السبت، 7 نوفمبر 2009

العلمانية كجهادية دنيوية

بقلم جورج طرابيشي

عندما يدور الكلام عن العلمانية فغالباً ما يتم تناولها بوصفها آلية -من طبيعة قانونية في المقام الأول- للفصل بين الدين والدولة، وبالتالي لتسوية العلاقات بين الأديان المختلفة، كما بين الطوائف المختلفة داخل الدين الواحد. ولكن وجهاً آخر للعلمانية يمكن أن يكون مهماً كل الأهمية للعالم العربي-الإسلامي، وذلك من حيث أنها عنصر فاعل أساسي في جدلية التقدم والتخلف. فمن منظور هذه الجدلية حصراً، وبالعودة إلى الأصل الغربي للعلمانية كما للديمقراطية والليبرالية وحقوق الإنسان وسائر مذاهب الحداثة، نستطيع أن نطرح السؤال التالي: لئن تكن أوروبا الغربية هي التي سبقت إلى اجتراح مأثرة الحداثة، فهل مرد تقدمها هذا إلى أنها كانت مسيحية، كما يرى ذلك بعض فلاسفة الحضارة ومن طاب لبعض المستشرقين أن يصطاد أطروحتهم هذه في المياه العكرة لما سيسميه صمويل هنتنغتون بـ"صدام الحضارات"؟ أم أن مرد تقدمها ذاك هو إلى أنها كانت هي السباقة أيضاً إلى التعلمن كما نرى نحن؟
وبالفعل، وفيما يخص الإطار الجيو-ثقافي، العربي-الإسلامي، فإن لهذا السؤال أهمية قصوى: فلئن تكن أوروبا الغربية قد تقدمت لأنها كانت مسيحية تحت مظلة كاثوليكية-بروتستانتية مزدوجة أو متناحرة [1]، فهذا معناه أن فرص القارة الجيو-ثقافية الإسلامية، العربية وغير العربية على حد سواء، في التقدم ستظل معدومة إن لم يكن إلى الأبد، فلأجل غير مسمى من الزمن. بل أكثر من ذلك بعد: فبما أن الإسلام يرتبط ارتباطاً تأسيسياً باللغة العربية، فإن العالم الإسلامي العربي سيبقى مستبعداً من حلبة السباق الحضاري أكثر حتى من العالم الإسلامي غير العربي، باعتبار صميمية علاقته اللغوية بالإسلام، على عكس حال باقي القارة الإسلامية التي قد تستطيع أن تنجز "فطامها" بسهولة أكبر، كما يشهد على ذلك المثال التركي بالأمس والمثال الماليزي اليوم.
أما إذا كانت أوروبا تدين بتقدمها لعلمنتها، لا لمسيحيتها، فهذا معناه أن فرص القارة الجيو-ثقافية الإسلامية، العربية وغير العربية على حد سواء، في التقدم ستكون موفورة بتمامها إذا أنجزت هذه القارة نفس سيرورة العلمنة التي أنجزتها القارة الجيو-ثقافية الأوروبية الغربية، وربما في مسافة زمنية أكثر قابلية للانضغاط بحكم المفعول التسريعي لقانون التطور المتفاوت والمركب [2].
إذن ما الآليات التي تحكمت بمولد الحداثة الأوروبية؟ بل ما تعريف هذه الحداثة أصلاً؟
بين عشرات التعاريف التي يمكن أن تعطى للحداثة يستوقفنا من وجهة النظر التي تعنينا هنا التعريف الذي اقترحه مرسيل غوشيه عندما أقام بين التحديث والعلمنة علاقة ترادف: الخروج من الدين [3]. ذلك أن القارة الجيو-ثقافية الأوروبية الغربية كانت مسكونة سطحاً وعمقاً بالدين، وما كان لها أن تشق طريقها إلى التحديث إلا بالقطيعة مع النظام المعرفي الديني للقرون الوسطى.
وهذه القطيعة هي ما يمكن أن نطلق عليه اسم العلمنة sécularisation التي يمكن لنا أن نعرِّفها بدورنا، بالتضامن مع تعريف مرسيل غوشيه ولكن بالرجوع هذه المرة إلى مفردات المعجم العربي الإسلامي، على أنها جهاد في سبيل الدنيا كخيار بديل عن الجهاد في سبيل الآخرة [4] .
هذه الجهادية الدنيوية، التي لا نتردد في أن نقول بأنها أحدثت في مسار البشرية انعطافاً بمائة وثمانين درجة، تلبست شكل علمنة على مستويات عدة:
أولها –ومهما بدا ما في ذلك من مفارقة- هي العلمنة الدينية. فلوثر، بكسره احتكار الكنيسة الكاثوليكية للإيمان الديني، ردّ هذا الإيمان إلى الشخص البشري، وأوكل إلى عقله المتمتع بالسؤدد الذاتي مهمة تأويل النصوص المقدسة. وقد ترتبت على ذلك نتيجة خطيرة من منظور الحداثة: فالأب الذي صار هو المسؤول –لا الكاهن- عن التعليم الديني لأولاده، صار ملزماً بأن يتعلم قراءة النصوص المقدسة بنفسه وبأن يعلِّم هذه القراءة لأولاده بدورهم. وهكذا اقترن الإصلاح البروتستانتي بثورة حقيقية على صعيد محو الأمية وتحطيم احتكار رجال الدين لعملية القراءة والكتابة [5].
وثانيها العلمنة الثقافية.فمنذ بوكاشيو (مؤلف الديكاميرون) في القرن الرابع عشر إلى رابليه (مؤلف غرغنتوا) في القرن السادس عشر تطورت حساسية جديدة، ذات منزع دنيوي ومنعتقة من ربقة التصور الديني للعالم. وهذه الحساسية الأدبية الجديدة هي التي تمخضت، مع سرفانتس ودونكيشوته في القرن السادس عشر، ودانييل دوفو وروبنسونه في القرن السابع عشر، عن ظهور نوع أدبي جديد هو الرواية التي هي بالتعريف فن متمحور حول الإنسان في مصائره الدنيوية.
وثالثها العلمنة اللغوية. فتلك الحساسية الأدبية الجديدة ترجمت أيضاً عن نفسها بالتمرد على لغة المقدس التي كانتها اللغة اللاتينية، وبتكريس اللغات العامية الدنيوية ورفعها إلى مستوى لغات قومية تكرس بدورها القطيعة، على مستوى الشعوب والدول، مع وحدة الكنيسة المسكونية وإمبراطوريتها المقدسة.
ورابعها العلمنة "الإنسانية". ونحن نضع هذا النعت بين مزدوجين للإشارة إلى أنه، وإن يكن مضافاً من حيث الاشتقاق إلى الإنسان، فهو مضاف في الدلالة إلى "الإنسانيات" Humanités؛ وهو الاسم الذي أُطلق، في سياق العلمنة الثقافية واللغوية، على دراسة الآداب اليونانية والرومانية القديمة. والواقع أن الإنسانيات بهذا المعنى تعادل عملية إحياء حقيقية للثقافة الوثنية للعصور القديمة، وردّ اعتبارها كاملاً إليها بعد أن كانت تمثل بالنسبة إلى الثقافة الدينية المسيحية للقرون الوسطى ما تمثله "الجاهلية" بالنسبة إلى الإسلام.
وخامسها العلمنة العقلية. في سياق هذه العودة إلى الجاهلية الوثنية أعيد اكتشاف الفلسفة اليونانية. والحال أن الفلسفة هي بالتعريف "التفكير بالعقل في العقل" من حيث أن العقل معطى أول ومطلق. ومع هذا الإعلان للسؤدد الذاتي للعقل كفت الفلسفة عن أن تكون خادمة اللاهوت لتعمل في إمرة العقل وحده وتحت سيادته. وقد لا نغالي إذا قلنا إنه منذ تلك اللحظة التي باتت فيها سلطة العقل لا تعلو عليها سلطة أخرى، بدأ تاريخ جديد للإنسان من حيث أنه، بين سائر الكائنات الحية، هو الكائن الوحيد الذي يصنع نفسه بنفسه ويعيد خلق نفسه بنفسه بقوة عقله.
وسادسها العلمنة العلمية. ففي الوقت الذي تغيرت فيه صورة العالم القديم مع اكتشاف كريستوف كولومب للقارة الأميركية في نهاية القرن الخامس عشر، جاءت الثورة الكوبرنيكية لتسدد طعنة صماء إلى الصورة التوراتية للكون ولتحدث انقلاباً في المركزية بحيث فقدت الأرض حظوتها التي حبتها بها نظرية الخلق التوراتية / الإنجيلية / القرآنية وغدت مجرد كوكب يدور بصَغار وجبرية حول مركزه الشمسي، بدلاً من أن تكون مركزاً تدور حوله وتتعبد له سائر أفلاك الكون. وهذه الثورة الكوبرنيكية، التي عززتها "الهرطقات" الكوسمولوجية لغاليليو الذي اضطر إلى جحد اكتشافاته العلمية تحت ضغط محاكم التفتيش، وجدت تتويجها في الانقلاب الذي لا يقلّ ثورية الذي أنجزه داروين في القرن التاسع عشر، والذي أجهز بصورة نهائية على قصة الخلق التوراتية عندما ردّ –وقد استغنى عن أسطورة آدم كأب للبشر- أصل الإنسان إلى الحيوان. ورغم كل إدانات الكنيسة وسائر الأجهزة الدينية في العالم، فإن الثورة الكوبرنيكية / الغاليلية / الداروينية استطاعت أن تكتسح جميع المقاومات وأن تكرس حق العلم، وبالتالي العقل البشري، بالتحرر من الأساطير الغيبية وفي التثوير الدائم واللامتناهي للمعرفة الدنيوية.
وسابعها العلمنة القانونية. ففي نهاية القرن الثامن عشر جاء إعلان حقوق الإنسان والمواطن الصادر عن الجمعية التأسيسية للثورة الفرنسية ليحوّل المركزية من الله إلى الإنسان، ولينقل مبدأ السيادة وحق التشريع من الله وخلفائه على الأرض إلى الأمة وممثليها في المجلس النيابي. وقد نصّ البند الثالث من إعلان حقوق الإنسان والمواطن أن: "مبدأ كل سيادة يكمن أساساً في الأمة، ولا يحق لأي هيئة ولأي فرد (ولو كان الملك) [6] أن يمارس السلطة ما لم تكن منبثقة صراحة عنها". ومنذئذ بات التشريع وما يستتبعه من سنّ للقوانين موضع تطوير وعقلنة دائمين بالاستناد إلى مرجعية بشرية خالصة، وطبقاً لحاجات الزمان والمكان، ومن منطلق القيم التي يحددها البشر لأنفسهم بأنفسهم دونما تقيد بوثنية أي نص أول [7].وثامنها وآخرها العلمنة الجنسية. وربما تكون الكشوف التحليلية النفسية لسيغموند فرويد وحفرياته في قارة اللاشعور في مطلع القرن العشرين هي التي قدمت لهذه العلمنة ركيزة سيكولوجية مماثلة لتلك التي قدمتها للعلمنة العلمية الثورة الكوسمولوجية الكوبرنيكية والثورة البيولوجية الداروينية [8]. وقد تفتقت هذه العلمنة عن تحرير مزدوج للحياة الجنسية البشرية من ربقة الجريمة وربقة الخطيئة معاً. فباستثناء ممارسة الجنس مع القصَّر أو بالاغتصاب، لم يعد أي شكل من أشكال هذه الممارسة يعتبر جريمة يعاقب عليها القانون. يصدق ذلك سواء أعلى العلاقات الجنسية خارج مؤسسة الزواج أم على الممارسات الجنسية المثلية أم تلك الموصوفة بـ"الشاذة". وبالإضافة إلى رفع يد الكنيسة عن الحياة الجنسية للإنسان وإقرار مؤسسة الزواج المدني، فقد جرى قانونياً استبعاد مفهوم الخطيئة عن شتى أشكال العلاقات الجنسية، وتم إقرار الحرية التامة في هذا المجال، بما في ذلك حرية الاعتقاد بالخطيئة لدى المؤمنين، شريطة ألا يحدّ هذا الاعتقاد من حرية الآخرين في الممارسة الجنسية. وبمعنى من المعاني يمكن القول إن العلمنة الجنسية جعلت من الإنسان سيد جسده، مثلما جعلت منه العلمنة العلمية والفلسفية سيد عقله، بدون أية مرجعية مفارقة أو متعالية إلا لمن يريد أن يقيد ممارسته الجنسية عن طوع إرادة واختيار بمثل تلك المرجعية. وانما ههنا، أي في مجال الممارسة الجنسية، يمكن أن نتحدث ليس فقط عن "خروج من الدين" بل كذلك حتى عن "خروج على الدين". فالأصل في الجنس المعلمَن هو الإباحة، والاباحة تلغي الخطيئة ومفهومها. وغني عن البيان أن هذه العلمنة الجنسية هي التي اصطدت ولا تزال تصطدم بأعتى مقاومة من الكنيسة ومن سائر الأجهزة الدينية الأخرى، وبشكل خاص في البلدان ذات الموروث الطُّهراني، لأنه بدون مفهوم الخطيئة أو الحرام يفقد الدين –ومعه كل سلطة دينية- ركيزة حيوية من ركائزه.
إن هذه السلسلة المتتامة من أشكال العلمنة -مقترنة بالثورة الصناعية- [9]هي التي آلت بأوروبا الغربية إلى اجتراح مأثرة الحداثة، وهذا قبل أن تجد سيرورة العلمنة هذه تتويجها القانوني ابتداء من مطلع القرن العشرين في الإشهارات الرسمية لمبدأ فصل الدولة عن الكنيسة كما حدث في فرنسا عام 1905 [10].
هذا التمييز بين العلمنة كسيرورة تاريخية وحضارية وبين العلمانية كآلية قانونية ضروري لا لتفهم واقعة الحداثة الأوروبية وحدها، بل كذلك لتفهم واقعة تعلمن المجتمع بالتوازي والتواقت مع تعلمن الدولة في البلدان الأوروبية على خلاف ما حدث في روسيا البلشفية أو تركيا الكمالية حيث أجبرت الدولة المجتمع على اعتناق العلمانية وفرضتها عليه فرضاً كإيديولوجيا أو حتى كدين بديل.
وبالإحالة إلى العالم العربي-الإسلامي لنا أن نلاحظ أن جميع بلدانه قد عرفت أشكالاً متفاوتة من العلمنة، وإن لم يكن أي منها قد انتهى إلى إشهار علمانيته بصورة جذرية ونهائية [11]. ولئن تكن هذه البلدان متفاوتة تفاوتاً ملحوظاً في حظها من التقدم والتخلف، فلا شك أن أحد المعايير التي يمكن اعتمادها في قياس هذا التفاوت هي درجة التعلمن. فالبلدان الأقل تخلفاً هي بصفة عامة الأكثر تعلمناً، والبلدان الأكثر تخلفاً هي بصفة عامة أيضاً الأقل تعلمناً. ولكن خلافاً للدعوى التي يروج لها اليوم الأصوليون وبعض المفكرين الشعبويين الذين يسعون إلى استرضاء جمهور الأصوليين، فإنه لا وجود لأية دولة عربية علمانية، بما في ذلك بطبيعة الحال الدول ذات الأنظمة الدكتاتورية المشتطّة التي بات يطيب للأصوليين وللشعبويين على حد سواء نعتها بأنها علمانية، وهذا حتى يعللوا دكتاتوريتها الواقعية بعلمانيتها المزعومة [12] .
وأما أنه لا وجود لأية دولة عربية علمانية بالمعنى الناجز للكلمة فالدلائل والقرائن عليه أكثر من أن تُحصى.
فليس هناك دولة عربية واحدة (باستثناء لبنان الذي يمثل حالة معكوسة)، بما في ذلك الدول المتعددة دينياً، لا تشترط أن يكون دين رئيسها الإسلام (علماً بأن دولة متعددة دينياً وطائفياً ولكن علمانية مثل الهند لا تمنع دستورياً ولا واقعياً أن يكون رئيسها من الأقلية المسلمة، لا من الأكثرية الهندوسية، كما هو واقع الحال اليوم مع رئيسها عبد القلم).
بل إن كبرى الدول العربية وأكثرها جمعاً، منذ الانقلاب الناصري عام 1952، بين باطن من الدكتاتورية وظاهر من العلمانية لا تشترط الإسلام في دين رئيسها فحسب، بل أيضاً في كوادر الجيش العليا التي يحظّر على "المواطن" المصري القبطي الارتقاء إليها. بل أكثر من ذلك: فهذا المواطن نفسه –رغم أن مواطنته هذه تفترضه مساوياً كأسنان المشط لكل مواطن آخر في الحقوق– لا يحق له أن يشغل وظيفة متواضعة مثل تدريس اللغة العربية بحجة أن هذه اللغة هي لغة القرآن.
وليس هناك من دولة عربية واحدة موصوفة بأنها "تقدمية" لا تجعل من الشرع الإسلامي مصدراً رئيسياً من مصادر التشريع، بله مصدراً أحادياً إلزامياً في مجال الأحوال الشخصية.
وليس هناك دولة عربية واحدة مهما تكن موصوفة بأنها "متعلمنة"، مثل تونس البورقيبية، لا تميز تمييزاً حاداً بين الرجل والمرأة في الإرث، فتعطي الذكر ضعف حظ الأنثى [13].
وباستثناء تونس هذه المرة، ليس هناك دولة عربية واحدة، مهما تكن درجتها من التعلمن، لا تجعل شهادة المرأة بقدر نصف شهادة الرجل.
وليس هناك دولة عربية واحدة تبيح زواج المسلمة من غير المسلم. وإذا كانت تبيح زواج المسلم من غير المسلمة فإنها تشترط في أولادها منه التنشئة على دين زوجها. وهي على كل حال لا تبيح أن تدفن الزوجة غير المسلمة إلى جانب قبر زوجها المسلم، لأن جميع المقابر في العالم العربي الإسلامي تخضع لتفرقة من طبيعة أبارثيدية حقيقية تبعاً للاختلاف في الدين، بل حتى تبعاً للاختلاف بين الطوائف في الدين الواحد. ففي سوريا ولبنان مثلاً هناك مقابر للمسلمين وللمسيحيين وللدروز (كما لليهود قبل

حواشي

[1] لنا أن نلاحظ أن هذه الدعوى الفلسفية والاستشراقية معاً تستبعد من حلبة السباق الحضاري أوروبا الشرقية التي كانت متقاسمَة في حينه بين روسيا الأرثوذكسية والإمبراطورية العثمانية الإسلامية السنية.
[2] كان تروتسكي هو من صاغ قانون التطور المتفاوت والمركب هذا عندما لاحظ في كتابه عن تاريخ الثورة الروسية أن الأمم التي قد تدخل متأخرة إلى حلبة السباق الحضاري تستطيع أن تستدرك فواتها التاريخي وتحقق تطوراً مركباً لا بسيطاً وفق مبدأ التوالي الهندسي لا العددي، فتنجز في عشرات من السنين ما انجزته الأمم التي سبقتها إلى التقدم في مئات من السنين.
[3] حذار من تفسير "الخروج من الدين" على أنه "خروج على الدين". فقولة مرسيل غوشيه التي ارتقت إلى نصاب المقولة الإبستمولوجية التأسيسية في السجالات حول الحداثة، لا تعدل إعلاناً على الطريقة النيتشوية بموت الدين، بل تلحظ فقط، من خلال استقراء واقع المجتمعات الغربية الحديثة أن المجال العام في هذه المجتمعات لم يعد يتَبَنْيَن بالدين، وأن هذا الأخير قد باتت فاعليته محصورة بالمجال الشخصي. ومن هذا المنظور تحديداً فإن "الخروج من الدين" قد يكون ضرورياً حتى لعدم "الخروج على الدين"، لأنه السبيل الوحيد لعدم إقامة علاقة تعارض وتناف بين الإيمان الديني والحداثة، وذلك بقدر ما أن فصل الروحي عن الزمني، وبالتالي حصر الدين بالمجال الشخصي، يعتقان هذا الأخير من قيود التصورات الإيديولوجية المتقادمة بالضرورة مع تطور التاريخ والتثوير الدائم للعلم.
[4] نؤثر هنا تعبير sécularisation المشترك بين اللغتين الإنجليزية والفرنسية على تعبير laïcisation الذي تنفرد به اللغة الفرنسية، لأنه أوضح دلالة منه على هذه النزعة الدنيوية.
[5] بخصوص دور الإصلاح البروتستانتي هذا في الثورة التعليمية التي كان لها باع طويل في صنع الحداثة، راجع دراستنا عن كتاب عمانويل تود: اختراع أوروبا، في كتابنا هرطقات، منشورات رابطة العقلانيين العرب، دار الساقي، بيروت 2007، ص 187-203.
[6] لا ننسَ أن الملك، قبل الثورة الفرنسية، ما كان يحكم باسم الأمة أو باسم الشعب، بل باسم الله نفسه. وهذه الحاكمية الإلهية كانت تتمثل في ألقاب الملوك. فعن ملك فرنسا كان يقال، رسمياً، إنه الملك المسيحي جدا، وعن ملك إسبانيا إنه الملك الكاثوليكي، وعن ملك إنجلترا إنه حامي الإيمان. وعلى جبهة الإسلام كان الخلفاء العباسيون، ابتداء من الانقلاب المتوكلي، لا يلقبون أنفسهم إلا بالإحالة إلى الله: المنتصر بالله، المستعين بالله، المعتمد على الله، المكتفي بالله، المستعصم بالله…
[7] كنموذج على سعة نطاق العلمنة التي نجمت عن الثورة الفرنسية وشملت بلدان أوروبا الغربية نذكر جملة التدابير والقوانين التي صدرت عن جمهورية الألب الغربية التي جسدت نسخة مصغرة من الثورة الفرنسية. فهذه الجمهورية الصغيرة، التي قامت سنة 1797 والتي ستصبح هي المملكة الإيطالية لاحقة، تجرأت على أن تقف موقفاً حازماً من الكنيسة في بلد يكاد يتطابق في الهوية مع المذهب الكاثوليكي، فرفعت أيدي الأساقفة عن التعليم ومالت إلى أن تجعل منه عاماً وإلزامياً تتولى الدولة الإنفاق عليه. وفضلاً عن أنها "ألغت امتيازات النبلاء، ومنعت التعذيب، وضمنت المساواة لليهود" فقد "جاهرت بطابعها الدنيوي، ففصلت فصلاً تاماً الدين عن الحقوق السياسية والمدنية، وصادرت وباعت أملاك الكنيسة، وسمحت بالزواج المدني، وأخضعت المواكب الدينية لرقابة مشددة، ومنعت قرع أجراس الكنائس ليلاً، ونزعت صور القديسين التي كانت تزين الشوارع، وأطلقت على الشوارع التي كانت تحمل أسماء القديسين أسماء علمانية جديدة" (نقلاً عن روبيرت بالمر: 1798 : الثورة الفرنسية وامتداداتها، ترجمة هنرييت عبودي، دار الطليعة، بيروت 1982، ص 237).
[8] عن العلاقة العضوية بين هذه الثورات الثلاث أنظر القصة الرمزية الرائعة: حكاية بلا بداية ولا نهاية لنجيب محفوظ كما حللناها في كتابنا: الله في رحلة نجيب محفوظ الرمزية، دار الطليعة، ط. 4، بيروت 1988.
[9] هل يمكن أصلاً فصل الثورة الصناعية، التي انفردت أيضاً أوروبا الغربية وحدها بالسبق إلى إنجازها، عن سيرورة العلمنة الشاملة؟ فككل ثورة فإن الثورة الصناعية تمثل نوعاً من قطيعة، وكما في كل قطيعة فإن الدور الأول يعود إلى العقل البشري. ووحده العقل الذي حررته العلمنة من قيد السلفيات والغيبيات يمكن أن يثور ويثوِّر معه التقنية ووسائل الإنتاج.
[10] أما أن العلمانية هي نفسها سيرورة تاريخية فإن فرنسا –وهي البلد الأكثر جذرية والأسبق إلى التعلمن في العالم- تقدم مثالاً على أنه ليس هناك صيغة واحدة وناجزة ونهائية للعلمنة. فعبثاً حاولت الدولة العلمانية الفرنسية أن تعيد تعميد مدنها وشوارع مدنها بأسماء دنيوية، ولكن الموروث الديني الضارب في القدامة كان ينبعث من رماده ويعيد فرض نفسه بقدر أو بآخر من النجاح. والشاهد على ذلك يقدمه مثلث الحي اللاتيني في باريس الذي لا تزال شوارعه تحمل أسماء قديسين: سان جرمان، وسان ميشيل، وسان جاك. كذلك لم تستطع الدولة المعلمنة الفرنسية أن تستبدل جميع الأعياد الدينية بأعياد مدنية. فإلى اليوم لا تزال فرنسا تعطل رسمياً إلى جانب عيد الثورة وعيد النصر وعيد العمل، بأعياد ذات طابع ديني صرف مثل عيد الميلاد والفصح وعيد صعود المسيح والعذراء وعيد العنصرة وعيد جميع القديسين. والعجيب أنه عندما أرادت الدولة أن تلغي عطلة عيد صعود العذراء (وهو عيد استحدثته الكنيسة الكاثوليكية عام 1950) اصطدمت بمعارضة الاتحاد العمالي والحزب الشيوعي اللذين دافعا عن مبدأ العطلة بحد ذاته وليس عن العيد من حيث هو عيد.
[11] ممن تصدى من الباحثين لدراسة ظاهرة تعلمن الدولة في العالم العربي-الإسلامي عزيز العظمة في كتابه العلمانية من منظور مختلف.
[12] الواقع أننا نستطيع أن نعكس العلاقة المزعومة بين الدكتاتورية والعلمانية. فخلافاً لما يروج له الأصوليون والشعبويون فإن الطبيعة الدكتاتورية للأنظمة العربية، ولا سيما منها ذات الأصول العسكرية، هي التي تجعلها تراوغ، بل تتراجع في موضوع علمنة الدولة كما المجتمع، هذا إن لم تنهج مسلك الممالأة الدينية تسوّلاً لنزر من الشرعنة التي تفتقدها افتقاداً تاماً. وحسبنا هنا أن ننوه بأن هذه الأنظمة الدكتاتورية لا تجرؤ، رغم كل عتوها وجبروتها، على أن تتصدى لظاهرة متفاقمة، وهي الآذان بمكبرات الصوت، مع أن التصدي لمثل هذه الظاهرة سهل من وجهة نظر دينية خالصة، باعتبار أن استعمال مكبرات الصوت في المآذن هو "بدعة مستحدثة" لم تعرفها المساجد قبل منتصف القرن العشرين. وقد كنا رأينا أن جمهورية ديمقراطية صغرى، مثل جمهورية الألب الغربية، لم تتردد في منع دق أجراس الكنائس ليلاً رغم التجذر العميق للشعب الإيطالي في الكاثوليكية (لنفتح هنا قوسين لنشير إلى أن الدولة العربية الوحيدة التي حظرت الآذان بمكبرات الصوت هي تونس البورقيبية. ويوم أصدر الحبيب بورقيبة قرار الحظر هذا لم يكن دكتاتورا على طريقة العسكريين العرب، بل كان زعيماً وطنياً وشعبياً ذا شرعية ثابتة).
[13] الجدير بالذكر أن هذه القاعدة الفقهية التمييزية بين الجنسين تطبق حتى على غير المسلمين من مواطني الدول العربية، خلا لبنان الذي يطبق قواعد تشريعية متباينة تبعاً للانتماء الديني أو الطائفي للوريث أو الوريثة. وقد خرقت الدولة السورية مؤخراً هذه القاعدة عندما أعفت طائفة الروم الكاثوليك من تطبيق الشرع الإسلامي السني عليها في مجال الإرث، فصارت الكاثوليكية ترث بقدر ما يرث الكاثوليكي. ولكن هذا الاستثناء لم يشمل بالمقابل الطوائف المسيحية الأخرى مثل الروم والسريان الأرثوذكس، وهذا ما احدث بلبلة وحِراكاً مطلبياً في صفوفهم.

 
Free Hit Counter Search Engine Submission - AddMe