الأحد، 1 نوفمبر 2009

من تاريخ العنف والتعذيب في الإسلام – الحلقة الثانية




وقعت في خلافة الراشدين أربعة حوادث اغتيال طالت خليفتين وصحابياً كبيراً وقائداً شيعياً. وقد جاءت هذه الحوادث في مجرى الصراع السياسي الذي انفجر بين المسلمين لحظة وفاة النبي، واستمر متفاقماً حتى تأوّج بالحرب الأهلية التي بدأت بالانتفاض المسلح ضد عثمان ثم تواصلت في خلافة علي لتنتهي بانهيار دولة المدينة وتأسيس امبراطورية الأمويين.
نفذت ثلاثة من الاغتيالات بأيدي إسلامية وواحدة بيد أجنبية وجرت ثلاثة منها كعملية اغتيال مكشوفة وواحدة منها سراً، لكن إحدى العمليات، هي التي طالت الخليفة الثاني، اشتملت على عنصر سري يكمن خلف التنفيذ المكشوف للاغتيال.

اغتيال سعد بن عبادة

هو زعيم الخزرج وأحد النقباء في بيعة العقبة التي مهدت لهجرة محمد إلى يثرب. عرف في الجاهلية بسمو أخلاقه وتعدد كفاءاته فلقب بالكامل، وينقل ابن عساكر عن الواقدي أن النبي قال بسببه ( خيار الناس في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا في الدين – تهذيب تاريخ دمشق الكبير، بيروت 1979، ج6/90). وكان هو قائد الأنصار في حروب الإسلام على عهد النبي وسلك حينذاك سلوك رجل متعفف عن الغنائم، كما كان يتولى حماية المدينة أثناء الحروب التي كان يقودها النبي بنفسه.
من هذا الموقع رشح سعد نفسه للخلافة يوم السقيفة لكنه لم يحصل على إجماع الأوس مما رجح عليه كفة أبو بكر الذي أيدته قريش ومعظم الأوس. على أن سعد لم يقر بالهزيمة، وأصر على عدم الإقرار باستخلاف أبو بكر، وبسبب ذلك اختار العزلة فلم يشارك في نشاطات الخلافة في الداخل ولا في الفتوحات، وكان لا يحضر حتى الصلاة في المسجد وإنما يصلي في بيته. ولما فتحت بلاد الشام هاجر إليها وأقام في حوران. ثم مات في ظروف غامضة سنة 14 للهجرة، وقد وردت في موته أخبار نستعرضها فيما يلي:
رواية ابن عساكر عن النضر بن شميل وهي موجزة، تذكر بأنه بال قائماً فمات، فسُمع قائل يقول: نحن قتلنا سيد الخزرج سعد بن عبادة *** ورميناه بسهمين فلم نخط فؤاده.
ثلاث روايات أوردها صاحب العقد الفريد ( ط القاهرة 1962، ج4/260 )، إحداها عن هشام الكلبي وتفيد أن عمر بن الخطاب بعث رجلاً إلى الشام فقال له ادعه للبيعة واحمل عليه بكل ما قدرت فإن أبى فاستعن الله عليه. فدعاه إلى البيعة فقال له: لا أبايع، قال: أفخارج أنت مما دخلت فيه الأمة ؟ قال: أما من البيعة فأنا خارج، فرماه بسهم فقتله.
الثانية عن ميمون بن مهران وتفيد أن سعد بن عبادة رمي في حمام بالشام فقتل، ولا تزيد عليه شيئاً. الثالثة عن ابن سيرين وفيها أن سعد بن عبادة رمي بسهم فمات. في النهاية يرجح الهادي العلوي أن مقتل سعد بن عبادة قد تم بتدبير من عمر بن الخطاب بسبب رفض سعد مبايعة خلافة قريش وقد خشي من نفوذه بين المسلمين وبخاصة الأنصار.


اغتيال عمر بن الخطاب:

يفتح الهادي العلوي آفاقاً جديدة في قضية مصرع الخليفة عمر ويحاول أن يورد صراعاً خفياً دارت رحاه بين الارستقراطية الجديدة ( وهم طبقة الفاتحين الأوائل والبدريين ) الذين أثروا من أموال المنهوبات التي فاضت بها عليهم الأمصار الجديدة. اغتيل عمر بن الخطاب على يد فيروز الديلمي الملقب أبو لؤلؤة، وقد جرى اغتياله وهو يؤدي صلاة الصبح، وكانت العملية سهلة لم تتطلب خطة معقدة كالتي اضطر إليها المسلمون لتنفيذ الاغتيالات التي أمر بها النبي. وسبب هذا أن عمر كان بلا حرس، لأنه شأن صاحبيه أبو بكر وعلي، لم يرتاح لمظاهر السلطة ويعتبرها من أعمال كسرى وقيصر طغاة ذلك العصر.
كنت في بحث قديم بعنوان " القصة الحقيقية لمقتل عمر بن الخطاب " قد توصلت إلى أن الرواية الرسمية في مناهج الطلبة لا تلقي أي من الضوء على السجال الذي وقع بين عمر بن الخطاب وأبو لؤلؤة المجوسي حول الخراج ( الضريبة في ذلك الوقت )، لكن روايات المصادر تؤكد أن بواعث الاغتيال هي الانتقام لهزيمة الفرس وانهيار امبراطوريتهم. يذكر أن أبو لؤلؤة كان يقول: ( أكل عمر كبدي )، وكان إذا رأى السبايا من بني قومه في المدينة يمسح على رؤوس الأطفال ويبكي.
يتساءل بعد ذلك الهادي حول مسألة اغتيال عمر فيقول: هل كان اغتيال عمر مجرد رد فعل فارسي ؟ لقد أشبع الغاضبون الفرس نزوة الثأر بمقتل الخليفة دون أن ينتهي بهم ذلك إلى استرجاع امبراطوريتهم، بل ولقد حدث هذا في وقت أخذ فيه الفرس يدخلون في الإسلام أفواجاً ويتحولون هم أنفسهم إلى فاتحين ينشرون الإسلام فيما وراء بلادهم التي أصبحت مركزاً للفتوحات في الشرق. ( ابن أخ قاتل عمر المسمى عبدالله بن ذكوان أصبح فقيهاً ومحدثاً مرموقاً وقد ولاه عمر بن عبد العزيز لاحقاً بيت مال الكوفة – ابن عساكر 7 / 385-387 ).
لقد تنبه كتاب معاصرون لهذه المسألة وأثاروا حولها شكوكاً جدية، وفي الحق فإن مصادر التاريخ الإسلامي لم تترك هذا الحدث دون أن تضع بنفسها علامات استفهام هي ما يفتح عيوننا على ملابساته، وسنتابع بعض الملاحظات الهادية فيما يلي:
كانت قريش هي الارستقراطية الأغنى والأكثر نفوذاً في بلاد العرب، ومع أنها حاربت الإسلام في البداية فسرعان ما انضوت تحت لوائه لكي تتصدر العرب المسلمين كما تصدرت الجاهليين، وقد أصبحت قريش بعد الإسلام أغنى وأقوى منها في الجاهلية. لقد ساهم عمر بنفسه في تكوين طبقة ارستقراطية جديدة ترافق نموها مع الفتوحات وازدهرت أرصدتها بالعطاءات، وقد اتبع عمر في سياساته تلك تفضيل المسلمين الأوائل – ومعظمهم من قريش – من حيث المقادير التي تدفع لهم، وقد تكدست لديهم أموالاً طائلة أضيفت لدى أكثرهم إلى ثروته السابقة من التجارة. لقد استند عمر بهذه السياسة إلى منطق حزبي عبر عنه بقوله ( لا أجعل من قاتل رسول الله كمن قاتل معه )، ولا شك بأن تلك السياسة قد حرمت المسلمين الذي أسلموا متأخرين بعد فتح مكة.
غير أن عمر لم يكن على وفاق تام مع هذه الفئة بسبب أصول اجتماعية تتعلق بحياة التقشف التي كان يحياها عمر في قبيلته غير الثرية ( بنو عدي )، ويقول أبو حيان التوحيدي عن عمر نفسه انه كان يشتغل دلاّلاً في السوق وهي حرفة غير محترمة عند العرب حتى الوقت الحاضر ( البصائر والذخائر، الإمتاع والمؤانسة ).
المهم أن معايير عمر الحزبية والدينية لم تمنعه من الوقوع في تناقض مع أولئك الناس الذين فضلهم بالعطاء، ولدينا روايات ( مستجدة ) لدى عمر بشأن الأموال تمس علاقته بهذه الفئة على نحو خطير، وهي على النحو التالي:
الأولى في كتاب الخراج لأبو يسوف وفيها يقول عمر: ( لئن عشت إلى هذه الليلة لألحقن آخر الناس بأولهم حتى يكونوا في العطاء سواء ) وقد قال ذلك في عامه الأخير.
الثانية لابن الأثير وفيها يقول عمر: ( إن رسول الله قدر فوضع الفضول مواضعها وتبلغ بالتزجية، وإني فوالله لأضعن الفضول مواضعها ولاتبلغن بالتزجية ) – ( الفضول: الأموال الفاضلة عن الحاجة، التبلغ بالتزجية: كناية عن عيش الكفاف )، ويؤخذ من ظاهر العبارة أن عمر ينوي التنازل عن أمواله والاحتفاظ فقط بما يكفي للضروريات.
الثالثة في تاريخ الطبري وفيها يقول: ( لو استقبلت من أمري ما استدبرت لأخذت فضول أموال الأغنياء فقسمتها بين فقراء المهاجرين )، ويفهم من قوله ( لو استقبلت ما استدبرت ) أنه صرح به في عامه الأخير.
إن الروايات الثلاثة متكاملة في محتوياتها، ومع ورودها عن ثلاثة رواة متفرقين لا يصدق عليهم التواطؤ على تعزيز الثقة بصحتها، وهي تجمع بوضوح على نوايا عمر المستجدة بشأن أموال الطبقة الارستقراطية القديمة الجديدة التي ساهم عمر في نموها كما أشرنا سابقاً. كل ذلك يشير على صراع خفي بين هؤلاء القوم وبين الخليفة، ولنترك للطبري تفسير ذلك:
عن الحسن البصري: ( كان عمر قد حجر على أعلام قريش من المهاجرين الخروج ( من المدينة إلى الأمصار ) إلا بإذن وأجل ( سفر مؤقت للضرورة )).
عن الشعبي: ( لم يمت عمر حتى ملّته قريش ) وكان قد حصرهم في المدينة وقال إن أخوف ما أخاف على هذه الأمة انتشاركم في البلاد. ويضيف الشعبي أن بعضهم كان يستأذنه في الخروج إلى الجهاد فيقول له قد جاهدت مع النبي وهذا يكفيك وخير لك من الجهاد اليوم أن
لا ترى الدنيا ولا تراك. وفي نفس الرواية يؤكد الشعبي أن عثمان رفع الحجر عن قريش فتنقلوا في البلاد فكان أحب إليهم من عمر.
موجز القول أن انتقال عمر إلى موقع صدامي فيما يتعلق بتوزيع العطاءات قد خلق صراعاً سياسياً لا يستبعد معه لجوء نفر من تلك الفئة للعمل على التخلص من عمر.
يخبرنا الطبري أن عبيد الله بن عمر قال مهدداً بعد مقتل والده: ( والله لقتلن رجالاً ممن شرك ( شارك ) في دم أبي ). وكان عبيد الله قد قتل الهرمزان ورجلاً مسيحياً اسمه جفينة اتهمهما بالتواطؤ على قتل والده، ثم قتل ابنة أبو لؤلؤة وبقي شاهراً سيفه، ولم يخلص منه السيف سوى سعد بن أبي وقاص وهو حدث ستكون له أهميته بعد قليل.
ويبدو أن عمر لم يكن بعيداً عن التفكير في احتمال كهذا، لأنه كان يسأل الداخلين عليه من الصحابة وهو يحتضر: ( أعن ملأ منكم كان هذا ؟ ) فيقولون: ما عاذ الله.
بوسعنا عند هذه النقطة الافتراض أن الجهة التي كان يهمها الخلاص من عمر قد جسدت إرادتها من خلال الغضب الفارسي على هادم الامبراطورية الساسانية. ومما له مغزاه أن أبو لؤلؤة كان عبداً للمغيرة بن شعبة الثقفي، وهو شخصية تآمرية قديرة كانت له وشائج صميمة مع الارستقراطية الجديدة.
من المهم الإشارة إلى صلة المسحيي جفينة الذي مر ذكره بسعد بن أبي وقاص وكون الأخير هو الذي جاء به من الكوفة إلى المدينة حيث كان قد غادر الكوفة معزولاً بأمر من عمر ! ومن الجدير بالذكر أن جفينة كان على صلة بالهرمزان وأبو لؤلؤة وهو ما حدا بعبيد الله بن عمر إلى قتلهما معاً. من المفيد أيضاً أن نذكر أن عمر كان على خلاف مع مع سعد بسبب سلوكه عند ولايته للكوفة، مما حمله على عزله بعد أن أرسل مبعوثاً وأمره بإحراق باب قصر الإمارة الذي يقيم فيه سعد، وكان عمر يمنع الولاة من اتخاذ أبواب حتى لا ينحجبوا عن الناس.
تتجمع من مجمل ما روايناه حتى الآن خيوط مؤامرة خفية قد تكون حيكت من خارج المجموعة الفارسية التي اتهمت بالتواطؤ مع القاتل، ولعل عبيد الله كان مطلعاً، أو على الأقل متحسساً بملابسات من هذا القبيل حين هدد بقتل آخرين قال إنهم اشتركوا في الجريمة، وقد حال إسراع سعد بن أبي وقاص في القبض عليه دون تنفيذ تهديداته.
يؤكد الهادي العلوي في نهاية استعراضة لروايات وأحداث مقتل الخليفة عمر، أننا نملك الحق في القول أن مقتل عمر قد استجاب لمصالح اجتماعية إن لم تكن هي التي دبرت قتله فإنها كانت المستفيد الأوحد من هذه العملية. لقد ذهب الفاتح العظيم ضحية الوقوع بين أنياب التوسع الامبراطوري وبين الرغبة الجامحة في توزيع المنهوبات بالتساوي بل لقد سعى عمر لمصادرة أموال الأغنياء لتوزيعها على الجنود. لقد خلق عمر بهذه السياسة تناقضاً لم يكن ممكناً حله إلا باستخلاف عثمان بن عفان، وهو الخيار الوحيد الذي أمكن معه لتاريخ الإسلام أن يأخذ مساره اللاحق، ولم يكن خنجر أبو لؤلؤة غير الرافعة التي اختارتها المسيرة لإزاحة عقبة ناشزة في طريقها.

اغتيال علي بن أبي طالب

وصل علي بن أبي طالب إلى الخلافة بعد الحركة المسلحة التي أودت بعثمان، واغتيل على يد نفس الحركة. والفريق الذي اغتاله هم الخوارج الذين انشقوا في صفين. فاغتيال علي هو نتيجة لتناقض في صفوف مجموعة سياسية واحدة أخذ بعداً تناحرياً أدى إلى انفجار صراع دموي بين شقيها. وهذه ظاهر مطّردة في تاريخ الحركات المسلحة بعد وصولها إلى السلطة، نجدها في العصور الحديثة كما كانت في العصور الفارطة.
بعد مقتل عثمان اندلع نزاع مسلح بين علي ومعاوية، وقد تداول الخوارج في أمر الأمة فوجدوا أن أزمتها تكمن في زعامتها، واتخذوا من ثم قرارهم بالتخلص من هذه الزعامة التي تمثلت حسب تحديدهم في علي بن أبي طالب، ومعاوية بن أبي سفيان، وعمروا بن العاص، وعهد بالتنفيذ إلى ثلاثة فدائيين أرسل احدهم إلى الكوفة والثاني إلى دمشق والثالث إلى مصر، وعينت الخطة يوماً واحداً للتنفيذ وهو التاسع عشر من رمضان.
في الوقت الموعود، كان كل من الثلاثة قد توجه إلى هدفه، ويبدو أن الفدائي الذي أرسل على معاوية لم يحسن توجيه الضربة فوقع السيف في إلية معاوية ولم يقتله، أما فدائي عمرو بن العاص فأجاد الضربة وقتله ثم تبين أنه شخص آخر ناب عنه في الصلاة لمرض ألم به ذلك اليوم. هذا بينما نجحت خطة اغتيال علي بن أبي طالب.

اغتيال مالك الأشتر

لما كانت مصر من محاور الصراع بين علي ومعاوية لما تتمتع به من ثقل استراتيجي يمكن أن يسهم في ترجيح كفة أحد الطرفين على الأخرى، اختار علي أول الأمر لولاية مصر قيس بن سعد بن عبادة فاستطاع ضبطها وإحباط محاولات الأمويين لانتزاعها. غير أن معاوية وبأساليبه الماكرة توصل إلى زعزعة الثقة بين قيس وخليفته، القليل الدهاء، فعزله عن مصر وعين في مكانه ربيبه محمد بن أبي بكر وهو شاب متحمس لكنه قليل الخبرة. بيد أن علي وقد أدرك جسامة الخطر الذي يتهدد مصر سعى لتعزيز الولاية بشخصية كفؤة أخرى هي مالك الأشتر أحد قادة الحركة المسلحة التي أوصلته إلى الخلافة بعد مقتل عثمان بن عفان. وقد سبب تعيين الأشتر لولاية مصر قلقاً شديداً لدى معاوية فسعى لمنعه من الوصول إليها، وتختلف الروايات حول وصف الطريقة التي تخلص بها معاوية من الأشتر، ولكنها تجمع على اغتياله بشراب مسموم ( عسل / ماء / سويق )، وقد قال معاوية بعد أن بلغه نجاح عملية الاغتيال ( إن لله جنوداً من عسل ).

دلالات مستخلصة من حوادث الاغتيال الراشدية:

ترجع الاغتيالات في هذه الحقبة إلى الأصل الذي بني عليه الإسلام كتحرك سياسي اجتماعي أملته ظروف العرب الخاصة في المقام الأول، والظروف العامة للمنطقة في المقام الثاني، وقد رأينا كيف سلك مؤسس الإسلام بعد هجرته إلى يثرب خط العمل العسكري، بما في ذلك الاغتيالات كنهج ثابت أشاح به عن نهجه التبشيري الذي اتبعه في مكة. وترتهن سياسات النبي محمد في يثرب بصراع قومي موجه لتوحيد أمة / أرض في دولة ومجتمع، بينما يعكس نهجه في مكة حالة صراع اجتماعي داخل معشر محدود هو المعشر القرشي – المكي. وكان ثمة صراع من هذا القبيل في يثرب ولكن داخل نفس الحركة، بين الفئات الاجتماعية والقبلية التي تتكون منها كتلة الصحابة المشكّلة لقوام الحركة في طورها اليثربي.
وحيث أفلح الإسلام في إقامة مجتمع ودولة شملت الجزيرة العربية بامتداداتها العراقية والشامية وما وراءها من أقاليم، فقد تعين عليه أن يواجه كل مرتكساتهما، فالمجتمع يعني الصراع والدولة هي أداة الصراع التي لا وجود لها من دونه. وهو أداة قابلة للتداول ( اسم الدولة في اللغة العربية مأخوذ من هذا المعنى الدال في جوهره على الصراع ). ولو أراد محمد لحركته أن تكون دعوة ولنفسه ان يكون محض مبشر فإن شيئاً مما قد سردناه لن يقع في أوانه، ولكن بعد مضي قرون يكون فيها الإسلام قد تمكن من قلوب الناس، وتوطدت مؤسسته الدينية، المؤهلة لأن تضع نفسها في خدمة دولة خارجة عنها لتكون أداتها القمعية أو غطاءها الأيدلوجي، مثلما للمسيحية والبوذية بعد ثلاث قرون من وفاة صاحب الدعوة.
وهناك دلالة هامة في أن الكتاب المقدس لم يصطبغ رغم مضاهاته للكتب المقدسة التي قبله في طقوسيتها، بقداسة أحادية تجعل منه كتاباً إلهياً عديم اللحم والعظم، فقد استغرقه التناحر فأضفى عليها صفة خاصة به، ويتجاوز عدد المرات التي ذكر فيها القتل بمشتقاته عدد المرت التي ورد فيها ذكر الصلاة ( 174 مرة مقابل 99 مرة ). ولغة الصراع في الإسلام تحريضية شديدة النبرة تذكر القاريء بلغة البلاغات الحربية، ولا شك في أن مؤسس الإسلام كان يستجيب لمستلزمات مهمته التاريخية.
كان الصراع الذي خاضه الإسلام الأول من الحدة بما يكفي لتعزيز صياغة شخصية تناحرية مشتركة بين طبقات المجتمع الجديدة الظالمة والمظلومة، ولو أن هذه الشخصية لم تنشأ من فراغ إذ يمكننا في الواقع أن نتابعها في الشخصية الجاهلية التي يشغل السيف موقعاً مؤثراً في علاقاتها. والمجتمع الجاهلي هو كما نعلم مجتمع تناحري لم يعرف السلم إلا كهامش استغرقته الأشهر الحرم في أضيق نطاق.
ينسب الطبري إلى عمر بن الخطاب أنه علّم المسلمين أن يطيعوا الخليفة إذا استقام ويقتلوه إذا اعوج، ولما اقترح عليه أحدهم الخلع بدل القتل ردّ عليه بأن القتل أنكل لمن بعده، أي أكثر ردعاً. وسواء صدر هذا التوجيه عن عمر أو غيره فهو يحمل نزوعاً إلى أدجلة وشرعنة ما جرى في صدر الإسلام.


ملحق للمقارنة

من أجل تكوين فكرة تقريبية عن مستوى التعذيب في الإسلام، نورد أمثلة من التعذيب لدى بعض الأمم الأخرى:

1- الخوزقة والتقطيع:
عرف به الآشوريون الذين تميزوا بوحشية استثنائية، وكانوا يقتلون أسراهم بإجلاس الأسير على خازوق وقطع يديه ورجليه، ولم تعرف الخوزقة في العصور الإسلامية وإنما أدخلها العثمانيون واتخذوها وسيلة رسمية لتنفيذ الإعدام.

2- الإعدام حرقاً:
انتشر في عصور أوربا الوسطى وقد اعدمت جان دارك بهذه الطريقة على يد الإنجليز، وأعدم بعض الفلاسفة بأمر الكنيسة في العصور الوسطى وعصر النهضة، وأحرق فيلسوف وعالم إيطالي سنة 1619 لأنه قال بالنظرية الارتقائية التي قال بها معاصره الشيرازي في إيران. بلغ من أحرقتهم محاكم التفتيش الأسبانية عام 1438 وحده ألفي رجل، ويذكر أن " كالفن " أعدم بالنار في عام واحد 14 امرأة اتهمهن مجمع كردالة جنيف بتحريض الشيطان على جلب الطاعون للمدينة.

3- الإعدام شياً:
ذكر انجلز في " حرب الفلاحين " أن قائد فلاحي هنغاري أسر عام 1514 بعد القضاء على ثورته، فشوي بإجلاسه على مقعد مسجور، وبعد أن تم شيه، خير أتباعه من الأسرى بين الأكل من لحمه أو شيهم بنفس الطريقة فاستجاب بعضهم فأكل خلاصاً من الشي. هذه الطريقة مارسها العباسيون ضد القرامطة لكن خيالهم بقي قاصراً عن مجاراة الأوروبيين في اكل اللحم البشري بعد شيه. وفي ألمانيا ربط القائد الفلاحي جاكلين رورباخ إلى عمود وأحيط بنار هادئة حتى مات مشوياً، وهذه الطريقة يستعملها العراقيون في الوقت الحاضر لشي السمك المعروف عندهم بالمزقوف.

4- سلخ الجلود:
انتشر في التبت على نطاق واسع ضد الأقنان، واستمر حتى تحرير ذلك الإقليم عام 1951.

5- الصلم والجدع والسمل:
استعملها الإقطاعيون الأوروبيون ضد فلاحيهم. وذكر انجلز أنها كانت متداولة بكثرة في الإقطاعيات إلى جانب وسائل أخرى كالتربيع، أي تقطيع الجسم إلى
أربعة اجزاء وإنفاذ الأسياخ المحماة في الجسد.

6- قنطرة النار:
طريقة صينية قديمة ترجع إلى العصور القبميلادية، وتتم بحفر حفرة واسعة تملأ بالجمر وتمد عليها قنطرة من نحاس تلامس الجمر حتى تسخن، ويؤتى بالضحية فيؤمر بالعبور على القنطرة حافياً فربما تحملت قدماه النحاس المحترق فاجتاز القنطرة وربما عجز فألقى بنفسه في الحفرة ليموت مشوياً.

7- المهابدة:
حدثت في الصين على يد الامبرطور الأول تشين شي هوانغ في القرن الثالث ق. م ، وكان قد اعتنق الفلسفة الشرائعية، وهي فلسفة ذات توجهات فاشية، وأبيد في أعوم حكمه الخمسة عشر أكثر من مليون صيني. والمهابدة مسلك أوروبي شائع ولم يقتصر على أهالي المستعمرات والأمريكتين بل طبق في الداخل الأوروبي أيضاً. أشار إنجلز إلى أن الجنود البريطانيين كانوا يتخذون من التعذيب وسيلة للتمتع. ( ينقل مثله عن صدام وإخوانه لأمه، وهم يتمتعون به ليلاً حين يسكرون ).

يختتم الهادي العلوي الملحق السابق بتعليق من كتاب وليم هويت اقتبسه كارل ماركس في كتابه الشهير ( رأس المال ) حيث يقول: ( إن الانتهاكات الهمجية التي يقترفها الرس السمى مسيحياً في أية بقعة من الدنيا وضد أي شعب تمكنوا من إخضاعه لا نظير لها عند أي رس آخر، مهما بلغت فظاظته ومهما كانت جهالته، ومهما بلغ استخفافه بالرحمة والحياة في أي عصر من عصور الأرض ).

في الحلقة القادمة نستعرض بشكل عابر وسريع جملة الاغتيالات في العصرين الأموي والعباسي لننتقل بعدها إلى تاريخ التعذيب في الإسلام.
--------------------------------------------------------------------------------
المصدر: الهادي العلوي: من تاريخ التعذيب في الإسلام، دار المدى، ط3 / 2004.

 
Free Hit Counter Search Engine Submission - AddMe