السبت، 7 نوفمبر 2009

إميل دوركهيم

إميل دوركهيم

بقلم د. عمر عبد الجبار

التوجه النظري لإميل دوركايم خلافاً للعديد من المفكرين الاجتماعيين يحتوى على القليل من الغموض. لقد كرس كل جهده للاهتمام بأثر البنات الاجتماعية الكبرى للمجتمع والمجتمع نفسه على أفكاروأفعال الفرد. لقد كان مؤثراً جداً في تشكيل النظرية البنائية الوظيفية بتركيزها على البناء الاجتماعي والثقافة. على ضوء هذا ، فإن هدفنا في هذا الفصل هو وصف مدخل دوركايم النظرى بتركيز خاص على اهتماماته الاجتماعية الكبرى. عرف دوركايم بتطويره واستخدامه لمفهوم الحقيقة الاجتماعية. ولنا الكثير الذى سنقوله عن هذا المفهوم في هذا الفصل لكن مقدمة مختصرة تبدو ضرورية في هذا المقام. بالمفهوم المعاصر، الحقائق الاجتماعية هى البنيات الاجتماعية، المعايير والقيم الثقافية التى هى خارجية بالنسبة للفاعل وقاهرة له.

لنفهم لماذا طور دوركايم مفهوم الحقائق الاجتماعية وماذا تعنى ؟ نحتاج إلى فحص بعض جوانب المناخ الفكرى الذى عاش فيه.

بالرغم من أن المصطلح ( علم الاجتماع ) صك قبل سنوات بواسطة أوغست كونت لم يكن هناك مجال يعرف بعلم الاجتماع بذاته في فرنسا أواخر القرن التاسع عشر. كما لم تكن هنالك مدارس، أقسام أو حتى أساتذة علم اجتماع. هنالك القليل من المفكرين ( كونت، دوركايم، ماركس، سنبسر ) يناقشون أفكارا هى بطريقة أو بأخرى اجتماعية، لكن لم يكن هنالك بعد مجالا ًيعرف بعلم الاجتماع. بالتأكيد كانت هنالك معارضة قوية من المجالات الموجودة أصلا ًلظهور مثل ذلك المجال. المعارضة الأكثر أهمية كانت من قبل علم النفس والفلسفة، المجالين اللذان كان يعتقد انهما يغطيان موضوع علم الاجتماع. المأزق بالنسبة لدوركايم المتطلع لإيجاد علم الاجتماع كان في كيفية أن يخلق له نافذة منفصلة ومميزة.

لفصل علم الاجتماع عن الفلسفة ذكر دوركايم أن على علم الاجتماع أن يتوجه نحو البحث الميداني. هذا يبدو بسيطا ً جداً لكن الموقف تعقد باعتقاد دوركايم بأن علم الاجتماع مهدد بمدرسة فلسفية داخل علم الاجتماع نفسه. كان يرى أن اثنين من أعلام معاصريه يعتبرون أنفسهم علماء اجتماع، كونت وسبنسر يهتمان بالتفلسف والتنظير المجرد أكثر من اهتمامهما بدراسة العالم الاجتماعي ميدانيا. وإذا واصل هذا المجال تطوره في الاتجاهات التى وضعها كونت وسنبسر يرى دوركايم أنه سيكون أحد فروع الفلسفة. لذلك وجد من الضروري مهاجمة كونت وسبنسر معا.ً اتهمهما باستبدال الدراسة الواقعية للظواهر الاجتماعية في العالم الحقيقي بأفكار مسبقة عن تلك الظواهر. لذلك فإن كونت أخطأ في افتراضه النظرى أن العالم الاجتماعي يتطور في اتجاهات المجتمع الكامل وإهماله للدراسة الصارمة لطبيعة التغيير في مختلف المجتمعات. كذلك اتهم سبنسر بافتراضه التوافق في المجتمع وعدم قيامه بدراسة إذا ما كان هذا التوافق موجوداً فعليا.


الحقائق الاجتماعية

من أجل المساعدة في أبعاد علم الاجتماع عن الفلسفة وخلق هوية واضحة ومنفصلة له، ذكر دوركايم أن موضوع علم الاجتماع المميز يجب أن يكون الحقائق الاجتماعية. ومفهوم الحقائق الاجتماعية له عدة مكونات، لكن ما هو حاسم في فصل علم الاجتماع عن الفلسفة هى فكرة أن الحقائق الاجتماعية يجب أن تعامل كأشياء، وبما أنها تعامل كأشياء فان الحقائق تدرس ميدانيا ً وليس فلسفيا ً.

كان دوركايم يعتقد أن الأفكار يمكن معرفتها عن طريق الاستبطان فلسفيا ًلكن الأشياء لا يمكن إدراكها عن طريق النشاط العقلي الخالص ونحتاج من أجل فهمها إلى معلومات من خارج العقل. هذا التوجه الميداني ودراسة الحقائق الاجتماعية كأشياء هو الذى ميز علم اجتماع دوركايم عن التفكير الفلسفي لكونت وسبنسر .

في حين أن معاملة الحقائق الاجتماعية كأشياء جابهت التهديد من الفلسفة لكن لم تكن كافية لمواجهة التهديد من علم النفس. ومثل علم الاجتماع الدوركايمى فان علم النفس يعتمد أيضا ً على الدراسة الميدانية. ولتمييز علم الاجتماع عن علم النفس ذكر دوركايم أن الحقائق الاجتماعية مستقلة عن الفاعل وقاهرة له. لذلك فان علم الاجتماع يدرس الحقائق الاجتماعية في حين أن علم النفس يدرس الحقائق السيكولوجية. بالنسبة لدوركايم، الحقائق السيكولوجية أو النفسية هى في الأساس ظواهر موروثة. بالرغم أن هذا لا ينطبق على علم النفس اليوم وربما لم يكن وصفا دقيقا لعلم النفس في ذلك الوقت، لكنه مكن دوركايم من الفصل بين المجالين.

الحقائق السيكولوجية هى بالتأكيد داخلية موروثة والحقائق الاجتماعية مستقلة وقاهرة. وكما سنرى بعد قليل هذا التمييز ليس نقياً كما ود دوركايم أن نعتقد. على الرغم من ذلك بتعريفه للحقائق الاجتماعية كأشياء مستقلة عن الفرد وقاهرة له، قام دوركايم بعمل جيد ( على الأقل بالنسبة لوقته ) في تحقيق هدفه في الفصل بين علم الاجتماع وكل من الفلسفة وعلم النفس .

نحن نعرف الآن أن الحقيقة الاجتماعية شئ مستقل وقاهر لكن ماذا تتضمن غير ذلك؟ في الواقع ميز دوركايم بين نوعين من الحقائق الاجتماعية – مادية وغير مادية. الحقائق الاجتماعية المادية أكثر وضوحاً لأنها حقيقية، كيانات مادية لكنها ذات أهمية ضئيلة في عمل دوركايم وكما قال "الحقيقة الاجتماعية تكون أحياناً مادية للدرجة التى تكون فيها جزءًا من العالم الخارجي" [1]المعمار والقانون مثالان لما عنى به الحقائق الاجتماعية المادية وسنرى العديد من الأمثلة الأخرى في هذا الفصل .

لكن الجزء الأكبر من عمل دوركايم وجوهر علم اجتماعه يختص بدراسة الحقائق الاجتماعية غير المادية. إن ما يطلق عليه علماء الاجتماع اليوم المعايير والقيم مثال جيد لما عنى به دوركايم الحقائق الاجتماعية غير المادية. لكن هذه الفكرة تخلق مشكلة. كيف أن الحقائق الاجتماعية غير المادية مثل المعايير والقيم تكون خارجية ومستقلة عن الفاعل ؟ أين يمكن أن نجدها إن لم يكن ذلك في عقول الفاعلين ؟ وإذا كانت في عقول الفاعلين أليست هى داخلية وغير خارجية ومستقلة؟

لتوضيح هذه القضية لابد من تنقية حجة دوركايم بالقول، في حين أن الحقائق الاجتماعية المادية خارجية ومستقلة بوضوح وقاهرة للفاعل فإن الحقائق غير المادية ليست بذلك الوضوح. فهي إلى حد ما موجودة في عقول الفاعلين. وأفضل الطرق لفهم الحقائق الاجتماعية غير المادية هو أن نعتبرها خارجية وقاهرة للحقائق السيكولوجية. بهذه الطريقة يمكننا أن نرى الحقائق السيكولوجية وبعض الحقائق الاجتماعية موجودة داخل الوعي. لقد أوضح دوركايم هذا في أكثر من مكان. فقد ذكر "أن العقول الفردية عندما تكون مجموعات باندماجها وانصهارها فإنها تنتج وجوداً سيكولوجياً لكنها تكون فردية نفسية من نوع جديد" [2] وفى موضع آخر ذكر "هذا لا يعنى أن الحقائق الاجتماعية غير المادية ليست عقلية تماماً بما أنها تحتوى على طرق للتفكير والسلوك" [3]. لذلك من الأفضل التعامل مع الحقائق الاجتماعية غير المادية كظواهر عقلية لكنها خارجية وقاهرة لجانب آخر من العملية العقلية، ذلكم هو الحقائق السيكولوجية.

يهتم علم الاجتماع بالظواهر لكنها عادة تختلف عن تلك الظواهر العقلية موضوع علم النفس. لذلك فان دوركايم ذكر أن علماء الاجتماع مهتمون بالقيم والمعايير فى حين أن علماء النفس مهتمون بأشياء مثل الغرائز الإنسانية. تلعب الحقائق الاجتماعية دوراً أساسيا في علم اجتماع دوركايم. لاستخراج أهم الحقائق الاجتماعية من أعماله وتحليل أفكاره عن العلاقات بين تلك الظواهر فمن الأفضل أن نبدأ بمحاولاته تنظيم الحقائق الاجتماعية في مستويات من الواقع الاجتماعي. لقد بدأ دوركايم بالحقائق الاجتماعية المادية ليس لأنها هى الأهم لكن لأن مكوناتها تأخذ أهمية عرضية في تنظيره. إنها تؤثر على الحقائق الاجتماعية غير المادية، موضوع اهتمامه الأساسي.

المستويات الكبرى للواقع الاجتماعي في أعمال دور كايم يمكن تصنيفها كما يلي :-

أ‌- الحقائق الاجتماعية المادية

1-المجتمع

2- المكونات البنيوية للمجتمع ( الدولة مثلاً )

3- المكونات المورفولوجية للمجتمع (توزيع السكان ، قنوات الاتصال ، ترتيبات المساكن مثلاً )

ب- الحقائق الاجتماعية غير المادية

1- الأخلاق

2- الضمير الجمعي

3- التمثل الجمعي

4- التيارات الاجتماعية

يمكننا متابعة منطق نظرية دوركايم في تحليله لتطور العالم الحديث. هذا يبدو واضحاً في أحد أهم أعماله ( تقسيم العمل في المجتمع).


تقسيم العمل في المجتمع

أسس دوركايم تحليله في ( تقسيم العمل في المجتمع ) على مفهومه عن نوعين مثاليين من المجتمعات. النوع الأكثر بساطة يتميز بالتضامن الآلي وهو ذو بناء اجتماعي غير متباين نسبياً وينعدم فيه تقسيم العمل أو يوجد في أدنى درجاته. النوع الحديث يتميز بالتضامن العضوي وبه تقسيم واسع للعمل. بالنسبة لدوركايم تقسيم العمل في المجتمع حقيقة اجتماعية مادية تتضمن الدرجة التى يتحدد فيها تخصيص الأعمال والمسئوليات. الناس في المجتمعات البسيطة يحتلون مواقع عامة جداً يؤدون فيها قدر واسع من المهام المختلفة ويتعاملون مع عدد كبير من المسئوليات. بمعنى آخر إن الشخص البسيط هو رجل كل المهن. على النقيض من ذلك فإن أولئك الذين يعيشون في مجتمعات حديثة يحتلون مواقع أكثر تخصصاً ولهم نطاق ضيق من المهام والمسئوليات. مثلا ً دور الأم ربة المنزل في المجتمعات البسيطة له موقع أقل تخصصاً من دور الأم اليوم (خدمات الغسيل، خدمات التوصيل للمنازل، والأجهزة المنزلية، ماكينات الغسيل، الأفران الخ ) تؤدى عدد من المهام كانت في السابق مسئولية الأم ربة المنزل .

التغير في تقسيم العمل له انعكاسات عديدة على بنية المجتمع وبعض أهم هذه الانعكاسات يظهر في الاختلاف بين نوعى التضامن – آلي وعضوي. في تناوله لموضوع التضامن كان دوركايم مهتماً بما يجعل المجتمع متماسكاً. المجتمع الذى يتميز بالتضامن الآلي موحد لأن كل الناس عموميين. الرابطة بين الناس تتمثل في أنهم جميعاً يؤدون نفس المهام ولهم مسئوليات متشابهة. على النقيض من ذلك، المجتمع الذى يتميز بالتضامن العضوي متماسك بالاختلاف الموجود بين أفراده لان لهم مهام ومسئوليات مختلفة. لأن الناس في المجتمع الحديث يؤدون مهاماً محدودة نسبياً فانهم بحاجة إلى أناس آخرين عديدين للبقاء. الأ سرة البسيطة التى ربها صياد الأم فيها جامعة للغذاء مكتفية ذاتيا ً عمليا ً. لكن الأسرة الحديثة فمن أجل البقاء لمدة أسبوع مثلآً، تحتاج إلى بقال، خباز، جزار، ميكانيكي سيارات، معلم، ضابط بوليس الخ. هؤلاء الناس يحتاجون الخدمات التى يقدمها الآخرون من أجل الحياة في العالم الحديث. فالمجتمع الحديث، كما يرى دوركايم متماسك بتخصص أفراده وحاجتهم إلى خدمات آخرين عديدين.

الكثافة الحيوية

تقسيم العمل حقيقة اجتماعية مادية لدى دوركايم لأنه يمثل نسق التفاعل في العالم الاجتماعي. حقيقة اجتماعية مادية أخرى وذات صلة وثيقة بتقسيم العمل والعامل الأساسي في نظرية دوركايم عن الانتقال من التضامن الآلي إلى التضامن العضوي هى الكثافة الحيوية.

مفهوم الكثافة الحيوية يعنى عدد السكان في المجتمع وكمية التفاعل الذى يحدث بينهم. الزيادة السكانية أو الزيادة في التفاعل إذا أخذنا كلاً على حدة لا يشكلان عاملاً مهماً في التغير الاجتماعي. لكن الزيادة في أعداد الناس مصحوبة بزيادة في التفاعل بينهم ـ الكثافة الحيوية- يؤديان إلى التغير من التضامن الآلي إلى التضامن العضوي لانهما معاً يقودان إلى المزيد من التنافس حول الموارد النادرة وصراع أكثر كثافة من أجل البقاء بين مختلف مكونات المجتمع البسيط المتشابهة والمتوازية. وبما أن الأفراد والمجموعات، الأسر، والقبائل وما إلى ذلك تؤدى أدواراً متشابهة فغالباً ما يصطدمون حول هذه الأدوار خاصة في حالة ندرة الموارد. نشوء تقسيم العمل يسمح للناس والبنيات الاجتماعية التى يخلقونها بالتكامل أكثر من الصراع مع بعضهم البعض وهذا بدوره يجعل التعايش السلمي أكثر احتمالاً. إضافة إلى ذلك فإن الزيادة في تقسيم العمل تؤدى إلى المزيد من الفعالية وينتج عن ذلك الزيادة في الموارد مما يسمح لعدد أكبر وأكبر من الناس بالبقاء في سلام.

كان دوركايم مهتماً أيضاً بتوضيح كيف أن تقسيم العمل والكثافة الحيوية يقودان إلى نوع مختلف من التضامن الاجتماعي. لقد كان مهتماً بشكل أساسي بتأثير هذه التغيرات المادية على الحقائق الاجتماعية غير المادية وطبيعتها في المجتمعات ذات التضامن الآلي والعضوي. لكن ونسبة لتصوره عن أي نوع من العلم يجب أن يكون علم الاجتماع، شعر دوركايم أنه من الصعوبة دراسة الحقائق الاجتماعية غير المادية مباشرة. الدراسة المباشرة للحقائق غير المادية كانت بالنسبة له موضوعاً فلسفياً أكثر من أنه موضوعاً لعلم الاجتماع. ومن أجل دراسة الحقائق غيرالمادية علمياً يجب على عالم الاجتماع البحث عن الحقائق المادية ودراستها لأنها هى التى تحدد طبيعة الحقائق غير المادية والتغيرات داخلها. في( تقسيم العمل في المجتمع ) يلعب هذا الدور القانون والفرق في القانون بين المجتمعات ذات التضامن الآلي والعضوي.

القانون

ذكر دوركايم أن المجتمع ذو التضامن الآلي يتميز بقانون قمعي. لأن الناس متشابهين جداً في مثل هذا المجتمع ولأنهم يعتقدون بقوة في أخلاق عامة فان أي خرق للقانون تجاه نسق القيم المشتركة غالباً ما يكون ذا أهمية بالنسبة لأغلبية الأفراد. وبما أن الناس يحسون بالجرم ويعتقدون بقوة في الأخلاق العامة فان خارق القانون يعاقب بقسوة لكل فعل يعتبر خرقاً للقانون ومخترقاً لنسق الأخلاق العامة.

على النقيض من ذلك، يتميز المجتمع ذو التضامن العضوي بقانون تعويضي. فبدلاً من العقوبة القاسية حتى في مواجهة الجرائم الصغيرة ضد الأخلاق العامة، إن الأفراد في هذا النوع من المجتمع الأكثر حداثة يطلب منهم الانصياع للقانون أو تعويض أولئك الذين تضرروا من أفعالهم. في حين أن بعض القانون القمعي يظل موجوداً في مجتمع التضامن العضوي - عقوبة الإعدام مثلا ً- فإن القانون التعويضي هو الصفة الغالبة. هنالك القليل من الأخلاق العامة غير القاهرة وليست ذات قوة كبيرة والأغلبية العظمى من الناس لا ينفعلون عاطفياً لخرق القانون. مراقبة القانون القمعي تكون في أيدي الجماهير في مجتمعات التضامن الآلي لكن الحفاظ على القانون التعويضي يكون مسئولية هيئات متخصصة كالشرطة والمحاكم مثلاً. هذا منسجم مع زيادة تقسيم العمل في مجتمعات التضامن العضوي. التغير في الحقائق الاجتماعية المادية مثل القانون يعتبر في نسق دوركايم النظرى مجرد انعكاسات للتغير في عوامل أكثر أهمية في علم اجتماعه تلك هى العوامل غير المادية مثل الأخلاق، الضمير الجمعي، التمثل الجمعي والعقل الجمعى. كل هذه المفاهيم سنناقشها لاحقا ً.

على المستوى العام والشامل فقد كان دوركايم عالم اجتماع أخلاق. وكما ذكر ارنسيت والورك [4]أن علم اجتماع دوركايم يعتبر منتجاً جانبياً لاهتمامه بالقضايا الأخلاقية. ذلك أن اهتمام دوركايم بالمشاكل الأخلاقية في عصره قاده كعالم اجتماعي ليوجه جل اهتمامه إلى الجوانب الأخلاقية للحياة الاجتماعية. بشكل أساسي فإن اهتمام دوركايم الأعظم كان يختص بتدني قوة الأخلاق العامة في العالم الحديث. وهو يرى أن الناس في خطر من التحلل المرضى للروابط الأخلاقية. هذه الروابط الأخلاقية مهمة في نظره لأن الفرد بدونها يكون عبداً لشغف نهم ومتوسع باستمرار. وسينجر الناس بسب شغفهم إلى البحث المجنون عن الإشباع، لكن كل إشباع جديد يؤدى إلى المزيد من الحاجات. سنقوم بتطوير هذه الفكرة لاحقاً في هذا الفصل. لكن ربما نقول هنا أن دوركايم يتمسك بالرؤية المتناقضة أن الفرد بحاجة إلى الأخلاق والسيطرة الخارجية من أجل أن يكون حراً. هذا تعريف غريب للحرية لكنه هو الموقف الذى اتخذه دور كايم .

اللامعيارية

العديد من القضايا التى شغلت دوركايم كانت نابعة من اهتمامه بتدني الأخلاق العامة. وفى مفهوم اللامعيارية أظهر دوركايم جيداً اهتمامه بمشاكل ضعف الأخلاق العامة. يواجه الأفراد اللامعيارية عندما لا تكون هنالك قيود أخلاقية كافية، أي عندما لا يكون لديهم مفهوم واضح عن ما هو صحيح ومقبول كسلوك وما هو غير ذلك. إن المرض الأساسي في المجتمع الحديث حسب رؤية دوركايم هو تقسيم العمل اللامعيارى. وبحديثه عن اللامعيارية كمرض أظهر دوركايم اعتقاده أن مشاكل العالم الحديث يمكن معالجتها. يعتقد دوركايم أن تقسيم العمل البنيوي في المجتمع الحديث مصدر للتماسك ربما يعوض ضعف الأخلاق العامة. لكن الطعن في حجته هذه أن تقسيم العمل لايمكن أن يعوض كلياً ضعف الأخلاق العامة إذا أخذنا في الحسبان أن اللامعيارية مرض مصاحب للتضامن العضوي الذى ينتج عن الزيادة في تقسيم العمل. يمكن أن يكون الأفراد معزولين في نشاطاتهم عالية التخصص ويمكن أن لا يكون لهم إحساس برابطة عامة مع الذين يعملون معهم أو يعيشون حولهم. لكن من الضروري أن نتذكر أن هذا اعتبر موقفا شاذاً من قبل دوركايم بما أنه فقط في الأحوال غير العادية يختزل تقسيم العمل عمل الناس إلى مهام ومواقع معزولة وغير ذات معنى. مفهوم اللامعيارية لا يوجد فقط في ( تقسيم العمل في المجتمع ) لكن أيضاً في( الانتحار) باعتباره أحد أنواع الانتحار الأساسية. لدينا الكثير الذى سنقوله عن هذا الموضوع لاحقاً لكن يمكننا أن نشير إلى أن الانتحار اللامعيارى يحدث نتيجة لتدنى الأخلاق الجمعية ولغياب الموجهات الخارجية الكافية لكبح نزوات الفرد.

الضمير الجمعي

تعامل دوركايم مع اهتمامه بالأخلاق العامة بطرق ومفاهيم متعددة. في مجهوداته المبكرة في تناول هذا الموضوع طور دوركايم فكرة الضمير الجمعي التى تميز (تقسيم العمل في المجتمع ) كما يلي "إن مجموع المعتقدات والمشاعر العامة لدى المواطنين العاديين في المجتمع تكون نسقاً محدداً له حياته الخاصة يمكن أن نطلق عليها( الضمير الجمعي ) وهو مختلف تماماً عن ضمير معينة بالرغم من أنه لا يمكن تحقيقه إلا عن طريقها" [5]. العديد من النقاط جديرة بالتوضيح في هذا التعريف، وذلك ضمن اهتمامنا بالضمير الجمعي باعتباره نموذجاً للحقائق الاجتماعية غير المادية. أولاً من الواضح أن دوركايم اعتبر أن الضمير الجمعي يتكون عالمياً عندما تحدث عن مجموع المعتقدات والمشاعر. ثانياً، من الواضح أن دوركايم تصور الضمير الجمعي كنسق ثقافي مستقل وحتمي. بالرغم من رؤيته هذه عن الضمير الجمعي فإن دوركايم تحدث عن تحقيقه من الضمائر الفردية. لذلك فإنه لم يتصور الضمير الجمعي كشيء مستقل تماماً عن ضمير الفرد وهذه الإشارة ذات أهمية عندما نناقش الاتهام بأن دوركايم يعتقد في مفهوم العقل الجمعي.

مفهوم الضمير الجمعي يتيح لنا العودة لتحليل دوركايم في (تقسيم العمل في المجتمع) عن الحقائق الاجتماعية المادية وعلاقتها بالتغير في الأخلاق العامة. جوهر حجته أن الزيادة في تقسيم العمل الناتجة عن الزيادة في الكثافة الحيوية تسبب ضعف الضمير الجمعي. والضمير الجمعي ليس له أهمية كبرى في مجتمع التضامن العضوي مقارنة بمجتمع التضامن الآلي. الناس في المجتمع الحديث ينصهرون عن طريق تقسيم العمل والحاجة الناتجة للوظائف التى يؤديها الآخرون أكثر من انصهارهم عن طريق ضمير جمعي قوى ومشترك. أنتونى قدنيز [6] قدم خدمة مفيدة عندما أشار إلى أن الضمير الجمعي في كلا المجتمعين ذوى التضامن الآلي والعضوي يمكن تمييزه في أربعة أبعاد هى الحجم، القوة،الصرامة والمحتوى. الحجم يعنى عدد الناس الذين يشملهم، القوة تعود إلى مدى العمق بالإحساس تجاهه، الصرامة تشير إلى مدى معرف بشكل واضح، والمحتوى يعود إلى الشكل الذى يأخذه الضمير الجمعي في كلا المجتمعين. في مجتمع يتميز بالتضامن الآلي يغطى الضمير الجمعي كل المجتمع وكل أفراده, ويعتقد فيه بقوة (كما ينعكس ذلك في العقوبات القمعية في حالة خرقه ) إنه شديد الصرامة ومحتواه ديني.

في مجتمع التضامن العضوي يكون الضمير الجمعي محدوداً في النطاق الذى يشمله وكذلك عدد الناس, لا يعتقد فيه بقوة (كما ينعكس في استبدال القانون القمعي بآخر تعويضي) إنه ليس صارما ومحتواه يمكن وصفه على أفضل وجه بالتعبير"الفردية الأخلاقية " أو زيادة أهمية ارتقاء الفرد للإدراك الأخلاقي.

التمثل الجمعي

في حين أن فكرة الضمير الجمعي مفيدة لدوركايم لكن من الواضح أنها فضفاضة وغير محددة. وعدم قناعته بمفهوم الضمير الجمعي قاده إلى التخلي عنه في أعماله اللاحقة لمصلحة مفهوم آخر اكثر تحديداً هو التمثل الجمعي.

التمثل الجمعي يمكن اعتباره حالات محددة أو طبقات فرعية من الضمير الجمعي. باللغة المعاصرة ربما نصف التمثل الجمعي بقيم ومعايير جمعية معينة مثل الأ سرة, المهنة, الدولة والمعاهد التعليمية والدينية. مفهوم التمثل الجمعي يمكن استخدامه بعمومية وبتحديد أيضا, لكن ما هو مهم فيه أنه أتاح لدوركايم فهم الحقائق الاجتماعية غير المادية بصورة أكثر تحديداً من مفهوم الضمير الجمعي الشامل. على الرغم من أنها محدودة بشكل كبير فإن التمثلات الجمعية لايمكن اختزالها إلى مستوى وعى الفرد. "التمثلات الجمعية تنتج من طبقات الأفراد المشتركين لكن لها ميزاتها المتفردة". [7] هذا يعنى أن ميزاتها الفريدة لايمكن اختزالها إلى الوعي الفردي وهذا يضعها داخل إطار الحقائق الاجتماعية غير المادية. إنها تتجاوز الفرد لأنها لا تعتمد في وجودها على فرد معين. إنها مستقلة عن الأفراد لأن عمرها أطول من عمر أي فرد. التمثلات الجمعية جزء أساسي في نسق دوركايم عن الحقائق الاجتماعية غير المادية.


الانتحار والتيار�

ملاحظة

من كتاب رواد علم الاجتماع عن موقع أستاذ علم الاجتماع د. عمر عبد الجبار محمد أحمد.
" لقد اعتمدنا في إعداد هذا الكتاب على كتاب Classical Sociological Theory لمؤلفه George Ritzer " ( د.عمر عبد الجبار )

حواشي

[1] دوركايم، الانتحار، ص.313.
[2] دوركايم، قواعد المنهج الاجتماعي،ص.103
[3] نفس المصدر، ص.xiix
[4] والورك، دوركايم: الأخلاق والوسط المحيط،ص.182
[5] دوركايم ،تقسيم العمل،ص.79-80
[6] انتونى قيدنز،اميل دوركايم، مختارات
[7] لوكس،دوركايم،حياته ومؤلفاته،ص.7

 
Free Hit Counter Search Engine Submission - AddMe