الأحد، 1 نوفمبر 2009

شخصية ومصير- طاووس بن كيسان


ميثم الجنابي



هو أبو عبد الرحمن الفارسي اليمني (ت-105 للهجرة). من التابعين. كان نموذجا للإخلاص والحرية. بحيث ارتقت شخصيته إلى مصاف المرجعية الروحية والعملية. وليس مصادفة أن يتحول حتى دفنه إلى مشكلة للسلطة! إذ أدى كثرة المشيعين إلى دعوة الحرس للقيام بتنظيم الدفن. وتنقل كتب التاريخ مشاركة الشخصيات الكبيرة في دفنه وانهماكهم الشديد من اجل إلقاء نظرة الوداع الأخيرة عليه.
توفي بمكة وهو يؤدي مراسيم الحج بعد أن بلغ من العمر أكثر من مائة عام! وترسم لنا كتب التاريخ صورة عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب واضعا السرير على كاهله، بحيث سقطت قلنسوته ومزق رداؤه من خلفه. وكان يلازم تابوته حتى بلغ القبر. وهي الحالة التي حدسها طاووس في حياته عندما قال مرة "حج الأبرار على الرحال". كما أنها الفكرة التي تغلغلت في مواقفه من كل شيء، بحيث وجدت تعبيرها في كلمته القائلة: "لا يجرد دين المرء إلا حفرته". ووجدت هذه الفكرة تعبيرها الخالص في الإخلاص للحق والحقيقة التي ميزت شخصيته على امتداد عقودها المديدة. بمعنى الإخلاص التام للفكرة والعمل بمعايير الروح الأخلاقي. وتنسب إلى ابن عباس عبارة عنه يقول فيها: "إني لأظن طاووسا من أهل الجنة". وتعكس هذه العبارة مدى التجانس الفعلي بين ظاهر وباطن الشخصية الفردية والاجتماعية والإسلامية فيه.
عاش حوالي مائة سنة متمثلا تجارب القرن التأسيسي الأول من تاريخ الإسلام. ومن الممكن رؤية الأبعاد الروحية لهذه التجارب في آراءه وأفكاره ومواقفه من السلطة، بوصفها جزء من تكامله الفردي بمعايير الحق والحقيقة والقيم المتسامية. فمما ينسب إليه قوله "ما من شيء يتكلم به ابن آدم إلا أحصي عليه، حتى أنينه في مرضه"، و"أن أكيس الكيس التقيّ، واعجز العجز الفجور"، و"حلوّ الدنيا مرّ الآخرة، ومرّ الدنيا حلوّ الآخرة"، و"لكلّ شيء غاية، وغاية المرء حسن خلقه". بل نراه يجمع كل ما تريد الأديان قوله بعبارة واحدة وهي "الخوف من الله فقط. وأن يحب للناس ما يحب لنفسه". بحيث نراه يبلور هذه الفكرة مرة بهيئة نصيحة وموقف في قوله لشخص "إياك أن ترفع حوائجك إلى من أغلق دونك بابه وجعل دونك حجابا. وعليك بطلب حوائجك إلى من بابه مفتوح إلى يوم القيامة، طلب منك أن تدعوه ووعدك الإجابة". فقد تبلورت هذه الفكرة في مجرى صيرورته الفردية بوصفه لسان الصدق والحق. وكشف عنها في موقفه من السلطة على امتداد حياته. إذ ينقل عنه كيف انه دخل مرة على محمد بن يوسف الثقفي (اخو الحجاج الثقفي) عندما أصبح واليا على اليمن. وكان طاووس برفقة وهب بن منبه. عندها اخذ طاووس يعظ محمد بن يوسف، الذي طلب بدوره من أحد غلمانه، أن يجلب طيلسانا ويضعه على كتف طاووس. لكن طاووس استمر في كلامه، متململا بحيث أدى إلى إسقاط الطيلسان ثم خرج. مما أثار حنق محمد بن يوسف الحجاج. وعندما قال له وهب بن منبه ألا كان من الممكن أخذه وبيعه والتصدق بثمنه للفقراء، أجابه: "أخشى أن يقول العلماء بعدي، نأخذ كما اخذ طاووس ثم لا يصنعون فيما أخذوه ما تقول".
وليس مصادفة أن تسعى السلطة بمختلف الوسائل لإغرائه وإغواءه، لكن دون جدوى. وهناك قصص طريفة، واقعية ومختلقة تكشف عن صلابته في المواقف وأخلاقه السامية. واحتفظت لنا كتب التاريخ والسير والنوادر ببعض الصور الممتعة والحوارات الجميلة بهذا الصدد. ومن بين أكثرها نموذجية بهذا الصدد ما جرى له مع الحجاج بن يوسف الثقفي وهشام بن عبد الملك. ففيما يتعلق بالحجاج تروي النادرة كيف أن الحجاج بن يوسف الثقفي، قد سمع مرة نبرة صوت تهز القلوب في تلبيته مناسك الحج. وعندما طلب محادثته، فان الحوار بينهما دار بالشكل التالي:
- ممن الرجل؟
- من المسلمين!
- لم أسألك عن هذا وإنما سألتك عن البلد؟
- من أهل اليمن!
- كيف تركت أميركم؟ (يعني أخاه)
- تركته عظيما جسيما لبّاسا ركّابا خرّاجا ولاّجا!
- ليس عن هذا سألتك، وإنما سألتك عن سيرته فيكم.
- تركته ظلوما غشوما مطيعا للمخلوق، عاصيا للخالق!
- ما حملك على أن تقول فيه ما قلته وأنت تعلم مكانه مني؟
- أتراه بمكانه منك اعزّ مني بمكاني من الله؟ وأنا وافد بيته ومصدق نبيه وقاضي دينه؟!
ثم قام وانصرف بدون إذن. والشيء نفسه بلغ ذروته في حواره مع هشام بن عبد الملك. إذ تروي الحكاية عن رغبة هشام بن عبد الملك اللقاء بفقيه يعضه أو اللقاء بطاووس. وعندما دخل عليه، فانه أول ما قام به هو خلع نعليه بطرف بساطه، ثم سلّم عليه بغير أن يدعوه بأمير المؤمنين، وخاطبه باسمه، وجلس قبل أن يؤذن له. فاستشاط هشام غضبا وخاطبه قائلا:
- ما حملك يا طاووس على ما صنعت؟!
- ما الذي صنعته؟!
- خلعت نعليك بحاشية بساطي، ولم تسلم علي بإمرة المؤمنين، وسميتني باسمي ولم تكنني، ثم جلست من غير إذني!
- أما خلع نعلي بحاشية بساطك فأنا اخلعها بين يدي رب العزة كل يوم خمس مرات فلا يعاتبني ولا يغضب. وأما قولك إني لم اسلم عليك بإمرة المؤمنين، فلأن المؤمنين ليسوا راضين بإمرتك، وقد خشيت أن أكون كذابا إن دعوتك بأمير المؤمنين. وأما ما أخذته علي من إني ناديتك باسمك ولم أكنك فإن الله نادى أنبياءه بأسمائهم، وكنى أعدائه فقال (تبت يدا أبي لهب). وأما قولك إني جلست قبل أن تأذن لي، فاني سمعت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب يقول: "إذا أردت أن تنظر إلى رجال من أهل النار فانظر إلى رجل جالس وحوله قوم قيام بين يديه"، فكرهت أن تكون ذلك الرجل الذي عد من أهل النار.
وهي نادرة لها أشباهها وصداها في حكايات أخرى. مثل ما جرى، على سبيل المثال بينه وبين عبد الملك عندما أراد رؤية فقيه يتحدث معه حول المناسك. وعندما دخل عليه قال طاووس:
- إن هذا المجلس يسألني الله عنه. يا أمير المؤمنين! إن صخرة كانت على شفير جبّ في جهنم هوت فيها سبعين خريفا حتى استقرت قرارها. أتدري لمن أعدها الله؟
- لا! ويلك لمن أعدها الله؟!
- لمن أشركه الله في حكمه فجار!
إن هذه النوادر وكثير غيرها تعكس شخصية طاووس وصلابة موقفه من السلطة، بمعنى السير والسلوك حسب قواعد الروح الأخلاقي. إذ ينقل عنه كيف أن ابنه قال له في إحدى المرات بضرورة الخروج بالسيف على السلطان. وعندما خرجا إلى الحج ونزلوا في بعض القرى وفيها عامل لمحمد بن يوسف (الثقفي) هو ابن نحيح احد أخبث عمالهم. وعندما علم بوجود طاووس جاءه إلى المسجد وجلس بين يديه على أن يكلمه فأبى طاووس. عندها قام ابنه وهو يقول له بان أباه لم يعرفه. لكن أبا فحيح أجابه، بأن معرفته به هو سرّ إعراضه عنه. لكن طاووس ظل صامتا. وعندما دخلا إلى المنزل قال لابنه:يا لكع! بينما أنت زعمت أن تخرج عليهم بسيفك لم تستطع أن تحبس عنهم لسانك"! وعندما جاء ابن سليمان بن عبد الملك وجلس إلى جانبه، فان طاووس تعمد ألا يراه. وعندما قيل له:
- جلس إليك ابن أمير المؤمنين فلم تلتفت إليه!
- أردت أن يعلم إن لله عبادا يزهدون فيما بين يديه.
وهي الحالة جسدها في مواقف عدة. فعندما قدم مكة أراد أميرها رؤيته. وحدثوه بأفضاله وشمائله ليحببوه إليه، لكن قال:
- ما لي إليه حاجة!
- إنا نخاف عليك!
- فما هو إذا كما تقولون!
بل نراه يرد على طلب عمر بن عبد العزيز موعظة منه بعبارة واحدة:"إذا أردت أن يكون عملك خيرا كله، فاستعمل أهل الخير. والسلام!". وليس مصادفة أن يكون سلوكه متسما بالمعارضة الخفية والساخنة من السلطة. بحيث يتخذ من الانعزال والانزواء في البيت أسلوبا للاحتجاج. وعندما قيل له بذلك أجاب:"حيف الأئمة وفساد الناس".
بعبارة أخرى، لقد وضع الفرد والجماعة والسلطة أمام مسئولية الفعل الحر. لهذا نراه يقول "من قال واتقى الله خير من صمت واتقى الله". كما نراه يؤكد موقفه هذا قائلا: "لم يجهد البلاء من لم يتول اليتامى أو يكون قاضيا بين الناس في أموالهم أو أمير على رقابهم". وهي الأماكن التي يجري فيها اختبار حقيقة المواقف وكمون الشخصية الفعلية. كما أنه المحك الذي تعرض عليه غاية الوجود الإنساني، التي حصرها طاووس في فكرة السمو الأخلاقي. إذ اعتبر "أن لكل شيء غاية، وغاية المرء حسن أخلاقه". من هنا فكرته عن أولوية إلزام المرء لنفسه أمام نفسه. فعندما قيل له ادع بدعوات لنا، أجابهم:"لا أجد لذلك خشية". وعندما قال له احد أصحابه بان يدعو له، أجابه "ادع لنفسك فانه يجيب المضطر إذا دعاه". وعندما قال رجل كان يمشي معه فسمع غرابا نعب:
- خير!
- أي خير عند هذا أو شر؟ لا تصحبني أو لا تمشي معي!
لقد جعل طاووس بن كيسان من كل الأمور الصغيرة والكبيرة اختبار للإرادة وسموها الأخلاقي. وليس مصادفة أن يفوت عليه الحج وهو الغيور عليه اشد الغيرة بسبب وقوفه على رفيق له مريض. لقد أراد تحرير نفسه من كل ما يمكنه أن يعيق تحرره الذاتي بوصفه التزاما أبديا أمام الحق. من هنا فكرته المتشددة مع النفس عندما قال "اللهم احرمني كثرة المال والولد، وارزقني الإيمان والعمل". وهو تحرر يمكننا العثور فيه على نغمة الوجود الحي والتلذذ بقيمة الإنسان التي أعطت للوجود سكينة التحرر من خوف العدم، كما نراها في عبارته: "لما خلقت النار طارت أفئدة الملائكة، فلما خلق آدم سكنت أفئدتهم". لقد أراد القول بان الإنسان هو مصدر الدفء الأبدي وانسجام الوجود حالما يكون حقيقيا، أي مصنوعا من لبنة الوجود الحق.
***


 
Free Hit Counter Search Engine Submission - AddMe