الأحد، 1 نوفمبر 2009

من تاريخ العنف والتعذيب في الإسلام – الحلقة الثالثة


عبدالله أبو شرخ



يواصل هادي العلوي استعراضه لحوادث الاغتيال السياسي في العصر الأموي فيقول: ( مات في أيام معاوية جماعة كثيرة من أكابر الناس والأمراء المسلمين بالسم )، وتلقي هذه المعلومة الهامة لابن أبي صبيعة بعض الضوء على الوفيات المشبوهة لأمثال سعد بن أبي وقاص. ، رغم أن المؤرخين لم يعنوا باستقصائها في ترجمتهم لهذه الشخصيات عدا الحالات المشهورة مثل حالة الحسن بن علي.


اغتيال الحسن بن علي:

ذكرت الروايات التي تحدثت عن موت الحسن أنه سقي السم مرات عديدة فلم يمت، مما ألجأ فيما يبدو إلى استعمال وصفة أشد مفعولاً هي التي قتلته.
بعد موت الحسن بدأ معاوية مساعيه العلنية لمبايعة يزيد ولياً لعهده، وقد نظر القدماء إلى هذا الحدث على أنه من الأحداث الفاصلة في تحول الخلافة إلى ملكية. موت الحسن أفسح المجال لمبايعة يزيد.

اغتيال عبد الرحمن بن خالد بن الوليد:

كان عبد الرحمن قائداً عسكرياً مرموقاً كوالده، وقد انضم على معاوية في صراعه ضد علي بن أبي طالب. وبعد أن استتب الأمر لمعاوية عينه لقيادة جبهة الفتوحات في آسيا الصغرى ( بلاد الروم ) التي بدأ المسلمون يقضمونها بالتدريج بعد إخراج البيزنطيين من بلاد الشام. وقد أحرز عبد الرحمن نجاحات كبيرة في حروبه هناك جلبت له شهرة واسعة بين أهل الشام أضيفت إلى رصيده الموروث من والده. ويذكر الطبري أن عبد الرحمن انصرف عام 46 من بلاد الروم إلى حمص وكان قد عظم شأنه بالشام ومال إليه أهلها حتى خافه معاوية، فأمر ابن آثال ( طبيب معاوية الذي اشتهر بتحضير السم ) أن يحتل في قتله، فلما وصل عبد الرحمن إلى حمص دس إليه ابن آثال شربة عسل فمات منها، وكافأ معاوية ابن آثال بإعفائه من الضرائب طيلة حياته وتعيينه والياً على خراج ( ضرائب ) حمص.

اغتيال عمر بن عبد العزيز:

تولى عمر بن عبد العزيز الخلافة بين عامي 99 و 101 هـ ومجمل مدته سنتين ونصف، وكانت خلافته بمثابة انقلاب ( أبيض ) ضد السياسة الأموية، نفذ في أثنائه إجراءات كثيرة وجذرية استهدف بعضها الاتجاه العام للخلافة السائدة وبعضها الآخر المصالح المباشرة لأركان الأسرة.
توفي عمر بن عبد العزيز قبل أن يكمل الأربعين من عمره، وكان لا يزال شاباً لم يستهلك طاقاته البدنية بالإسراف الذي اعتاده الخلفاء في الملذات الحسية. ذكر ابن كثير أنه مات ( بالسل ) في رواية و ( بالسم ) في رواية ثانية. رواية الطبري لها قيمة كبرى في إثبات الاحتمال الثاني، لأن هذا المؤرخ الكبير قلما يتبنى خبراً مضاداً للأمويين ما لم يتثبت منه. قال الكتبي في ( الوفيات ) ما نصه: ( سقاه بنو أبيه السم لما شدد عليهم وانتزع كثيراً مما في أيديهم، بينما ذكر أبو الفدا في ترجمته لعمر في مختصره أن موته بالسم معروف لدى أكثر الناس.

وفيات مشبوهة:

ذكرنا عند الكلام عن اغتيال الحسن بن علي ما أورده أبو الفرج عن موت سعد بن أبي وقاص مسموماً وهو خبر لم يشتهر بين المؤرخين فسجلناه على ملاك الوفيات المشبوهة. وهناك وفيات أخرى حصلت في ظروف غامضة أو جاءت فيها روايات اغتيال غير مؤكدة يمكن تصنيفها في نفس العنوان، ومنها:

وفاة معاوية بن يزيد بن معاوية:

شاب تولى الخلافة بعد والده، ويتردد المؤرخون بين وصفه بالضعف ووصفه بالورع وعدم الرضا عن سياسة أبيه وجده. وقد تنازل عن الخلافة بعد أربعين يوماً أو ثلاثة أشهر واعتكف في منزله. لكنه لم يعش طويلاً ومات في نفس السنة. تقول بعض الروايات أنه مات بالطاعون وبعضها أنه مات مسموماً.

وفاة مروان بن الحكم:

تولى مروان الخلافة بعد معاوية بن يزيد مسجلاً بذلك انتقال السلطة من آل أبي سفيان إلى آله. وقد توفى بعد تسعة أشهر من استخلافه. وكان قد تزوج أرملة يزيد بن معاوية وهي أم ابنه الثاني خالد الذي طالب بالخلافة ولم يحصل عليها لصغر سنه رغم تنازل أخيه عنها. يقال أن مروان تزوج أمه بقصد إذلاله، وأنه شتمه مرة وقال له: يا ابن الرطبة ! فأبلغ خالد ذلك إلى أمه ولامها على الزواج من مروان، فحميت ووعدته بالانتقام منه. وفي الليل انتهزت نوم مروان وتواطأت مع جواريها فألقين عليه مخدة على عنقه وقعدن عليها حتى اختنق، وهذه أقرب للحكاية منها للرواية. على أن موت مروان قد حامت حوله الشكوك رغم أنه قد قارب السبعين، وقد أورد اليعقوبي رواية تفيد أن أم خالد سقته سم في لبن، وهو أمر غير مستبعد في بيئات القصور. بعض المصادر ذكرت أنه مات بالطاعون، ولربما يكون ذلك، لكننا لا نملك دليلاً على حصول موجة طاعون بالشام سنة وفاته.

وفاة عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز:

هذا الحادث هو أكثر الحوادث مدعاة للريبة، فقد كان عبد الملك غلاماً في السابعة عشرة حين مات فجأة في خلافة والده وكان هذا الغلام أعجوبة في وعيه الديني والسياسي، وقد وقف إلى جانب والده في الإصلاحات المعادية لأسرته، وقد تبناه الخوارج لهذا السبب. هناك ما يدل على أن تجربة عمر بن عبد العزيز قد أثارت هلعاً لدى الأمويين من احتمال تكرارها. وهو احتمال يقويه مثل هذا الوريث الخطر. ويؤخذ من رواية لابن الجوزي أن الأمويين كانوا يتخوفون من أن يكون عبد الملك بديلاً عن يزيد في ولاية العهد، وفي مثل هذه الحالة يكون من المعقول جداً أن يفكروا في تصفية الولد قبل الوالد. الشك القوي يبقى قائماً حين نعلم أن الولد لم يمت وحده، فقد لحقه عمه المسمى سهل بن عبد العزيز وكان على نهج أخيه ومن أعوانه الأشداء، ثم لحق بالاثنين مولى عمر المسمى مزاحم وهو بدوره من أخلص أعوانه. ويقول ابن عبد الحكم إن عمر صار بعد موت الثلاثة يتمنى الموت ويدعو الله لأجل ذلك، وإنه لسؤال صعب أن يكون القضاء والقدر قد مالأ بني أمية إلى هذا الحد فصفى لهم أربعة خصوم ( كلهم شبان ! ) في أقل من عام!

وفاة يزيد الناقص:

هو يزيد بن الوليد بن عبد الملك، كان يعارض سياسة أسرته، وقد استقطبه القدرية المناهضون لهذه الأسرة فانضم إلى جبهتهم ثم قاد تمرداً مسلحاً في ضاحية المزة، من ضواحي دمشق، وزحف على دمشق فاحتلها، وقضى على حكم الوليد، ابن عمه، الذي اشتهر بمجونه وطغيانه. وألقى يزيد عن مبايعته بالخلافة خطاباً إصلاحياً يشبه ما تضمنته إجراءات عمر بن عبد العزيز من قبل. مات يزيد بعد ستة أشهر من استخلافه وكان عمره أربعين، وتقول بعض الروايات أنه مات بالطاعون وأخرى بأنه مات مسموماً، وليس هناك ما يدل على ان طاعوناً قد ضرب الشام وقت وفاته، مما يعزز الشك القوي بأنه مات مسموماً لنفس الأسباب التي قضى من أجلها عمر بن عبد العزيز صاحب السياسة الإصلاحية.

علي بن الحسين وابنه محمد باقر:

حسب المأثور الشيعي ( الاثنى عشري ) أن الأول مات مسموماً بتدبير من الوليد بن عبد الملك، والثاني بتدبير إبراهيم بن الوليد.
قبل أن ننتقل إلى الكلام عن الاغتيالات التي قامت بها المعارضة، نود التنويه بأن وسيلة الاغتيال التي استعملتها السلطة في الخلافة الأموية قد اقتصرت على السم، ويرجع هذا إلى أن الشخصيات التي طالتها الاغتيالات كانت لها مكانة في الأسرة الحاكمة أو في المجتمع تمنع من تصفيتها علناً. وقد وفر السم الذي كان يحضر بطريقة متقنة غطاء للخطط ساعد كثيراً على إخفائها، مما أدى بدوره إلى البلبلة والاختلاف الذي نجده حينما نجوس خلال المصادر للتعرف على مصير اولئك الناس.

الاغتيال من جانب المعارضة:

كانت المعارضة الإسلامية للأمويين تتألف من الشيعة والخوارج والقدرية وجمهور الفقهاء والمتكلمين – مثقفي ذلك الوقت. وقد سلكت لمعارضة بجميع أطرافيها سبيل العمل المسلح وكان الأسلوب الغالب هو أسلوب الانتفاضات المسلحة ومن أبرزها انتفاضة الحسين في كربلاء، والمختار في الكوفة، وزيد بن علي في الكوفة، وولده يحيى في جرجان، وابن الأشعث في العراق والمشرق والقدرية في الشام والحارث بن سريج في خراسان.
وقد تخصص الخوارج دون غيرهم بأسلوب قريب من حرب العصابات يعتمد على القواعد المتحركة والهجمات الخاطفة التي تقوم بها مجموعات صغيرة. وبحكم اتباعهم هذا الأسلوب كان من المتوقع للخوارج أن يتبعوا تكتيك الاغتيال الذي يعتمد على الضربات المباغتة والانسحاب السريع، وقد انفرد الخوارج بهذا التكتيك. الملاحظ أن الخوارج تجنبوا الاغتيال بالسم واقتصروا على الاغتيال بالسلاح، مكرسين بذلك نهج القوى المعارضة التي تقاتل من اجل قضية تراها عادلة ضد سلطة ظالمة، حيث تغلب عليهم سيكولوجية الشجاعة المقترنة بالعنف الثوري على سيكولوجية الغدر القمعي، بما يرسم فارقا مهماً بين اغتيالات الأمويين واغتيالات الخوارج.
تميزت خطط الاغتيال الخارجية بدقة التكتيك ونفذت بروح فدائية عالية، وقد جهت حصراً ضد أعوان السلطة دون أطراف المعارضة الأخرى التي كان الخوارج على خلاف شديد معها.
كان المستهدف بالاغتيال من بين أعوان السلطة من قام منهم بأعمال قمع ضد الفرقة، فاتخذت الاغتيالات شكل الرد الفوري، غالباً بقصد الانتقام والتأديب.

اغتيال جلاد:

أسر عبيد الله بن زياد رجلاً من الخوارج، فأمر بإخراجه إلى أحد ميادين المدينة لإعدامه علناً. لكن أفراد الشرطة تحاموا قتله لأنه كما تذكر الرواية كان متقشفاً عليه اثر العبادة، وفي الحقيقة لخوفهم من الانتقام على يد أصحابه. فلم يجد ابن زياد من يقبل هذه المهمة غير رجل يدعى المثلم بن مشرح البابلي الذي يبدو أنه جلاد محترف شديد السطوة.
وضع الخوارج خطة متقنة لاغتياله، فقد عرفوا أنه مولع بالنوق غزيرة اللبن، فتنكر شاب من الخوارج بقميص مزعفر مما يلبسه المتنعمون، ثم لقيه بالبصرة وهو يسأل عن النوق، فقال له إن كنت راغباً في ذلك فعندي ما يغنيك. سار المثلم على فرسه وسار الشاب أمامه راجلاً حتى أدخله منزل وفي الداخل انقض عليه اثنان من فرسان الخوارج فأردوه قتيلاً.

اغتيال قائد عسكري:

كان أبو بلال بن عمرو بن مرداس من وجوه الخوارج بالكوفة، وكان ممن لا يشاركون في العمل المسلح بل بأنشطة سرية ضد الولاة. ثم اكتشف ان هؤلاء لا يجدي معهم سوى السلاح، فخرج من الكوفة مع جمع من الخوارج وأعلن العصيان على حاكمها عبيد الله بن زياد. فأرسل إليه الأخير جيشاً بقيادة رجل يدعى عبّاد بن أخضر، وكان أتباع مرداس قليلين فاشتبكوا مع الجيش في معركة غير متكافئة انتهت بقتلهم جميعاً بما فيهم مرداس.
حصل عبّاد بن أخضر على مكافآت جمة من سيده لقاء هذه الخدمة، وصارت له وجاهة في البلد، ويبدو أن الخوارج تريثوا حتى يمضي وقت كافي لنسيان قضية مرداس، وبعدها دبروا خطتهم.
في أحد أيام الجمع كان عبّاد في طريقه إلى قصر الإمارة او إلى الجامع للصلاة، وكان يركب بغلة وقد أردف معه ابناً له، فتقدم له رجل ضمن جماعة واستوقفه ليستفتيه فوقف. وبعد مناقشة قصيرة انقضوا عليه بسيوفهم وأجهزوا عليه، ولم يقتلوا ابنه.

اغتيال قائد آخر:

قام الخوارج بآخر وأكبر تحركاتهم ضد الأمويين في خلافة مروان آخر خلفائهم. وقد أخذ هذا التحرك شكل انتفاضة واسعة شملت اليمن وحضرموت وامتدت إلى الحجاز، وكانت بقيادة الخارجي الملقب طالب الحق وصاحبه أبو حمزة. فعين مروان لإخماد الانتفاضة قائداً يكنى أبو عطية وأرسله على رأس جيش كثيف فاحتل مكة والمدينة وقضى على الخوارج وقتل أبو حمزة في المعارك واستسلم من بقي منهم وعددهم أربعمائة مقاتل فأعدمهم أبو عطية جميعاً. ثم اتجه المذكور إلى اليمن فسحق حركة أبو طالب وأباد من معه من الخوارج، وأقام بعد الفراغ من مهمته في حضرموت، لكنهلم يلبث هناك طويلاً، ففي موسم الحج من نفس السنة استدعاه مروان لينوب عنه في إمرة الحج تكريماً له على خدماته. فخرج مسرعاً ومعه تسعة عشر فارساً، وكان الخوارج يترصدوه في هذه الأثناء، فنصبوا له كميناً في طريقه إلى مكة وخرجوا عليه وقتلوه مع حراسه التسعة عشر.

استمر الخوارج في استخدام هذا التكتيك في الخلافة العباسية ولكن بوتيرة أقل، ومن ضرباتهم المشهودة آنذاك اغتيالهم معن بن زائدة أحد كبار القواد المخضرمين، وسنصف كيف حدث ذلك في الحلقة القادمة التي سنتناول فيها اغتيالات العصر العباسي.

================================
المصدر: هادي العلوي: من تاريخ التعذيب في الإسلام، دار المدى، دمشق، ط3/2004.

يتبع
 
 
Free Hit Counter Search Engine Submission - AddMe