الخميس، 5 نوفمبر 2009

ما لديكارت وما على الديكارتية

زهير الخويلدي


"انك في الحقيقة الإنسان الوحيد الذي أيقظني من خمولي وأعاد إلى نفسي علما كاد يمحي من ذاكرتي وارجع عقلي إلى جيل الأعمال بعد أن كان قد نبذها" رسالة من ديكارت إلى إسحاق بيكمان

استهلال:

ربما غطت الفلسفة الديكارتية التي تأسست في فترة متأخرة فكر ديكارت وربما الكتابات العديدة والمتضاربة التي تناولت هذا الفكر بالنقد والتعليق حجبت روحها وأهملت جوهرها ولعل التأويلات التي خضعت له النصوص الديكارتية غطت حقيقتها وتناست المرتكزات الثيولوجية والميتافيزيقية التي استندت عليها وطمست الخلفية الثقافية والحضارية التي تتخفى وراءها وأوقعتها في التمركز على الذات.
والحق أنه لم ينظر إلى رينيه ديكارت إلا كمفكر أسطوري قام بثورة معرفية أخرجت أوروبا من الظلام إلى النور أي من بربرية وهمجية العصور الوسطى إلى العلم والحداثة والتقدم. كما لم يفهم الكوجيتو إلا بوصفه نقطة ثابتة وأرض صلبة يمكن أن يقف عليها الإنسان الوحيد والتائه في كون مفتوح ولامتناهي.
إن ما عرض إلى حد الآن من طرف مؤرخي الفلسفة من فهم وتأويل لديكارت والديكارتية ليس سوى طريقة متطورة لإهمالها والإعراض عنها عنها، وبعبارة أكثر عمق هو ابتعاد عن الجوهر وتعلق بالسطحي وطمس للتناقضات التي تخترقها وإخفاء للاحراجات التي وقعت فيها ولم تتخلص منها. إن الفكر الحاذق هو الباحث عن طريقة لتجاوز كل هذه التشويهات وتفادي الوقوع في التحريفات والتأويلات المضللة وبالتالي فهو لن يواصل التراث المفسر للديكارتية ولن يدعي ابتكار طريقة جديدة في التأمل والمعرفة وإنما هو تفكير في الفلسفة التي شيدها ديكارت بطريقة مغايرة للتأمل الديكارتي ومحاولة لتقصي فلسفة الذاتية التي أرساها من خارج قلعة الكوجيتو التي اتخذها مبدأ أولا لهذه الفلسفة. إنها تجربة إعمال العقل خارج تربة العقلانية الفطرية دون أن يكون الموجود فكرة تعطى للذات ودون أن تكون الفكرة موضوعا للتمثل والذاتية أساس الوجود . انه محاولة لخلخلة ثنائيات الديكارتية مثل نفس/جسم، عقل/تجربة، الله/إنسان، وجود/عدم، جوهر/عرض، في سبيل الكشف عن لبس وغموض مفاهيم مثل البداهة والشك واليقين والوضوح والذات وتسليط الضوء على المسكوت عنه فيها وقراءة بصوت عال المعاني التي لم يصرح بها ديكارت رغم تعويله عليها كبديهيات في بناء نسقه المعرفي والعملي. فمن هو ديكارت؟ بمن تأثر؟ ومن أين استقى فلسفته؟ وكيف اهتدى إلى فكرة الكوجيتو؟ وماهو المنهج الذي اعتمده؟ ماهي الاكتشافات العلمية التي قام بها؟ ماهي الاستتباعات التي انجرت عن هذه الاكتشافات؟ ماذا تمثل تجربة الشك في مشروعه؟ بأي معنى يمكن أن نقول أنه تحرر من التراث الفلسفي الوسيط؟ هل غادر الميتافيزيقا القديمة وساهم في تفجير الثورة العلمية؟ كيف وقع اعتباره أب للعديد من الفلاسفة المحدثين مثل مالبرانش اسبينوزا ولايبنتز؟ هل ساهم في تشييد مفهوم الحداثة في الفلسفة الغربية أم أنه مهد الطريق نحو نزعة إنسانية أزهرت مع حلول عصر التنوير؟
ما نراهن علية هو الكشف عن وجهه المستور في تاريخ الفلسفة من أجل تنسيب آرائه ومعرفة أسباب تشكلها والتوقف عند وجهه المضيء وتتبع طرق الحجاج التي أسند بها مشروعها وجعله يعانق الكونية.

1- منزلة ديكارت في تاريخ الفلسفة:

"لن تجدينا الدراسات التي لا نكسب من ورائها إلا آراء محتملة…فالجهل التام خير من المعرفة المزعزعة المضطربة ولا يكون العلم علما إلا إذا كان يقينيا…" مقال عن المنهج ينظر عادة إلى رينيه ديكارت في تاريخ الفلسفة كمؤسس حقيقي للفلسفة الحديثة بما أنه انطلق من التفكير كمبدأ بعد فصله عن اللاهوت وجعله أصل الوجود والخاصية الأساسية التي تميز الإنسان عن بقية الكائنات، وبهذا أراد مؤسس العقلانية الحديثة أن يتحرر من فلسفة أرسطو ثائرا على الفلسفة المدرسية التي تعلمها في المدار س المسيحية ومبشرا بولادة شيء جديد في مجال العلم والفكر والحضارة. إننا لا نستطيع في الحقيقة أن نقيس درجة التأثيرات التي أحدثها ديكارت في الفكر الحديث وفي عصره لاسيما أنه اعتبر من طرف البعض الرائد الذي أسس من جديد الأرض الصلبة للفلسفة بعد سنوات من الجمود. لكن التأثير الأهم في تشكل الفلسفة يتعلق في الكيفية الحرة والسهلة والشعبية التي تنطلق منها وتنبني عليها كما يرى هيجل، آذ لأول مرة في تاريخ الفكر ومع ديكارت أصبحت الفلسفة تكتب بلغة شعبية هي الفرنسية وتنطلق من الرأي العام وتتفق مع الحس السليم وتعتمد على قضايا واضحة وبديهية بالنسبة إلى الحس المشترك. هكذا قام ديكارت بعملية دمقرطة للمعرفة محطما بذلك الوصاية والاحتكار والأستذة المعرفية التي كانت تمارسها الكنيسة والنخبة العارفة باللغة اللاتينية على بقية الشعب.
كان مشروع هذا العالم الرياضي والفيزيائي والفيلسوف الفرنسي في البداية مجرد حلم صامت في سنة 1619ميلادي حول وضع علم عام يكون مفتاحا لجميع العلوم الأخرى يوحد المعرفة الإنسانية ويساهم في تشكيل منهج علمي يعصم العقل من الزلل ويمنعه من الوقوع في الوهم. هذا العلم العام ليس فلسفة بل هو مشروع مرتبط بالعلم ويكون أساسا للعمل والصناعة ويجعل الإنسان غير خاضع لأوهام الحواس والمخيلة وغير منتظر لرحمة الآلهة لينقذ نفسه من الضياع في الكون بل ليصبح سيدا ومالكا للطبيعة يتحكم في خطابه ويبلغ الحقيقة في العلوم بواسطة منهج عقلي يستند إلى يقين وبداهة الرياضيات.
على هذا النحو يمثل ديكارت نقطة تحول جذري في تاريخ الفلسفة والعلم خاصة في ميادين الرياضيات والفيزياء والفيزيولوجيا والبيولوجيا والبصريات. ولا يعود هذا التحول إلى مجرد إصلاح أو ترقيع للعلوم المعاصرة له بل هو في رأي معظم المؤرخين قطيعة جذرية مع العلم القديم وكل التراث المعرفي السكولاستيكي.
هذا العمل الفلسفي التطهيري عبر عنه ديكارت بواسطة الشك المنهجي في العمل العلمي السابق له وخاصة كل التراث الأرسطي الذي هيمن طوال قرنين من الزمن وذلك بأن وضع كل المعارف والحقائق المتحصل عليها من الماضي بين قوسين وانطلق من الأنا أفكر فقط كبداية حقيقية وصافية للمعرفة والوجود معا وقد أراد الفيلسوف بهذا الانطلاق من الصفر المعرفي والوجودي تجديدا للفلسفة والعلم وبعثا للحضارة الأوروبية التي مزقتها الحروب وكثرت فيها النعرات المذهبية والفرق الاثنية. هذا يعني أن ديكارت لم يكتفي بتطوير الفلسفة والعلم فقط بل اقتحم المجال المحظور وفكر في جوهر الحضارة الغربية نفسها وأعاد ربط الأنا بالعالم والذات بالمطلق وجعل الحقيقة تغير مقر سكناها من السماء إلى الأرض ومن الأشياء الخارجية إلى الباطنية الإنسانية وأعاد أيضا تسمية الكائنات معوضا الطريقة القديمة في التفكير بأخرى جديدة قوامها الأنا أفكر إذن أنا موجود.
يقوم المشروع الديكارتي على إثبات التعالي الوجودي للإنسان والذات البشرية على حساب بقية الكائنات الأخرى وعلى أولوية التفكير على الوجود والكائن على الكائنات بعدما كان الفكر المدرسي يبدأ من الوجود إلى الفكر ويقدم عالم الأشياء على عالم الأشخاص وينظر إلى الإنسان ككائن مثل بقية الكائنات. من هذا المنطلق يمثل المشروع الديكارتي مشروعا إنسانيا بشكل جذري وتعتبر الديكارتية فلسفة عقلانية ونسقا علميا يهدف إلى معرفة الأشياء بواسطة منهج عام لقيادة العقل والبحث عن الحقيقة الموضوعية بعيدا عن التحيز والرأي والأحكام المسبقة.
يتكون النسق الديكارتي من جملة من الفروع التي تربط بينها وحدة عضوية وشجرة المعرفة التي يتحدث عنها ديكارت في كتاب المبادئ تمثل جذورها الميتافيزيقا وجذعها الرياضيات وتشير الفروع إلى العلوم الأخرى مثل الميكانيكا والطب والأخلاق. إن وحدة المعرفة العقلانية عند ديكارت تتأسس على وحدة المنهج وليس عن طريق وحدة الموضوع أو لغة البحث. إذا ما رمنا التمييز بين ديكارت والديكارتية فانه من الضروري بالنسبة إلينا أن ندرس قضايا المنهج والفكرة الميتافيزيقية الجيدة التي تبلورت مع ديكارت وكذلك الاهتمام بالفيزياء والأخلاق حتى يتسنى لنا فهم قيمة وحدود التجديد الذي قام به ديكارت في تاريخ الأفكار والصنائع.

2- المنهج الديكارتي:

" إن العقل هو الوحيد الذي يمكنه تصور الحقيقة" القاعدة السادسة يعني المنهج الطريقة التي توضع لتمنع الفكر من الوقوع في الخطأ وتضمن بلوغ اليقين وحسن التصرف في القدرات الذاتية والملكات المعرفية. إن المنهج يتكون من قواعد صحيحة ومبادئ سهلة بمساعدتها لا يستطيع الفكر الذي يرى الحقيقة أن يفترض أنها خطأ. انه بحث منظم للفكر عن الأشياء الضرورية لحل مشكلة ما وللوصول إلى الحقيقة. إن الإنسان الذي يتبع منهجا صارما يستطيع أن يعرف كل الأشياء التي بإمكان العقل البشري أن يعرفها. إن حديث ديكارت عن المنهج وتأكيده عليه لا يعني أن الفلسفة التي سبقته أو العلم القديم لا يتبعان منهجا بل لقد عرف الفكر البشري منذ أرسطو القياس البرهاني ومنهج الاستنباط أي الانطلاق من الكلي إلى الجزئي وعرف أيضا منهج الاستقراء الذي ينطلق من الجزئي إلى الكلي.
إن الحافز الذي حرك ديكارت نحو التجديد المنهجي كان قويا إلى درجة أنه دفع به إلى الانطلاق من نقطة بعيدة كل البعد عن المنهجين الاستنباطي والاستقرائي وأني عمل على الجمع بين المنطق والرياضيات في الحدس والاستنباط. يعرض ديكارت فكرته عن المنطق الجيد في التفكير في الجزء الثاني من كتابه:" مقال عن المنهج" وفي كتابه:" قواعد من أجل حسن قيادة العقل" ويصفه بكونه يعوض المنطق السكولاستيكي الأرسطي ويمثل منهجا "يمكن الإنسان من حسن قيادة العقل لاكتشاف الحقائق التي يجهلها" وهو مستمد من الرياضيات لسهولة وبساطة المبادئ التي يستند إليها. غير أن ديكارت يعتبر الرياضيات نتيجة نصل إليها بعد تطبيق المنهج وليست هي المنهج ذاته على الرغم من انبهاره بها وذلك لصرامتها ولضمانها بلوغ اليقين. من هذا المنطلق فإنه يقترح منهجا عاما تكون الطريقة الهندسية أولى تطبيقاته يسميه في كتاب القواعد رياضيات كلية Mathesis universalis وهي لا تهتم بالمواضيع الجزئية مثل الأعداد والأشكال والمقادير والأبعاد بل بالنظامordre والقياسmesure وتكون لها القدرة الإبداعية الخلاقة على اكتشاف ماهو مجهول بواسطة الأمكنة التي تحتلها والأزمنة التي تستغرقها والعلاقات المنطقية التي تربط بينها.
اللافت للنظر أن ديكارت قد أسس ما يسمى الهندسة التحليلية التي ترى أن معرفة كيفيات وخصائص المنحنياتcourbes تعود إلى عملية إبداع الإحداثيات coordonnées بواسطة حساب الجبر. على هذا النحو كان المنهج الديكارتي بمثابة وعي العقل بشروط عمل الطبيعة بعيدا عما تقوله المخيلة أو الذاكرة أو الحواس. وينطلق العقل من ملكتين هما الحدس والاستنباط. أولا "الحدس هو تصور من عقل خالص منتبه إلى موضوع ما بحيث لا يبقى لدى المتصور أي شك بشأنه" أي أنه يمتاز بصفاء الذهن وتحرر العقل من سلطان الحس وإيهام الخيال والانطباق الكامل على الموضوع لإدراك ما يبدو بديهيا. إن الحدس هو حضور لدى الفكر لطبائع ثابتة وحقائق أولية ، الطبائع البسيطة ( الحركة والامتداد والشكل) ليست مفاهيم بل موضوعات مدركة بشكل مباشر عن طريق النور الفطري للعقل وبداهة حضور الفكر لدى مواضيعه واتساقه مع أفكاره الفطرية. علاوة على ذلك يجب الالتجاء إلى الاستنباط لحل الموضوعات المركبة والانتقال من المعلوم إلى المجهول، أما الحقائق الأولية مثل شيئان متساويان مع ثالث فهما متساويان فيما بينهما فهي شروط إمكان المعرفة. الاستنباط هو استعمال الحدوسات للمرور إلى النتائج عبر سلسلة منطقية كاملة حتى تصل إلى اليقين. بين إذن أن المنهج هو الاستعمال الجيد للحدس والاستنباط يجمع بين النظام الذي تتبعه أحكامنا الثابتة والنظام الواقعي للأشياء. إن المساعدة التي يقدمها المنهج إلى الاستنباط ضرورية من أجل الوصول إلى الحقائق المركبة حل مسائل العلم ومتابعة الادراكات والربط بينها في إطاري الزمان والمكان. يتكون المنهج من القواعد التالية:
- البداهة: وهي التأكيد على رفض الأقاويل المغشوشة والملتبسة والاكتفاء بقبول الأفكار الواضحة والمتميزة
- التحليل أو التبسيط: وهو تقسيم المسائل العويصة إلى بسائط يمكن حدسها مباشرة.
- التركيب: يتمثل في تنظيم هذه البسائط ونبدأ بالأسهل ونصعد بالدرجة نحو الدرجات الأكثر تعقيدا.
- المراجعة: وهي إحصاء النتائج بجمع المعارف التي ترتبط بالمسألة التي نريد حلها.
يرمي المنهج إذن إلى حسن توجيه العقل لكي يصل إلى اكتشاف الموضوعات والى التقدم في طريق العلم ويقتضي تحديد أفعال التفكير أولا وتبين المساعدات التي تقيه من الزلل بتهيئته لحل مسائل العلم وغزو الطبيعة. لكن إذا كان تجديد ديكارت قد ارتبط بالمنهج والثورة العلمية والقطع مع المنطق الأرسطي فهل يعني ذلك أنه تجاوز الميتافيزيقا القديمة؟

 
Free Hit Counter Search Engine Submission - AddMe