاطي مع المعلومات بأشكال مختلفة. القابلية على التفكير، الخيال، الذاكرة الطويلة المدى، الاستباق أو الإبداع هي بمثابة برامج إضافية يتمتّع بها الحاسوب البشري ويتلاعب من خلالها بالمعلومات التي بحوزته بهامش أكبر من ذلك الذي تتمتّع به الحيوانات الأخرى. هكذا يكون الوعي البشري كناية عن جهاز تحكّم ذي مفعول رجعي، حلقة تكرارية تضبط وتصحّح باستمرار حركتها، وبالتالي تزيد بشكل أُسّيّ ذكائها.
تخطّت عند البشر هذه القدرة الانعكاسية ذاتية البيولوجيا بمعناها الضيق، بدليل أنها أنتجت عند الإنسان وعند الإنسان وحده ذاتية موضوعية أخرى: الشرّ. قدرة الحيوان على القتل والتخريب لا تتخطّى قدرته الجسدية الصرفة، أو تلك التي تقدّمها بعض الأدوات البدائية التي قد يستعملها، كما أنها لا تتخطّى من جهة أخرى حاجاته البيولوجية الضرورية، أو التصدي لما قد يعتبره خطراً عليه. فيما الإنسان هو الحيوان الذي أتى بالشرّ الى العالم. الشرّ، كما فسّره جورج باتاي (Georges Bataille)، هو البذخ، هو الفائض، فهو ليس ما هو ما دون الوجود، أو ما ينقص الوجود من وجوده، كما لا يزال علم الأخلاق يفسّره، بل هو تحديداً ما هو موجود أكثر من الوجود. »الإنسان هو الطبيعة التي انقلبت على نفسها«. هذه جملة للكاتب موريس دانتك (Maurice G. Dantec) تُصوِّر المأساة التي وُلِدَت مع البشر، والتي من خلالها وُلِدَت المآسي الأخرى. البشرية هي فصيلة حيوانية تخطّت بُعدَها الحيواني، لكنها لم تزل تخضع لقوانينه، على رأسها القانون الفيزيائي لزوال كل شيء عاجلاً أم آجلاً، أي قانون الموت. الوعي هو اولاً وعي الموت، هو الوعي للنهاية الحتميّة لهذا الوعي بالذات. أمام هذا الواقع الذي يتحول مع الوعي إلى واقع غير مقبول، كانت الآلهة ككائنات تعويضيّة، كونها تخرج عن حكم قوانين الفيزياء والبيولوجيا، لكنها باتت، رغم تعميرها، ذاتيات ذاتية، بدليل انها ماتت بدورها، فيما تحويل الجنس الى إباحية، أي اكتشاف اللذّة داخل موجب الإنجاب الأول، هو من الذاتيات الموضوعية بامتياز، كونه »موتا صغيرا« يهيّئ للموت الكبير.
Daniel C. Dennett, Sweet Dreams Philosophical Obstacles to a Science of Consciousness.pdf

http://www.4shared.com/file/13322796...ciousness.html
 
Free Hit Counter Search Engine Submission - AddMe