الأحد، 1 نوفمبر 2009

من تاريخ العنف والتعذيب في الإسلام – الحلقة الخامسة


عبدالله أبو شرخ



يتألف هذا القسم من الدراسة من قسمين يروي أحدهما قصص التعذيب في تاريخ الإسلام ومواقف الفئات المختلفة منه وآراء الفقهاء فيه، ويبحث القسم الثاني في المقتربات الدينية للتعذيب كاشفاً من خلالها عن دور الأديان في هذه الظاهرة الجنائية، وفي هذا القسم تركز الدراسة على البعد الديني للتعذيب من خلال استقصائها للبعد التعذيبي ي الأديان، لاسيما السماوية، ولو أنها لا تستبعد الأبعاد الأخرى كاقتراف مشترك لجميع المجتمعات والمعاشر الطبقية واللاطبقية.

مسح ترميزي للتعذيب في الإسلام

في الاصطلاح:
التعذيب اشتقاق حديث تقابله ثلاثة اصطلاحات قديمة: العذاب والبسط والمثلة، وقد استعمل الأولان في العصور الإسلامية بمعنى واحد يشير إلى إيلام الأسير أو المتهم على سبيل الانتقام أو الحصول منه على الاعتراف بشيء ما. والبسط حسب ما ورد في دارجة بغداد فيقال: بسطه بمعنى ضربه والمبسوط هو المضروب، خلافاً للمراد منه في بعض اللهجات العربية الأخرى حيث يعني المبسوط المستريح والمسرور، أما المثلة فهي تشويه الشخص حياً أو ميتاً.
يرد العذاب في القرآن عند وصف العقاب الآخروي الذي يتم بتعريض أهل النار لصنوف من العقوبات وصفت في القرآن والحديث. وما يعدده القرآن من هذه العقوبات ينطوي اصطلاحاً تحت طائلة التعذيب ومنه: التحريق، الشي بإنضاج الجلود، التجويع والتعطيش، سقي الصديد وهو القيح، وسقي المهل أي المعادن المذابة، وسيأتي الكلام عن هذه الأمور في القسم الثاني من الدراسة.

أغراض التعذيب وضحاياه:

استخدم التعذيب في العصور الإسلامية المختلفة لأغراض شتى سنقسمها لغرض الدراسة إلى قسمين عريضين:
1- التعذيب لأغراض سياسية.
2- التعذيب لأغراض أخرى.

التعذيب السياسي:

إن التعذيب لغرض سياسي هو الأسبق ظهوراً في الدولة، ويرتبط ذلك بظاهرة الصراع الطبقي الذي تتولى الدولة إدراته من خلال دورها الشرقي المباشر في صيرورة الإنتاج الاجتماعي، أو من خلال دورها الأوروبي في التعبير عن حاجات الطبقة السائدة في المجتمع. وإحدى الوسائل الأساسية في إدارة الصراع الطبقي هو القمع بأشكاله المختلفة، ويتوجه هذا القمع أساساً ضد الطبقات المنتجة مستهدفاً غرضين: إدامة الإنتاج، ومنع المنتجين من الوصول إلى السلطة، وبوجه عام، تلجأ إلى القمع السياسي الحكومات التي لا تملك قاعدة شعبية تكفيها لتثبيت حكمها. اعتماد وسائل التعذيب في هذه الحالة يخطط له كوسيلة معوضة عن عزلة الحكام بقصد توفير الرادع الذي يمنع المقت الشعبي من أن يتحول إلى تحرك يهدد سلطة الحاكم.
أول تطبيق لهذا النوع من التعذيب يرجع إلى خلافة معاوية بن أبي سفيان، وكان معاوية يملك قاعدة شعبية متينة في الشام ساعدته على أن يشتهر بالحلم المأثور عنه، لكن استقلاله بالسلطة بعد تنازل الحسن بن علي أثار في وجهه إشكالات عدة منها:
- موقف جمهور المسلمين الذين اعتادوا حكم الخلفاء الراشدين المقيد بالشرع والذي تجاوزه معاوية بعد ان أقام سلطته الفردية المطلقة.
- موقف العرب الذين لم يتعودوا الخضوع لسلطة لاسيما سلطة مستبدة.
- معارضة أهل العراق المتمسكين بالولاء لعلي بن أبي طالب وأولاده.

من هنا كان العراق مركز النشاط المعارض للحكم الأموي الجديد. ورغم أن معاوية اشترى ولاء العديد من الزعامات القبلية لهذا الإقليم الخطر فإنه لم يستطع السيطرة على المعارضة التي تحركت أحياناً خارج إطار القبيلة. وقد لجأ معاوية أول الأمر إلى المداراة فولى المغيرة بن شعبة أحد دهاة العرب حكم البلاد، لكن دهاء المغيرة لم يكن ناجعاً في تخفيف حدة المعارضة فعزل بوالٍ آخر من طراز مختلف هو زياد بن أبيه، وكان قد نجح في استدراج زياد مستفيداً من عقدة النسب، وجمع له ولايتي الكوفة والبصرة اللتين يتألف منهما إقليم العراق آنذاك. وقد أظهر زياد مواهب إرهابية نادرة في صدر الإسلام وصار قدوة لمن بعده من الولاة والحكام المسلمين، وهو مشرع لعدة أمور سارت عليها السلطة الإسلامية فيما بعد، مثل منع التجول والقتل الكيفي وكان يعرف عندهم بالقتل على التهمة أو على الظن، وقتل البريء لإخافة المذنب، وقد طبقه على فلاح خرج ليلاً للبحث عن بقرته الضائعة خلافاً لقراره بمنع التجول في الليل، وقتل النساء، وهو غير مرغوب فيه وغير مألوف عند العرب، ويخبرنا الطبري أن وكيل زياد على البصرة وهو الصحابي سمرة بن جندب أعدم ثمانية آلاف من أهلها تطبيقاً لمبدأ زياد في القتل على التهمة. ويروي السمعاني في الأنساب أن زياد أمر بقطع لسان رشيد الهجري لأنه تكلم حول القمع، والحكم بقطع اللسان تطوير مبكر لفن التعذيب يدل على السرعة التي تقدمت بها دولة الإسلام في طريق تكاملها كمؤسسة قمعية.
الحجاج – فيما بعد – نسخة متطرفة من زياد، فعلى يده أصبح الإرهاب حالة يومية شاملة يعيشها الناس على اختلاف فئاتهم ولمختلف الأسباب من سياسية وعادية. وقد أنشأ سجن الديماس المشهور، ويقال انه كان بلا سقوف، وقدر عدد من كان فيه عند وفاته بعشرة آلاف من الرجال والنساء. وكان التعذيب يطبق على الأسرى والمعتقلين تبعاً لحالاتهم، لكن الشكل السائد لإرهاب الحجاج هو قطع الرأس بالسيف وأضاف الحجاج الصلب بعد القتل للأشخاص الذين لهم وزن خاص في حركة المعارضة وكان من ضحايا هذا الإجراء ميثم الثمار من أصحاب علي بن أبي طالب المقربين.
استمرت سياسة التعذيب لأجل الإرهاب بعد استراحة قصيرة في خلافة عمر بن عبد العزيز، لتأخذ مدى جديداً على يد هشام بن عبد الملك في الشام وولاته في الأقاليم. طبق هشام بنفسه طريقة القتل بقطع الأيدي والأرجل في بعض الحالات المشددة ومنها إعدام غيلان بن مسلم الدمشقي بتهمة القول بالقدر! وبنفس التهمة أعدم خالد القسري عامله على العراق الجعد بن درهم وقد نفذ الإعدام ذبحاً. وكان خالد القسري والياً على الحجاز قبل ولايته على العراق وأصدر حينذاك تحذيراً لمن يطعن في في الخليفة أن يصلبه في الحرم، أي في داخل البيت الحرام، ومن المعروف أن الشريعة حرمت قتل الحيوان في هذا المسجد واختلف الفقهاء فيما إذا كان يجوز قتل الأفاعي والعقارب فيه.
أما شقيه أسد القسري، حاكم خراسان، فقد طبق طريقة قطع الأيدي والأرجل والصلب على أتباع الحارث بن سريج الثائر على الأمويين، ولدينا رواية في الطبري أن الإحراق استخدم في خلافة هشام إعدام داعية من غلاة الشيعة وهو المغيرة بن سعيد العجلي.

كانت خلافة هشام صحوة الموت للأمويين، وقد ورثه خلفاء قصار العمر وسط اضطرابات متلاحقة انتهت بالثورة العباسية، وبويع للسفاح كأول خليفة عباسي. وقد واصل العباسيون تراث أسلافهم الأمويين وأضافوا إليه. ويذكر الطبري أن عدد من أعدمهم أبو مسلم الخرساني في المشرق بلغ ستمائة ألف بين رجل وامرأة وغلام. وكان إبراهيم الإمام، زعيم الدعوة، قد كتب إليه بقتل أي غلام بلغ خمسة أشبار إذا شك في ولائه.

واجه العباسيون بدءاً من خليفتهم الثاني أبو جعفر المنصور، معارضة متزايدة من نفس الجماعات التي عارضت الأمويين: الشيعة الإمامية والزيدية، والخوارج والمعتزلة، ومن فرق ظهرت فيما بعد ضمت الإسماعيلية وفروعها المختلفة، والخرّمية والزنج، فضلاً عن المنافسين للخلفاء والخارجين عليهم طمعاً في السلطان، واتبعوا لقمعها نفس الأساليب ولكن بعد تطويرها لمضاهاة التصاعد في أشكال المعارضة المسلحة. لدينا روايات لأبو الفرج الأصفهاني تفيد بأن المنصور قتل بعض العلويين بدفنهم أحياء، وتطور القتل بالتقطيع إلى زيادة في عدد الأوصال المقطعة، فبعد أن كانت الأيدي والأرجل تقطع دفعة واحدة صارت تقطع إلى عدة أوصال ويضم إليها أجزاء من الجسم، وقد أبلغها الرشيد إلى أربع عشرة قطعة، مع تطوير في الوسيلة تضمنت استعمال مدية غير حادة بدلاً من السيف، وبلغ القتل تحت التعذيب أشنع حالاته بعد الحقبة العباسية الأولى.

كان الأمراء المتغلبون في المشرق نماذج متممة للخليفة العباسي في التعامل مع خصومهم السياسيين وهو ما نجده أيضاً في الأندلس لاسيما إبان ملوك الطوائف، ومن الجدير بالذكر هنا أن التعذيب السياسي ظل مقتصراً على الصراع الداخلي دون العلاقات الخارجية، وكان هناك تمييز ملحوظ في المعاملة بين أسرى الحرب من الكفار وأسرى الحرب من المسلمين. كان الأسير الكافر يسترق أو يفادى أو يقتل بالوسائل الاعتيادية تبعاً لأحكام الشريعة في أسرى الحرب ولم تجر العادة على قتله تحت التعذيب.

يتبع

المصدر: هادي، العلوي: من تاريخ التعذيب في اٍلاسلام، دار المدى، دمشق، ط4، 2004.

 
 
Free Hit Counter Search Engine Submission - AddMe