الأحد، 15 نوفمبر 2009

تاريخ التوراة العبرانية (العهد القديم)

بقلم فراس السواح


التوراة العبرانية، هو الكتاب المقدس عند اليهود، ويشكل القسم الأول من الكتاب المقدس المسيحي تحت اسم "العهد القديم". ويؤمن كلا الطرفين بأن أسفار هذا الكتاب قد دونت بإلهام من روح الله، على الرغم من أن يد البشر هي التي خطّتها.
والتوراة أشبه بمكتبة منها بكتاب. فهي مجموعة من الكتب عكف على تدوينها محررون مختلفون وعلى فترات زمنية متباعدة، ولكن فكرة واحدة تنتظمها جميعاً، وهي علاقة الإله يهوه بشعب إسرائيل الذي اختاره شعباً خاصاً له، وسار إلى جانبه عبر جميع مراحل تاريخه. أما عن زمن تدوين هذه الكتب فأمر خلافي بين علماء التوراة، ولكن الرأي الأكثر قبولاً لدى معظمهم اليوم، هو أنها قد دونت بعد عودة سبي يهوذا من بابل، وعلى مدى قرنين أو ثلاثة قرون، وذلك من أواسط القرن الخامس قبل الميلاد إلى أواسط القرن الثاني قبل الميلاد. وبما أن التاريخ الذي تكتبه التوراة لشعب إسرائيل القديم ينتهي مع تدوين سفر نحميا، وأن آخر حدث في هذا السفر هو سفر نحميا إلى البلاط الفارسي عام 433 ق.م، فإن المحررين الذين عكفوا على رواية تاريخ بني إسرائيل، كانوا يقصّون عن أحداث معظمها مغرق في القدم وتفصلهم عنها قرون متطاولة. وهذا ما يلقي اليوم ظلالاً من الشك على مصداقية الرواية التوراتية، التي دُوّنت من وجهة نظر دينية، وعلى قيمتها التاريخية.
لقد وُلدت الوحدات الأساسية للرواية التوراتية كلّا على حدة، وتم إنتاجها من قِبل محررين مختلفين ومتباعدين زمنياً؛ ثم جاءت عملية التنسيق الأخيرة لتجمع بينها في رواية مطردة، و من خلال منظور إيديولوجي و كرونولوجي مفروض عليها من خارجها. وقد استخدم كل محرر، أو مجموعة محررين، مصادر وموروثات متباينة المنشأ، من قصص شعبي، و موروثات متداولة شفهياً، إضافة إلى مصادر مكتوبة أشاروا إليها في مواضع مختلفة من النص، لا نعرف منها سوى عناوينها، ولا نعرف شيئاً عن مصداقيتها التاريخية، ولا عن الطريقة التي استفادوا بها منها. وهذا ثِبتٌ بعناوينها و المواضع التي وردت فيها الإشارة إليها:
1- كتاب حروب الرب: (سفر العدد 14:21)
2- سفر ياشر: ( سفر يشوع 13:10 و صموئيل الثاني 18:1 )
3- سفر أمور سليمان: (سفر الملوك الأول 41:11 )
4- سفر أخبار الأيام لملوك يهوذا: (سفر الملوك الأول 19:14 و 7:15)
5- سفر أخبار الأيام لملوك إسرائيل: (سفر الملوك الثاني 18:1 و 28:14)
6- أخبار صموئيل الرائي: (سفر أخبار الأيام الأول 29:29 )
7- أخبار ناثان النبي: (سفر أخبار الأيام الثاني 29:9 )
8- أخبار شمعيا النبي وعِدّو الرائي: (سفر أخبار الأيام الثاني 15:12 )
9- أخبار ياهو بن حناني: (سفر أخبار الأيام الثاني 34:20 )
تدعى الكتب المؤلِّفة للتوراة بالأسفار، مفردها سِفْر ويعني في الأصل دَرْج أو لفافة الورق، لأن كل كتاب كان يدون على صحيفة طويلة من الورق ثم تُدرج وتحفظ إلى جانب الصحف المدروجة الأخرى. وتتوزع هذه الأسفار على أربع مجموعات رئيسية هي :
1- الأسفار الخمسة أو الـ "Pentateuch" كما تدعى باليونانية، وتدعى أيضاً بأسفار موسى الخمسة، لأن الأسطورة تعزو إلى موسى نفسه أصولها الأولى. وهي : التكوين، والخروج، واللاويين، والعدد، وتثنية الاشتراع. تنقسم موضوعات سفر التكوين إلى قسمين؛ في القسم الأول يقص المحرر عن خلق العالم وخلق نباتات الأرض وكائناتها الحية ثم خلق الإنسان، وعن الأجيال الأولى للبشرية وعن الطوفان الكبير الذي أفناها، ثم عن عروق البشر التي تسلسلت من أولاد نوح الثلاثة. وفي القسم الثاني يركز على سيرة أسرة واحدة فقط هي أسرة الأب الأول إبراهيم، وأولاده وأحفاده وصولاً إلى يوسف الذي رحل إلى مصر، واستقدم إليه أباه اسحق وإخوته الأحد عشر، حيث تكاثروا هناك ثم وقعوا تحت نير العبودية بعد وفاة يوسف.
في سفر الخروج، وسفر العدد، واللاويين، وتثنية الاشتراع، يقص المحرر عن خروج موسى ببني إسرائيل من مصر وإنقاذهم من العبودية، وإعطائهم الشريعة التي تلقاها من الرب، والسير بهم إلى الأرض التي وعد الرب إبراهيم أن يعطيها لنسله.
2- الأسفار التاريخية: وتحكي قصة بني إسرائيل منذ دخول أرض كنعان حتى العودة من السبي البابلي، و هي:
— سفر يشوع: ويحكي قصة الاقتحام العسكري لفلسطين، أو بلاد كنعان كما يدعوها النص التوراتي، وذلك بقيادة يشوع بن نون خليفة موسى، وكيف وزع يشوع الأراضي المكتسبة على القبائل الإسرائيلية الإثني عشر. ويُفترض أن أحداثه قد تمت في آخر القرن الثالث عشر قبل الميلاد.
— سفر القضاة: ويغطي أحداثاً جرت على مدى قرنين من الزمان فيما بين عام 1200 ق.م و 1030 ق.م. و قد عاش بنو إسرائيل خلال هذه الفترة دون سلطة مركزية تجمعهم، وكانوا موضع اضطهادٍ وتعدياتٍ من قبل ممالك الفلسطينيين المجاورة لهم، وممالك شرقي الأردن.
— سفر صموئيل الأول: ويحكي قصة صعود الملك شاؤل و تأسيسه لأول سلطة مركزية للقبائل الإسرائيلية، و حروبه مع أعداء بني إسرائيل حتى مقتله في آخر معركة له مع الفلسطينيين، ومن المفترض أن شاؤل قد حكم من عام 1030 ق.م إلى عام 1009 ق م.
— سفر صموئيل الثاني: ويقص عن عصر الملك داود الذي بدأ حياته العامة كحامل لسلاح الملك شاؤل، وكيف شق طريقه في الجيش والحياة العامة وصولاً إلى كرسي الملك، وكيف أسس بعد ذلك لمُلك مستقر، ووسع حدود ممتلكاته التي امتدت من حدود مصر إلى نهر الفرات. ومن المفترض أن داود قد حكم من 1009 ق م إلى 969 ق م .
— سفر الملوك الأول: ويقص عن العصر الذهبي للملكة الموحدة لكل إسرائيل، إبان فترة سليمان بن داود، وعن حكمته و ثرائه و أعماله و تسلطه على كل من حوله من الممالك، و بنائه لبيت الرب في العاصمة أورشليم، ومنجزاته العمرانية الأخرى، ثم وفاته وانقسام مملكته إلى مملكة شمالية تدعى إسرائيل (أو السامرة فيما بعد)، ومملكة جنوبية تدعى يهوذا عاصمتها أورشليم، ومن المفترض أن سليمان قد حكم من 969 ق م إلى عام 931 ق.م.
— سفر الملوك الثاني: ويتناول الأحداث التي جرت في المملكتين، ودورهما في الصراعات الإقليمية، وصولاً إلى نهاية مملكة إسرائيل و تدمير عاصمتها السامرة من قبل الآشوريين عام 721 ق.م، ثم نهاية مملكة يهوذا بعد ذلك بنحو قرن ونصف، وتدمير عاصمتها أورشليم على يد الكلدان البابليين عام 587 ق.م. وقد أعقب كلا التدميرين سبي واسع النطاق لسكان المملكتين باتجاه مناطق بلاد الرافدين.
— سفرا أخبار الأيام الأول والثاني: و يعيد هذان السفران اللذان كتبا في وقت متأخر، سرد الأحداث الواردة في أسفار صموئيل و الملوك من منظور سياسي و إيديولوجي مختلف.
— سفرا عزرا و نحميا: ويقصان عن عودة سبي يهوذا من بلاد بابل و إعادتهم لبناء مدينة أورشليم المهدمة و بناء هيكل سليمان القديم بشكل أكثر تواضعاً. وعلى هذا الشكل تنتهي الرواية التوراتية نحو أواسط القرن الخامس قبل الميلاد.
— سفر استير: و يحكي قصة فتاة يهودية تدعى بهذا الاسم، تزوجها الملك الفارسي، وقد أفادت من مكانتها لديه و حمت شعبها من الإبادة التي كان يخطط لها الوزير هامان.
3- أسفار الحكمة: مجموعة أسفار يغلب عليها التأمل الفلسفي، و هي: راعوث، و يونان، و أيوب، والأمثال، والمزامير، و نشيد الإنشاد.
4- أسفار الأنبياء: وتحكي عن حياة وتعاليم و نبوءات عدد من أنبياء بني إسرائيل، وهم: إشعيا، و إرميا، وحزقيال، ودانيال، وهوشع، ويوئيل، وعاموس، وعوبديا، ويونان، وميخا، وناحوم، وحبقوق، وصفنيا، وحجي، وزكريا، وملاخي.
و يبدو أن هذه الأسفار الـ 39 التي تؤلف اليوم التوراة العبرانية، قد اتخذت وضعاً شبه قانونيّ منذ القرن الثاني قبل الميلاد، لأن الترجمة اليونانية للتوراة التي قام بها يهود الإسكندرية، والتي اكتملت في أواسط القرن الثاني قبل الميلاد قد احتوت على هذه الأسفار الـ 39، إضافة إلى عدد قليل آخر من الأسفار دونت أصلاً باللغة اليونانية، و هي: يهوديت، و طوبيا، و الحكمة، و يشوع بن سيراخ، و باروخ، ورسالة إرميا. إلا أن الأصل العبري الذي قامت عليه هذه الترجمة المدعوة بالسبعينية(1)- Septuagent (و يرمز إليها بالأحرف LXX) مفقود. والترجمات التي بين أيدينا اليوم إلى اللغات الحية بما فيها العربية، تعتمد مخطوطات للتوراة يعود تاريخها إلى القرن التاسع أو العاشر الميلاديين. وهذا ما يقودنا إلى إلقاء نظرة عامة على تاريخ النص التوراتي، وترجماته القديمة المتنوعة التي أعقبت الترجمة السبعينية(2).
عندما اكتملت الترجمة السبعينية للتوراة في أواسط القرن الثاني قبل الميلاد، على يد عدد متنوع من المترجمين و خلال عقود طويلة متتالية، كانت هذه الفترة تشهد نشاطاً أدبياً يهودياً لا مثيل له في الفترات السابقة، الأمر الذي أدى إلى ظهور أسفار توراتية جديدة كتبها مؤلفون مجهولون ونسبوها إلى شخصيات توراتية بارزة، و عندما شاع تداول هذه الأسفار الجديدة بين اليهود (و بعد ذلك بين المسيحيين)، وذابت الفوارق بين ما هو قانوني وغير قانوني في الأدبيات التوراتية، خصوصاً بعد دمار أورشليم على يد الرومان عام 70 م، و فقدان السلطة الدينية المركزية، ارتأى عدد من الربانيين اليهود وضع حد لهذه الفوضى، فاجتمعوا في مدينة يمنيا (يبنة القديمة) قرب حيفا، من أجل إقرار قراءة موحدة للأسفار من بين قراءات متعددة، وأيضاً من أجل إقرار الأسفار التي اعتبروها ملهمة من الرب، والأسفار الأخرى الزائفة. وبذلك ظهر إلى الوجود النص الموحد للتوراة العبرانية الذي بين أيدينا اليوم وعدد أسفاره 39 سفراً، بعد أن استبعد مجمع يمنيا الأسفار الثمانية الزائدة في الترجمة السبعينية و التي كتبت أصلاً باليونانية، و غيرها من الأسفار العبرية التي اعتبرت زائفة. و لكن القول بأن نص مجمع يمنيا الموحد هو النص الذي بين أيدينا اليوم، ليس دقيقاً تماماً، وذلك لأننا لا نملك نسخة من ذلك النص من جهة، ومن جهة أخرى لأن النص القانوني الأول كان مكتوباً بالأحرف العبرية الساكنة، وكان تحريكه يعتمد على التقاليد الشفوية المتوارثة. أما النص الحقيقي الذي يشكل أساس الترجمات الحديثة فهو النص الماسوري المحرَّك الذي أنجزه العلماء الماسوريون خلال الفترة الانتقالية من القرن التاسع إلى القرن العاشر الميلادي، انطلاقاً من النص القانوني لمجمع يمنيا. وكلمة ماسوريين و ماسوري مشتقة من ماسوراه التي تعني التقليد أو الموروث، لأن علماء الكتاب في ذلك الوقت قرروا وضع الصيغة التقليدية النهائية لقراءة كتاب التوراة، خوفاً من الاختلاف في القراءات بعد أن صارت اللغة العبرية القديمة في عداد اللغات الميتة، وحلت محلها لهجات عبرية شعبية كان اليهود يستعملونها في حياتهم اليومية.
نعود الآن إلى موضوع ترجمة الكتاب إلى لغات العالم القديم، فقد كانت الترجمة السبعونية إلى اللغة اليونانية هي أول الترجمات، وقد اعتمدها في البداية يهود الإسكندرية الذين كانوا لا يقرأون العبرية، كما اعتمدها المسيحيون الأوائل ومؤلفو الأناجيل وبقية أسفار العهد الجديد. ومعظم المقتبسات التوراتية التي أوردها هؤلاء المؤلفون، مثل النبوءات بخصوص قدوم المسيح وغيرها، مأخوذة عن النص السبعيني. و بذلك فقد شاعت هذه الترجمة بين اليهود المتكلمين باليونانية في بلدان حوض المتوسط و بين المسيحيين، و ما لبثت الكنيسة الناشئة حتى اعتمدتها نصاً قانونياً للعهد القديم. و لكن عندما أخذ المسيحيون يحاجّون اليهود اعتماداً على النص السبعيني، فقدَ هذا النص جاذبيته عند اليهود، فعمدوا إلى إنجاز ترجمة يونانية بديلة، وهكذا ظهرت إلى الوجود ترجمة Aquila، وذلك نحو منتصف القرن الثاني الميلادي. ويبدو أن هذه الترجمة قد اعتمدت نصاً عبرياً أقرب إلى النص القانوني منه إلى أصل الترجمة السبعينية. و بذلك حل نص Aquila محل النص السبعيني لدى اليهود. و بعد ذلك بقليل ظهرت Symmachus التي تميزت بحرية أكثر في التعبير و بأسلوب يوناني أكثر جزالة. وبعدها ظهرت ترجمة Theodotion التي يبدو أن أصلها العبري كان أقرب إلى نص Aquila و النص القانوني منه إلى أصل السبعينية. و نحو منتصف القرن الثالث قام أوريجين الإسكندري بوضع نص مقارن قسمه إلى عدة أعمدة، حيث وضع في العمود الأول النص التقليدي القانوني، وفي العمود الثاني ترجمة Aquila، وفي الثالث ترجمة Symmachus، وفي الرابع ترجمة Theodotion، وفي الأخير النص السبعيني مراجعاً من قبله. وما لبثت هذه المراجعة التي قام بها للنص السبعيني حتى غدت بحد ذاتها ترجمة مستقلة، وتم تداولها على هذا الأساس. وفي هذه الأثناء أيضاً ظهرت أكثر من ترجمة آرامية كانت واحدتها تدعى ترجوم. و يتميز الترجوم بتداخل المتن مع الشروح والتعليقات، الأمر الذي يجعله أقرب إلى عامة اليهود المتكلمين بالآرامية، سواء في فلسطين أم في بقية أنحاء سوريا و بلاد الرافدين. كما ظهرت الترجمة اللاتينية في القرن الخامس الميلادي.
حتى أواسط القرن العشرين كان الاعتقاد سائداً لدى علماء التوراة، بأن النص الماسوري المنقط الذي يعود في أصوله إلى نص مجمع يمنْيا، هو أقدم نص مكتوب للتوراة، وأننا لن نعثر في المستقبل على ما هو أقدم منه. ولكن حدث في عام 1948 اكتشاف غير مجرى الدراسات التوراتية، حين بدأت الوثائق المعروفة بمخطوطات البحر الميت تظهر تباعاً من كهوف وادي قمران على السفوح الغربية للمرتفعات الفلسطينية المنحدرة نحو البحر الميت، وقد تبين أنها من نتاج فرقة يهودية غير أرثوذوكسية (ربما كانت الفرقة الأسينية) كانت تقيم في دير في هذه البوادي البعيدة عن المراكز الحضرية. و قد تم العثور بين هذه المخطوطات على نصوص كاملة لعدد لا بأس به من أسفار التوراة، إضافة إلى نصوص منقوصة أو شذرات نصوص من بقية الأسفار. وبما أن مخطوطات قمران تعود بتاريخها إلى القرن الأول قبل الميلاد والنصف الأول من القرن الأول الميلادي (تم تدمير دير قمران نحو عام 70 م من قبل الرومان)، فإن أقدم مخطوط لكتاب التوراة الآن هو مخطوط قمران الذي يفوق في القدم نص مجمع يمنيا بنحو قرنين من الزمان.
وقد ألقت هذه المخطوطات ضوءاً على أصول الترجمة السبعينية، التي كانت تبدو بين بقية الترجمات اليونانية تنتمي وحدها إلى تقليد مختلف وأصل مستقل. كانت لفافة سفر إشعيا أول ما تم ترميمه ودراسته. وقد تبين أنها تتبع بدقة النص الماسوري حتى في أصغر جزئيات التهجئة، الأمر الذي أكد على قدم أصل النص الماسوري. إلا أن العثور بعد ذلك على لفافة سفر صموئيل الأول، قد قدم للعلماء مفاجأة لأنه قدم لنا نصاً يتفق من الترجمة السبعينية كلمة فكلمة تقريباً. الأمر الذي دل على أن جماعة قمران كانت تحتفظ بلفائف تنتمي إلى أكثر من أصل وتقليد، وأن الترجمة السبعينية تمثل فعلاً تقليداً يختلف عن تقليد النص الماسوري. أما عن الأسفار الثمانية الزائدة في الترجمة السبعينية، فقد قيض لها الاستمرار في النص المقدس للعهد القديم، عندما تبنت الكنيسة الكاثوليكية النص الماسوري وأضافت إليه هذه الأسفار التي دونت أصلاً باللغة اليونانية، و اعتبرتها أسفاراً قانونية من الدرجة الثانية. و لكن حركة الإصلاح البروتستانتي التي انطلقت في القرن السادس عشر عادت إلى التقليد القديم و التزمت في عهدها القديم الأسفار العبرية فقط و البالغ عددها 39 سفراً.
خلال الفترة التي شهدت عملية تنميط وتوحيد التوراة العبرانية في نص قانوني معتمد، لم يكن النشاط الأدبي الديني قد خف، ولم تتوقف عملية إنتاج الأسفار غير القانونية، التي ندرجها اليوم تحت مصطلح أو عنوان Pseudepigrpha، أي الكتابات الزائفة، والتي نستطيع تمييزها عن بقية الأجناس الأدبية اليهودية بأنها تعالج موضوعات و أفكار شبيهة بموضوعات و أفكار الكتاب المقدس القانوني، وتدّعي مثلما تدعي الأسفار القانونية بأنها تحتوي على رسالة الرب وكلمته إلى الناس. ولكنها من ناحية أخرى تنفرد بالتركيز على أفكار و موضوعات لم تركز عليها الأسفار القانونية، وأهمها: معنى الخطيئة، وأصل الشر والشيطان، تنزيه الخالق، قدوم المسيح، بعث الأجساد في اليوم الأخير، الثواب والعقاب الآخرويين، والجنة والنار. وجميع هذه الأسفار غير القانونية دوّن خلال الفترة من 200 ق.م إلى 200 م، والوثائق التي تعود إلى ما بعد هذا التاريخ ترجع في أصولها إلى نسخ مفقودة من تلك الفترة. بعض هذه النصوص وصلنا عن طريق النُسّاخ، وبعضها فقد تماماً، وبعضها تم العثور عليه خلال القرنين الماضيين، وذلك بعون قوائم بها وضعها مؤلفون قدماء. وقد مارست هذه النصوص، على الرغم من بقائها على هامش النص الرسمي، تأثيراً كبيراً على الفكر الرباني التلمودي اللاحق، وساهمت في تكوين الديانة اليهودية التي نعرفها اليوم. ولكي أعطي فكرة عن حجم هذا الأدب غير القانوني، أشير على أنه قد بلغ في أحدث ترجمة انكليزية له(3) عدداً من الصفحات لا يقل عن عدد صفحات التوراة الرسمية.
الهوامش:
1- والاسم مأخوذ من الحكاية التي تقول بأن اثنين وسبعين يهودياً من علماء التوراة قد اجتمعوا لترجمة الكتاب إلى اليونانية، فقبعوا كل واحد في غرفة مغلقة مدة 72 يوماً أنهوا خلالها الترجمة. و عندما جرت مقارنة الاثنين والسبعين ترجمة على بعضها وُجدت متطابقة تماماً، الأمر الذي يدل على أن النص هو كلمة الله الموحاة.
2- هذه الإطلالة على تاريخ النص العبري للتوراة و ترجماته القديمة، تعتمد الفصل الرابع من كتاب: John Allegro، The Dead Sea Scrolls، Penguin Books، 1966. 3- J. H. Charlesworth، edt، The Old Testament Pseudepigrapha، Doubleday، New York، 1983


 
Free Hit Counter Search Engine Submission - AddMe