الأحد، 15 نوفمبر 2009

البوشيدو.. روح اليابان

لا يزال كتاب اينازو نيتوبي (1862-1933) بعد قرن من تأليفه (1889) ملء البصر. صدر الكتاب عام 1900 في أميركا، وتحول إلى أكثر الكتب مبيعا على المستوى الدولي، فهو يجمع بين ثقافتين؛ اليابانية والإنكليزية، وكان الرئيس الأمريكي ثيودور روزفلت يهدي منه النسخة تلو الأخرى لأصدقائه، ومن الجدير بالذكر أن الترجمة العربية الأولى له ظهرت عام 1938 على يد مختار كنعان الذي كان يجهل الإنكليزية التي كتب بها الكتاب فالمؤلف ياباني اعتنق المسيحية وعاش سنوات في أميركا وأوروبا والصين. ترجمة الكتاب الجديدة تمنح مفاتيح جديدة للعرب لفهم الروح اليابانية. الكتاب من ترجمة كامل يوسف حسين وإصدار هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث.
بوشيدو تعني حرفيا " طرائق الفارس المحارب"، أنها وصايا النبل، أو المبادئ الأخلاقية التي كان الفرسان اليابانيون يلتزمون بها، وهو قانون شفاهي يتألف من شعارات ويحظى بكل التقدير، وربما كان يحتل المرتبة التي احتلها الدستور في التاريخ السياسي. النظام الإقطاعي الياباني، مثل البوشيدو، غامض ومتداخل المعالم. الساموراي، أو الحرس المرافقون، كانوا طبقة مميزة وخشنة لا تخلو من بدائية وطفولة، تنطبق عليها عبارة إمرسون: "عرق غليظ، كله رجولة، يحظى بقوة ووحشية".
أول مصادر البوشيدو هي البوذية الواثقة في القدر وحتميته، وتعاليم الزن التأملية، والشنتوية التي تحض على الولاء وإجلال الأسلاف، والخير الفطري المضاد للخطيئة الأصلية المسيحية، والوطنية، فالإمبراطور في الشنتوية أسمى من الحاكم الأعلى للدولة، إنه التجسيد العضوي للسماء على الأرض؟ كما يمكن ضم تعاليم الحكيمين الصينيين كونفوشيوس ومنشيوس الخصبة إلى مصادر البوشيدو التي تقرن المعرفة بالعمل.
أول مبادئ البوشيدو هي العدل والاستقامة، فلقب "جيشي"، الذي يعني المستقيم، من أسمى الألقاب اليابانية في العلم أو الفن.الاستقامة توأم البسالة، ويقترن "بالجيري" الذي يعني الواجب حيال الوالدين والمرؤوسين والرؤساء، ويعني أيضا التفكير السليم.
ثاني المبادئ هي الشجاعة والتحمل. الشجاعة حسب كونفوشيوس هي فعل ما هو صواب، الذي قد يكون طلبا للحياة أو الموت. والتحمل هو أساس طول العمر كما يقول اياسو العظيم. ولا يجري تمييز بين الشجاعة الأخلاقية أو البدنية كما في الغرب، فمن العار –مثلا- على الساموراي ذو المعدة الخاوية التعبير عن جوعه. الحرمان من الطعام اختبار جُعل للأطفال وقياس قدرتهم على الاحتمال، ومن التسلية دفع الأولاد لارتياد أماكن إعدام المجرمين لتعليمهم التحمل!
المبدأ الثالث هو الرحمة والعطف اللائقين بالأمراء. شكسبير يلح على هذه الخصلة كثيرا في مسرحياته. يشير الكاتب إلى أن رحمة الفرسان وقفت حائلا بين تحول النظام الإقطاعي الياباني إلى الاستبداد فالفارق بين الحكم الاستبدادي والأبوي يكمن في فضيلة العطف التي تجعل الشعب خاضعا ولكن بكبرياء. الحكيم ماساموني الياباني يحذر من تجاوز الحزم إلى التصلب والرحمة إلى الضعف، لذلك كان الساموراي يوافقون على تعاليم منشيوس القائلة إن "الرحمة تقهر كما يقهر الماء للنار" و"من العار على الصياد ذبح الطائر الملتجئ إليه". ومن الطريف أن تلقى حركة الصليب الأحمر ترحيبا من اليابانيين قبل معاهدة جنيف بعقود من الزمن. وكان إقليم ساتسوما معروفا بزرع الرقة في قلوب محاربيه قبل التدريب على السيف. من الواجب إبداء التسامح تجاه ثلاثة: النسيم الذي ينثر زهورك والسحب التي تحجب قمرك، والإنسان الذي يغضبك. الرقة يتم زرعها بتعلم الموسيقى وكتابة الشعر أو على الأقل بسماع تغريد الطيور.
اللطف والتهذيب من أبرز خصال الياباني، بشرط أن يكون مردهما التقدير وليس الخوف من الإساءة إلى الذوق الراقي. إنه يدنو من الحب ويبتعد عن الحسد والرياء. آداب شرب الشاي ترقى إلى أن تكون عبادة. يقرُّ الكاتب أن هناك مبالغة في بعض الطقوس، لكنها لا تصل إلى حماقة تعلق الغرب بالأزياء، فمدرسة اوجاساوارا السلوكية في صفوف الطبقة المحاربة تحوّل طقس شرب الشاي ( تشا-نو- يو) إلى فن يرتبط بالتأمل الباطني والثقافة الروحية التي تقترب من الشعر، وربما كان سبب هذا التقديس لشرب الشاي هو اكتشافه وتبنيه من قبل ناسك هندي في زمن الحروب. الغرب يصف كثيرا من عادات اليابان بالمضحكة مثل تقديم الهدية، فالياباني يقلل من شأن هديته ويستصغرها عندما يقدمها، على عكس الأميركي الذي يذكر سعرها "الغالي". والفكرة واحدة، فالأميركي يتحدث عن شخص عظيم يتم تقديم المادة إليه والياباني يتحدث عن شخص غال لا توجد مادة تليق بمكانته.
الصدق والإخلاص ضروريان، فاللياقة إذا تجاوزت الحد صارت كذبة. الإخلاص مؤلف من مفردتين: " كلمة" و" تام". الساموراي يربط من لسانه، على عكس غالبية المسيحيين – حسب ملاحظة الكاتب- الذين يخالفون الوصايا العشر. الياباني لا يميز بين الصدق والحقيقة مثل وردزوورث، وإبعاد الساموراي عن التجارة كان هدفه فصل السلطة عن الثروة، مثل نظرية مونتسيكو، والتجارة في اليابان لا تكترث بالسمعة الطيبة على عكس الحال في الزراعة، فساموراي واحد من بين كل مئة دخل التجارة ونجح! فالبوشيدو يرفض المكافآت التعويضية التي يقبلها التاجر، من جهة أخرى التاجر هو الذي أشاع فضيلة الأمانة، فالأمانة في اليابان هي ضمانة الربح.
يغذّى الياباني على مفهوم الشرف وهو جنين، النداء الأخير الذي يوجه إلى المراهق العاق هو "ألا تخجل"؟ انه يذكر بقول كارليل: الإحساس بالخجل هو التربة التي تنمو فيها كل فضيلة. من المعروف أنه باسم الشرف سفك الساموراي دماء كثيرة، فأن يشير رجل ما إلى برغوث على ثياب الساموراي يعني موته!
تشترك أخلاقيات الإقطاعية اليابانية في واجب الولاء الذي ليس فضيلة مقتصرة على الألمان، ويصل الولاء بالياباني أن يضحي بابنه في سبيل إنقاذ ابن سيده كما تروي إحدى الاليغورات! لكن من دون التضحية بالضمير.
تعليم البوشيدو يتألف أساسا من: المبارزة، والرماية، والجودو، وركوب الخيل، والمناورة، والأخلاق، والأدب والتاريخ. الفروسية مضادة للمال. الساموراي يشبه دون كيخوته برمحه الصدئ وحصانه الهزيل، المال ليس إلا "وسخ دنيا" كما في القول العربي الشائع، والترف أعظم تهديد للرجولة، قول كونفوشيوس شعار: التعليم بلا تفكير سدى، والتفكير من دون تعلم خطر.
ضبط النفس من أهم صفات الساموراي، وفضح المشاعر عار على الياباني، والأب الذي يعانق ابنه يدفع كرامته ثمنا لذلك "الأزواج في أمريكا يقبلون زوجاتهم في العلن ويضربوهن في السرِّ والياباني يضرب زوجته في العلن ويقبلها في السر". الياباني بطل في "فن حجب الأفكار" الياباني يلجأ للفكاهة عند المصائب، فالمرح يعيد التوازن للمزاج المختل.
الانتحار ( الهاراكيري، أو السيبوكو، أو الكابوكو) والذي يعني الانتحار ببقر البطن والثأر ( الكاتاكي- أوتشي) من صفات الساموراي المجروح. الياباني يعتقد أن الروح مقرُّها البطن، وهو ينتحر أحيانا لأسباب لا تتفق مع العقل أو لا تستحق الموت، ويحاول الكاتب تبرير الانتقام لكونه يرضي إحساس المرء بالعدالة الغائبة، وأن الهاراكيري المؤلم ، أو الانتحار الواعي، يشير إلى قدسية سيف الياباني، فالسيف روح الساموراي. فهو يأخذ أبرز مكان في قاعة الاستقبال، وقد يطلق الياباني عليه ألقابا تحببية، والويل لمن يطأ سيفا على الأرض!
المرأة اليابانية ليس لها مكان في البوشيدو، ويتم تعليمها الرقص ليس للإغراء وإنما لتكون رشيقة، أو لتطهير القلب. الساموراي يوالي سيده، والزوجة توالي زوجها، فوزنها بجوار المدفأة وليس في ميدان القتال. وارتباط الزوجين في البوشيدو يعني أنهما صار جسدا واحدا.
"الساموراي سيد الرجال كما زهرة الكرز سيدة الزهور" ومن الغريب أن زهرة الكرز، رمز اليابان، سريعة العطب فهل روح اليابان هشة كذلك؟ ينعي الكاتب تعاليم البوشيدو الزائلة ويقرّ بأن اليابان تدين بحداثتها للإنسانية كلها، وأنَّ الأوربيين لم يعلموا اليابان وإنما هي التي اختارت ما أرادت أن تتعلمه، وأنَ اليابان تفتقر إلى النبي والرسول والفيلسوف، ويعيب الكاتب على البوشيدو إحساسها المفرط بالشرف، والتباسها بالغرور. ويندب البوشيدو والفروسية التي تلفظ أنفاسها أمام هجوم الحداثة الغربية، لعدم وجود عقيدة ثابتة أو صيغة محددة في كتب أو أشعار أو وصايا.

الكتاب: البوشيدو.. روح اليابان
الكاتب:اينازو نيتوبي
المترجم: كامل يوسف حسين
الناشر: هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث.
 
Free Hit Counter Search Engine Submission - AddMe