السبت، 7 نوفمبر 2009

بين هابرماس وكارل أتو آبل : إمكانية تبرير فلسفي لمبادئ ملزمة كونيا

لكي نشر العدل الكوني والحوار ما بين الثقافات، ثمة حاجة مساوية لعقلانية عابرة للقومية.
***
في سبيل مجتمع دولي متحضر، أولوية العدل وليس القوة. وهو ما يعني أن استخدام القوة ينبغي أن يشرع بالتوافق مع هذه المبادئ مطبقة بحذر في مواقف ملموسة.


المقدمة:

ما انفك البعض يزعم بأن الحرب على العراق، وما نجم عنها من احتلال جار، غير شرعية، في حين أن فريقا آخر يزعم بأن تلك الحرب وإن كانت جدالية بعض الشيء إلا أنها لا تخالف الشرعية الدولية. ويمضي فريق ثالث إلى القول بأنها غير شرعية فعلا غير أنه أخلاقية طالما أنه قد أطاحت بنظام صدام حسين ورفعت الظلم عن الشعب العراقي، وقد يجادل فريق رابع بأنها لهذا السبب، أي لأنها كانت بمثابة تدخل في شؤون دولة ذات سيادة، فإنها غير شرعية، وهذا، بدوره، ما قد يحدو بالبعض إلى إثارة السؤال حول ذلك التوتر الناجم عن حظر انتهاك سيادة الدولة والدعوة إلى حماية حقوق الإنسان، وفي كافة الأحوال يبقى السؤال: ما المقصود بالشرعية هنا؟ أو بالأحرى، من، أو ما، مصدر الشرعية المزعومة؟ ومن هو الساهر على حمايتها وإحقاقها؟ الأمم المتحدة؟ أم مجلس الأمن الدولي؟

إن مجرد ذكر اسم هاتين الهيئتين ليثير تساؤلات وشكوكا لا حصر لها، سواء في ما يتعلق بالظروف التاريخية لنشوئهما أم لمسيرتهما ناهيك عن التوتر الواضح ما بين بعض مواثيقهما وبنود مواثيقهما نفسها، هذا بالإضافة إلى التفاوت، متعدد الدوافع والأسباب، وأبرزها تغليب المصلحة الذاتية لكل عضو من أعضائها، أو لما كان قد أثار مسألة شرعية، أو بالأحرى انعدام شرعية الحرب على العراق احتلاله، أي إشكالية النظام غير الديمقراطي لمجلس الأمن. فتمتع خمس دول، دون غيرها، بالعضوية الدائمة لمجلس الأمن وحق النقض (الفيتو) لهو الذي حال دون انعقاد مجلس الأمن ثانية بغية الحصول على قرار يجيز شن الحرب. فبعدما هددت فرنسا بأنها ستستخدم حق النقض ضد أي قرار للحرب تدعو إليه الولايات المتحدة وبريطانيا عمدت هاتان الأخيرتان إلى تجنب الدعوة إلى جلسة جديدة بما يجيز لها المضي في ما عزمت على القيام به من دون أن تبدو مخالفة لمجلس الأمن على وجه سافر.

على أن ما جرى قبيل الحرب لم يكن بعيدا عن المتوقع أو المألوف وإن لم يحدث على صورة مواجهة بين أعضاء حلف واحد، وحتما ليس في مجلس الأمن نفسه. الأهم من ذلك إن الزعم بأن أحد دواعي الحرب هو استبدال نظام صدام حسين بنظام ديمقراطي، أي الحرب في سبيل الديمقراطية، إنما جعل اختلال التوازن الديمقراطي في بنى مؤسسات الأمم المتحدة أسطع بمقدار مضاعف. وحتى لو أن مجلس الأمن خول الولايات المتحدة صلاحية شن الحرب المتوخاة، فإن شرعية هذه الحرب ما كانت لتنجو من التساؤل والشك طالما أن المؤسسة التي خولت مثل هذا الفعل غير ديمقراطية أصلا، سواء من حيث تحكم الدول الثابتة العضوية بقراراته، على ما سبق الإشارة، أو من حيث أن بعض الأعضاء مؤقتي العضوية، شأن الباكستان وبعض الدول العربية وتشيلي، ليست، على ما نعرف جيدا، جنان الديمقراطية بل من العسير التمييز الواضح ما بينها وبين نظام صدام حسين الآفل.

ولئن برهن هذا الفصل من التباس الشرعية على أمر فلقد برهن على أن شرعية دولية لا وجود لها بالمعنى الوضعي أو الميتافيزيقي لمصطلح الشرعية، أي سواء على صورة ما هو معهود في مؤسسات دولة الأمة، أم بالمعنى الأخلاقي أو الديني. وهذا ما يثير التساؤل حول إمكانية إرساء أسس فعلية لشرعية دولية، هل يمكن القيام بأمر كهذا؟ وكيف؟

إن هذا ما يحاول الفيلسوف النرويجي غونار شيربك القيام به. فمحاضرة شيربك وإن كانت فلسفية المنطلق والوجهة فإنها تأتي على خلفية حوادث السياسة الدولية منذ نهاية الحرب الباردة وإلى ما بعد اعتداء 11/9، بل وينطلق من بعض أبرز معطياتها، شأن استفراد الولايات المتحدة (وناتو) بكونها القوة العظمى الوحيدة في العالم، أو حقيقة فكرة حق الدفاع الذاتي الموس ع بما يبرر سياسة الضربة الاستباقية أو تجاوز سيادة الدولة القومية في سبيل حماية حقوق الإنسان. إنه لفي ظل خلفية كهذه، وفي ضوء معطياتها، يجادل الفيلسوف النرويجي هنا في سبيل تبرير فلسفي لمبادئ ملزمة كونيا للقانون الدولي ولأداء الدولة القومية فضلا عن الأداء ما بين مختلف الدول والثقافات. طبعا هذه ليست أول محاولة من نوعها في التاريخ الحديث، وليس يزعم المؤلف بأنها كذلك. فمنذ محاولة كانط، وبفضل تأثيره الواسع والعميق، لم تكف المحاولات الفلسفية في سبيل إيجاد أسس كونية لأخلاق وسياسة وقانون تغني البشر عن اللجوء إلى العنف أو على الأقل تقلل مخاطر حصول أمر كهذا. على أن محاولة شيربك، وخلافا لكانط وأتباعه، ليس الاكتفاء بأسس مبادئ كونية وإنما بمشروع عملي قابل للنقاش والتطبيق من قبل المعنيين بشؤون العالم، سياسة وبيئة، من بني البشر أو سائر الكائنات من ذوات الحس، من أجيال اليوم أو ممن قد ينوب عنها الأجيال القادمة. على أن شيربك لا يستغني عن الفرضيات الكانطية الأساسية، وعصر الأنوار عموما، وإنما يحاول مزاوجتها بفلسفة عملية، وهو لهذا السبب فهو يستند إلى ما ي عرف بـ"أخلاق المخاطبة" مما قال بها كل من الفيلسوفين الألمانيين كارل-أتو آبل ويورغن هابرماس. وهذه فلسفة عملية تسمى "براجماتية ترسندالية" أو "براجماتية كونية" تنطلق من الأطروحة التنويرية النموذجية بأن العقل لهو القاسم المشترك ما بين بني البشر على اختلاف أديانهم وأوطانهم وثقافاتهم القومية والمحلية، وإن حقيقة هذا العقل تتيح لهم من الحرية أو الاستقلال لكي يكتشفوا أو يبتكروا القوانين والنواميس الكونية بما يتوافق مع هذه الحرية أو الاستقلالية.

فحقيقة أن الذات العاقلة هي العنصر المشترك ما بين بني البشر تسلم مسبقا أن ثمة ذوات عاقلة أخرى وبما يحول دون نهاية للذات، على الأقل في هذه الأطروحة، إلى ما انتهت إليه من انقطاع وعزلة في فلسفة ديكارت. من هنا سعى الفيلسوفان المذكوران إلى ضرب من المخاطبة يتجاوز الوصايا أو التعاليم التي تخاطب الذات فقط على ما هي الوصايا الأخلاقية عند كانط. وهذا ما يجعل الفلسفة بمثابة تحد عملي يواجه من خلال الفعل الاتصالي وبواسطة ما يعرف بـ"الفعل الكلامي"، أي الكلام الذي لا يخبر أو يفيد بقدر ما يسأل ويطلب ويعد، أي ينطوي على فعل ملازم. وإن "المنعطف البراجماتي" من حيث أنه مفهوم للحقيقة يشمل اتفاقا عاما ي صار إلى بلوغه من خلال الفعل الاتصالي، أو في المجتمع الاتصال، لهو الاستجابة العملية لفلسفة كونية شأن "أخلاق المخاطبة". وإن"أخلاق المخاطبة" من حيث أنها كونية الطموح تصر على أن المعيار صالح إذا ما اكتسب الموافقة الحرة لكافة الأطراف المعنية. الموافقة هنا تعني الصدوع بأمر "قوة الحجة الأفضل" وهي قوة "غير قسرية" على ما يؤكد هابرماس بما يعني أن الحرية مضمونة للمشاركين. بيد أن الحجة الأقوى أو حتى فعل المخاطبة والاتصال لا يستقيم من دون شروط مسبقة يتوجب على المخاط ب التقيد بها. وهذه تتألف من المعني (أي قابلية المخاطب على الفهم) الحقيقة والصدق والصواب الأخلاقي. وعلى رغم أن نظرية "أخلاق المخاطبة" تعزى إلى هابرماس وآبل معا إلا أن ثمة فوارق حاسمة ما بين مقتربي الفيلسوفين إلى حد أن أحدهما يزعم بأن الآخر قد استغنى عن هذه النظرية تماما. وعلى ما يذهب آبل في مقالة غرضها تقويم موقع هابرماس من البراجماتية، فإنه يزعم بأن نظيره لم يستغن، في ما يتصل بالمعرفة والأخلاق، عن الميتافيزيقيا الكانطية فقط وإنما أيضا كل ما يمت لما هو ترسندالي وكوني بصلة. فمن جهة المعرفة، يرى هابرماس، على الأقل في حدود ما يزعمه آبل، عرضية وليست مفارقة أو يقينية، وهذا ما يجعل الطموح باتجاه الكونية مشكوكا فيه. إلى ذلك فإنه من وجهة الأخلاق، فلقد جعل هابرماس يغلب مبدأ القانون، خاصة على صورة الدولة الدستورية، على مبدأ الأخلاق وهو ما يجعل الفعل أو الموقف الاتصالي أقل صلة بـ"أخلاق المخاطبة" التي من المفترض أن تستوي بموجبه.

هابرماس، من جهته، يرى بأن من الطيش تجاهل حقيقة قابلية الخطأ، وأن ليس من معايير وفرضيات مفارقة لسياقها التاريخي، المجتمعي والثقافي، بحيث تنسب إلى مدار الميتافيزيقيا. مع ذلك فإنه ينكر أن يفضي مثل هذا الزعم إلى القول بأولوية السياق المجتمعي والثقافي، على الأقل ما يبرر النسبية، فهو لا ينفك يصر على النازع الترسندالي، أو على الأقل الكوني، سواء في ما يتعلق بالمعرفة أم الأخلاق ولكن من خلال الجمع ما بين الفلسفة غير الميتافيزيقية والعلوم الإنسانية.

من الطبيعي والحالة هذه أن تكون الخطوة الأولى لمؤلف المحاضرة تقديم تقويم لمقتربي الفيلسوفين المذكورين بما يخدم غرضه في الخلوص إلى إمكانية تبرير فلسفي لمبادئ كونية ملزمة. على أنه تقويم نقدي وليس توفيقيا، ويرمي في النهاية إلى تعديل ما يقول به الفيلسوفان المتنازعان بما يمهد السبيل لمقترب متعدد ومحس ن. وعوضا عن التسليم بأن معرفة العرضي قابلة للخطأ، ومن ثم فإنها لا يمكن أن تكون كونية، وهو ما يزعمه آبل في نقده لهابرماس، يرى شيربك بأن ليست كل معرفة لليومي والعرضي معرضة لخطأ مرتقب، مثلا المعرفة المرتبطة بالعديد من الأنشطة المعتادة مما نقوم بها كل يوم، أو ما يسميه بالفكر الملازم للفعل. وهذا ما يحدو به إلى ضرورة الأخذ بكل حالة على حدة، أو ما يسميه بالمقترب ؛العيني الوجهة« وبما يتيح المجال لتبرير كوني وإن تعددي الطابع.

ولئن كان هدف المؤلف دفع مقترب آبل نحو التعددية، فإنه يجادل بأن تحسينا لمقترب هابرماس لا مناص منه أيضا. فهابرماس نفسه لا يتجه وجهة العينة وإنما يؤثر الاستناد إلى نظريات علم الاجتماع والقانون، فضلا على ثنائيات مثل ثنائية الصلاحية والصدق أو المعيار والقيمة أو التبرير والتطبيق، وذلك ظنا منه أنه يحول دون الانزلاق نحو النسبية. بيد أن المؤلف يرى بأن التعددية لهي الوسيلة لحماية الطابع الكوني للمعايير المنشودة. إلى ذلك فإن مثل هذه النزعة التعددية والتحسينية، لا تزعم التطلع إلى بلوغ المثال والأسمى وإنما هدفها تجنب وهذا ما يجعلها أقرب استجابة للتحدي العملي.

وإن اتباع المقترب العيني الوجهة ليتطلب اشتغالا في الفلسفة تحليليا، أي ليس فقط تاريخيا ونقديا على مختلف وجوهه مما هو سائد في ألمانيا وفرنسا، وإن من خلال التشديد على أهمية المقترب التحليلي يسعى شيربك إلى ضم الفلسفة النقدية التاريخية إلى الفلسفة التحليلية الأنغلوفونية. على أن الدلالة البالغة لنزعة التعددية والتحسينية التي يقول بها المؤلف لتتجلى في اتساع مجال "الأطراف المعنية" التي تمليها أخلاق المخاطبة. وعلى ما يجادل المؤلف فإن المشاركة الحرة لكافة الأطراف المعنية، تبعا للمبدأ الرئيسي لأخلاق المخاطبة، قد لا تكون قيض التناول نظرا إلى أن هناك العديد من الجماعات والأفراد من "الأطراف المعنية" ليس بمقدورها المشاركة إما لاستحالة منطقية، شأن مشاركة الأجيال القادمة، أو لعوائق صحية أو عقلية، شأن المرضى جسمانيا أو عقليا، أو طبيعية، شأن الكائنات من ذوات الحس (أي الحيوانات) أو لأسباب طارئة كالتي تحول دون مشاركة من في وسعه المشاركة في الظروف العادية. لذا يقترح الكاتب تصنيف الأطراف المعنية إلى "رعايا أخلاقيين" و"مناقشين أخلاقيين"، الفريق الأول يضم كافة المعنيين أما الفريق الثاني فيضم القادرين على المشاركة في النقاش سواء كانوا من الأطراف المعنية أم من ينوب عنها، أي ممثلين لمصالح الجماعات غير القادرة على المشاركة.

وإن هذه النقطة الأخيرة لتدل على أن الفكرة المطروحة من خلال هذه المحاضرة ليست توفيقية الغرض حتى وإن نادت إلى الحوار والنقاش بين مختلف الأطراف. فإذ يصر المؤلف على حق مشاركة من لا يستطيعون المشاركة أو تمثيل أنفسهم أصلا فهو لا يحض على سلوك خيري وإنما يسلم بأن الحق ليس حكرا على من يتمتعون بقوة المناداة به أو تحقيقه، وبما يوجب دفع حدود المساواة إلى حدها الأبعد. وإن هذا لأبلغ مظاهر الفكر النقدي الرامي إلى زعزعة المراكز المعهودة ليس فقط لأصحاب المركزية الأوروبية والأثنية عموما وإنما لأصحاب المركزية الإنسانية من المنافحين عن حقوق الإنسان والداعين إلى التحرر. إن هذه المحاضرة في الحقيقة لهي بطريقتها الخاصة، وحتما بلغتها غير اليسيرة على القراءة، المباشرة والأولى، أشبه بمعادل فلسفي لبعض الأنشطة المضادة للعولمة مما جعل العالم يشهدها في الأعوام الأخيرة. وإذا ما كان هدف الأنشطة المناوئة للعولمة الاقتصادية الدعوة إلى تقديم العدل على الربح فإن ما يدعو له غونار شيربك هو تقديم العدل على القوة.


العدل الكوني والحوار ما بين الحضارات


المحاضرة:

لا يقتصر الموضوع العام لـ"العدل الكوني والحوار ما بين الحضارات" فقط على مسائل توزيع الثروة والاعتراف وإنما يضم السلام والقدرة على البقاء. في هذه المحاضرة، وانطلاقا من التركيز على المسائل الأخيرة، سأناقش مسألة إمكانية تبرير فلسفي لمبادئ ملزمة كونيا للقانون الدولي، ومن ثم، للسلوك وسط الدولة الواحدة وما بين الثقافات المختلفة.

عقب اتفاقية "ويستفيليا"، كان هناك تشديد على مسألة سيادة الدولة، يوصي بسياسة عدم التدخل ضمانة للسلام. لكن اليوم، ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية، خاصة في ضوء "محاكمات نورمبرغ" و"الإعلان العالمي لحقوق الإنسان"، وحديثا "محكمة الجنايات الدولية"، هناك تركيز على محاكمات دولية قصاصا لجرائم ضد الإنسانية ما قد تقترف في داخل أية دولة أو أي نظام شرعي. وإبان الحرب في صربيا، وهي كانت شنت من دون تشريع مجلس الأمن الدولي، سيقت حجج من أجل تبرير معياري، احتسابي الطبيعة، على اعتبار أن مثل هذا التدخل هو بمثابة خطوة مبكرة نحو ظهور نظام تشريع دولي.

إن القانون الوضعي، الراسخ في مؤسسات ذات إقرارات شرعية، ليتمتع بحكم ذاته بقوة معيارية، ولكن في أوقات الشدة وإعادة التنظيم، ثمة حاجة إلى تبرير معياري للمبادئ الشرعية القائمة. مع ذلك فإن من البديهي في المجتمعات الحديثة ألا تكفي الحجج العلمية الصرف لوحدها حينما يتصل الأمر بتبرير معياري أساسي، وكذلك الأمر بالنسبة للحجج الميتافيزيقية أو الفقهية، أو تلك المحكومة بسياقها (الثقافي) والمستندة إلى خلفيات طارئة أو تقليدية. وحيث أن الأمر كذلك فإن ثمة من يطلب الإجابة من خلال التوجه إلى العقلانية ما بعد الشكوكية لـ"علم أخلاق المخاطبة"، أو أخلاق المخاطبة، كما هو عند هابرماس وكارل أتو آبل. في هذه المحاضرة سأجادل في سبيل مقترب "نظرية المخاطبة" هذه، على أنني سأشدد، في الوقت نفسه، على الحاجة إلى تحسينات له كما يرد عند آبل وهابرماس. مختصر القول، سأشتغل على توكيد أوثق على مقترب "التعددية" و"التحسينية" وتوكيد أخف على فكرتيهما حول الأمثلة (أي صوغ الأمر على صيغة مثال) وذلك من خلال العمل على نحو تحليلي أوسع. مثلا، تحليل ح ذ ر لجملة من الاختبارات العقلية المموضعة، ومن المفضل في سياق الحجج الممتنعة بالمعنى البراجماتي للكلمة. إن مثل هذا الضرب من "أخلاق المخاطبة" ليدل على مزيج من المناهج الأوروبية (أي تلك الشائعة في ألمانيا وفرنسا وعموم القارة الأوروبية) والتحليلية (أي تلك الشائعة، تقليدا، في بريطانيا والولايات المتحدة وجل الدول الأنغلوفونية).

وعلى هذا المنوال سأنوه بالحاجة إلى "الحكم ذي العقلانية المتبادلة" في تقويم المطلوب من النظم العلمية والأكاديمية المختلفة في سبيل تحليل الوضع الفعلي تحليلا سليما. وهذه إنما حاجة معرفة (إبستيمية) معقدة ما انفكت تتعاظم بعيد توجه الولايات المتحدة/ناتو وجهة استراتيجية عسكرية تستند إلى سياسة التدخل الفعال والضربة الوقائية. وعلى المنوال نفسه أيضا سأشير إلى الحاجة الفلسفية للعمل من خلال فكرة متدرجة لـ"الشخص" تمتد من الأشخاص الحاضرين إلى الأجيال القادمة، وأيضا إلى الكائنات الأخرى من ذوات الحس- وعليه دفع حدود مدار التوزيع العادل عبر الأجيال، والفصائل الحية، تدريجيا وبما يمليه هذا الطموح الأخير من اعتبارات بيئية ذات صلة تتجاوز الحجج الراهنة ذات النزعة الإنسانية المركزية.

سأدافع أساسا عن أطروحة وضعية في ما يتعلق بإمكانية تبرير كوني لمبادئ معيارية، وفي الوقت نفسه التشديد على الحاجة إلى عمليات تعليمية، "عابرة للقومية" و"عابرة للعقلانية"، بين العلماء والأكاديميين من جهة، وبين مختلف المعنيين على مدى الحضارات والأجيال. على أن من المتوجب علينا حينما نؤدي دورا في مثل هذه العمليات أن نكون متنبهين إلى حقيقة رسوخنا، جماعة كنا أم أفرادا، رسوخا ثقافيا وتاريخيا. ذلك أن الثقافة والتاريخ من الأمور التي تعني حتى المثقفين الذين يتلفظون بعبارات كونية.


شروط خلفية في سبيل تبرير كوني للقانون الدولي:

هناك مسألة أساسية في القانون الدولي تعود إلى تبرير لاستخدام القوة العسكرية، عبر الحدود الشرعية والقومية، التبرير النمطي الدفاع عن النفس أو دعم الأمم المتحدة أو كلاهما معا. وحيال تطور التقنية العسكرية الحديثة، من جهة، والتهديد الجديد للإرهاب والاضطراب الدولي، من جهة أخرى، فلقد ظهرت مسألة تصور موسع للدفاع الذاتي، وفي بعض الأنحاء أيضا فكرة نظام دولي جديد أساسه القوة. ولقد تعاظمت هاتان الفكرتان بفعل الهجوم الإرهابي على مركز التجارة العالمي في نيويورك، وهي الحادثة التي دعمت أطروحة الولايات المتحدة حول سياسة "الضربة الوقائية" في سبيل الأمن القومي والاستقرار الكوني. في الوقت نفسه ثمة قلق متعاظم إزاء الجرائم التي تقترفها النظم الطاغية ضد شعوبها، وبما أدى إلى إعادة النظر في المبدأ التقليدي لسياسة عدم التدخل مهدت إمكانية تدخل عسكري في سبيل حقوق الإنسان خاصة حين ي صار إلى دعمها من قبل المجتمع الدولي وعبر مجلس الأمن الدولي.

إن ما يسمى بـ"مشروع الحداثة" كان قد تشكل مبدئيا بصيغة تفاؤلية باعتباره عملية تهدف على وجه ثابت إلى تعزيز السيطرة على الأسباب الطبيعية والاجتماعية المهددة للحياة، ومن ثم إلى تعاظم الأمن والوفرة الإنسانيين. ولكن في عصرنا هذا، وفي مواجهة شتى المخاطر والشكوك الملازمة للمشروع المذكور ثمة دواع عديدة لمواقف أقل احتفالية حيال المحن الحديثة، وعلى رغم أن أشكالا من المخاطر والشكوك عديدة يمكن بطرق مختلفة التأثير عليها والحد منها، فإن أشكالا أخرى لا بد وأن تسود. أولا، هناك الأشكال المرتبطة على وجه ملازم بقابلية المعرفة الإنسانية للخطأ، وهي من الشكوك المتعذر التغلب عليها. ثانيا إن الطبيعة المنظورية الوجهة الملازمة لمختلف النظم العلمية والأكاديمية تفاقم هذا الشك المعرفي الأساسي. ثالثا، أنه حينما تدرج ضروب المعرفة هذه، وهي أصلا منظورية وقابلة للخطأ، في سياق الاستخدام بواسطة شتى مؤسسات المجتمعات الحديثة فإن من الوارد ظهور عواقب غير مقصودة أو متوقعة مردها إلى الأداء الوظيفي المقيد لهذه المؤسسات وتشظيها. رابعا، يجب أن نضيف إلى العوامل المذكورة ما يذكرنا بدور "العامل الإنساني" بما أنه يتجاوز أصلا حدود أي تكهن شامل أو تحكم.

لهذا السبب فإن تحكما شاملا، ومن ثم أمنا، ليسا في المتناول. فدائما سيكون هناك ضعف وخوف من أذى مقصود أو غير مقصود من المتعذر التقليل من شأنه. مختصر العبارة، وأشدها حصرا، فإن أية محاولة للتحكم الشامل في ما يعني العقلانية الاستراتيجية والأداتية سوف تستنفد حدها عاجلا أم آجلا: ثمة في المجتمعات الإنسانية حاجة دائمة إلى الفعل الاتصالي والتفاهم يرجع أصلا إلى ضرورة التطبع المجتمعي في الطفولة وإلى التفاهم بين مجموعة النظراء التي ينتمي الفرد إليها. علاوة على ذلك فإن النقاش المفتوح والمستنير بين مواطنين أحرار ومتساوين ليمثل ضربا من ضروب الاتصال التي تتجاوز العقلانية الأداتية والاستراتيجية.

إن هذه الملاحظات لهي بمثابة تذكير بوجود حدود ملازمة لفكرة التحكم التام في سياق البراجماتية والاستراتيجية القائمة على أساس العلم والتقنية الحديثين. ولسوف ي فرض على الأنشطة العسكرية، في زماننا هذا، أن تجري في إطار عمل لا مناص فيه من المخاطرة وانعدام اليقين، كما أن الحاجة إلى عقلانية اتصالية تامة ليست مما يمكن التقليل من شأنها. ومثل هذه القيود الإدراكية والمؤسسية لتسود في المجتمعات الحديثة لا محالة. إزاء كل هذا، وبالتزاوج مع المشكلات المذكورة، نواجه مع قضية التبرير الكوني لمبادئ معيارية أساسية مسألة لا يمكن أن تحل وظائفيا واستراتيجيا أي ليس بأي من العلم أو التقنية وحدها، ولا يمكن حلها من خلال أي دين أو فقه خاص طالما أن هناك أطروحات فقهية ودينية مختلفة، وأن كل أطروحة من هذا القبيل لهي في المجتمع الحديث عرضة للمساءلة النقدية. إن شعارا شأن "الله أكبر" أو "ليبارك الرب أميركا"، ليس بحجة مقنعة بالنسبة لأولئك الذين يؤمنون بإله غير الذي يدعو إليه هذا الشعار أو ذاك، أو يؤمنون بالإله نفسه ولكنهم يتبعون مذهبا مختلفا عن رافعي الشعار المزعوم، هذا ناهيك عن الذين لا يجدون فكرة الإله مقنعة أصلا أو ذات معنى. وليس الحجج مركزية النزعة الأثنية أو محددة السياق معقولة طالما أن الأولى ليست مقنعة بالنسبة لأصحاب النزعة الأثنية المختلفة، والثانية لا نصيب لها من الفلاح في سياق ثقافي مختلف. ومن هنا فإن "الوطنية" حتى وإن تغنت بها قوة عظمى (شأن الولايات المتحدة) ليست بحجة وافية لتبرير ملزم كونيا لمبادئ أساسية للقانون الدولي أو للأصولية الدينية.


رد حديث ما بعد ميتافيزيقي:

إن نظاما شرعيا مؤسسا ومحصنا بقوة لا بد وأن يتمتع، بما هو عليه، بشرعية ملازمة. ولكن في أوقات الشدة والاضطرابات السياسية والشرعية يمكن الجدال بأن من المطلوب تبريرا مفارقا للسياق المحدود، وصالحا صلاحا كونيا. ومن ثم فإن ثمة حاجة إلى تبرير يكون فلسفي الطبيعة، وإن ليس ميتافيزيقيا بالمعنى التقليدي بما يتعذر الدفاع عنه في المجتمع الحديث. لهذا السبب سوف نتجه الآن وجهة ؛أخلاق المخاطبة« كما نجدها في البراجماتية الكونية عند كل من كارل أوتو-آبل ويرغن هابرماس.

ولن يتفق كل الفلاسفة، أو المثقفين، على الرأي بأن تبريرا فلسفيا لمبادئ شرعية أساسية مطلوبا وممكن التحقق. ولا شك بأن فيلسوفا شأن الأميركي ريتشارد رورتي سيكون أحد ا
 
Free Hit Counter Search Engine Submission - AddMe