الاثنين، 2 نوفمبر 2009

ثقافة العرب الشفهية: الوهم.. السحر.. والجهل

بقلم خالد السعيد

ـ 1 ـ
تتأسس العقلية العربية على الثقافة الشفاهية لا على الثقافة المكتوبة، وتتحرك على إيقاع الكلمة المسموعة أكثر من الكلمة المكتوبة.  كتب الباحث المصري كمال غبريال واصفاً تضاريس العقل العربي في تفاعلاته مع اللغة المسموعة واللغة المكتوبة ما يلي: "... وتتسم العقلية الشفاهية بالحماسة والانحياز للمشاعر التي تستدرها الكلمات، فنبكي أو نهتاج، وخلفنا كل ميراث الشعر العربي، وسير الأبطال الشعبية.  ونظراً لأن الرسائل الصوتية التي نستمد منها معارفنا تتلاشى في الفضاء فور نطق مقاطعها، ولا يمكن استعادتها بعد ذلك، فإن العقلية الشفاهية لا تعرف المقارنة بين جملة وجملة، ومن ثم لا تعرف النقد والتحليل، كما في الثقافة الكتابية، التي يتيح لها النص المكتوب التقدم والتراجع والتوقف، ومقارنة الجمل والتفكير في معناها وتحليله، بعيداً عن التأثيرات الصوتية وما يتم تحميله عليها من عاطفة..." (الليبراليون الجدد: جدل فكري، شاكر النابلسي، الطبعة الأولى، منشورات الجمل، ص 72).
تاريخياً، لم ينتج العرب في ما يسمى بالجاهلية أو ما بعد الإسلام كتاباً واحداً يعتد به.  ففي عصر النبوة، والخلافة الراشدة، والخلافة الأموية لم يخطّ العرب كتاباً باستثناء القرآن الذي تأخر تجميعه إلى زمن الخليفة عثمان بن عفان.  ومن المؤسف أن العرب لم يتعاملوا مع الكنوز الثقافية التي استولوا عليها في بلاد العراق ومصر بشكل واعٍ ومتحضر، بل جرى تدمير وحرق وإهدار المخطوطات المستولى عليها بأسلوب لا يفترق كثيراً عن السلوكيات البربرية للمغول بعد اجتياح بغداد حاضرة الخلافة الإسلامية.  ومن اللافت للانتباه أن التأليف تأخر لزمن بني العباس، وكان للمسلمين غير العرب أو غير المسلمين اليد الطولى في التأليف والكتابة.  ومن الغريب أن العرب بعد اختراع المطبعة وحتى الآن مازالوا أسرى للثقافة الشفاهية كما لو كان كل شيء من حولنا آسناً وباقياً على حاله.  أذكر أني قرأت قبل سنوات قصيرة مقالة مليئة بإحصاءات كارثية، أوردها المفكر التونسي العفيف الأخضر، تكشف عن أنيميا حادة مصابة بها الثقافة العربية على مستوى التأليف لدرجة أن دولة كأسبانيا تترجم في العام الواحد ما يربو على كل ما ترجمه العرب منذ عصر المأمون ـ الخليفة العباسي المثقف والمنفتح ـ إلى هذا اليوم(!).  وحسب المقالة، فإن الإسهامات الثقافية للعرب تعتبر الأقل من بين شعوب العالم على مختلف الصعد، ماعدا (ولله الحمد) الكتب المشغولة بعذاب القبر، وأشراط الساعة، وأحوال أهل الجنة والنار، وهي بحق مسائل لا يبز فيها أحد العرب المسلمين المهمومين بالآخرة وليس الدنيا الفانية التي لا تساوي عند الله جناح بعوضة.

ـ 2 ـ
في عالمنا العربي، السمع مقدم على البصر، والقول غالب على العمل، والكلمة أمضى من الفعل.  صدام حسين بكلمة واحدة قلب هزيمته الساحقة والمذلة أمام قوات التحالف الدولية في عام 1991 إلى نصر مؤزر سماه أم المعارك.  كذلك فعل عبد الناصر باختزال الكارثة المريعة والجرح العميق والممتد من الماء إلى الماء عام 1967 إلى مجرد نكسة.  ما أعظم هذه الأمة وقادتها! إنهم يملكون قوة عجيبة على قلب الظلام نوراً، والهزيمة نصراً، والانتحار بطولة.  بماذا؟ بمجرد كلمة، كلمة واحدة.  وإذا كان العقل العربي يتعاطى حشيشة ملفوفة بشعارات القومية الملتهبة فترة الخمسينيات والستينيات، فإنه منذ انكسار الحلم القومي لم يعد "يكيفه" غير الحشيش الديني. 
خلال فترة الثمانينات والنصف الأول من التسعينيات سادت ظاهرة الكاسيت الديني الرخيص الثمن والمجاني غالباً.  مازلت أذكر كيف كان طلاب المتوسطة والثانوية يتحدثون بإعجاب كبير عن الخطب النارية لدعاة الصحوة.  لم يترك الدعاة "الكاسيتيون" موضوعاً دون أن يلقوا بدلوهم فيه، ويطلقوا نيرانهم عليه.  هاجموا بضراوة الفن والفنانين، الكرة والكرويين، الحداثة والحداثيين، العلمانية والعلمانيين، الرأسمالية والرأسماليين، والماركسية والماركسيين.  كان الجميع، صغاراً وكباراً، يتلقفون ما تضخه الآلة الصحوية الهائلة دون نقاش أو تفكير أو تشكيك، وكأن هؤلاء الدعاة يحملون أجهزة اتصال لاسلكي تسمح لهم بالتواصل مع الله.  هذا التلقي السالب والمتدفق من الأعلى إلى الأسفل يعكس حالة من التثاؤب الفكري والكسل العقلي لدى المتلقين من جهة، وحالة من الافتتان بسحر البيان الخطابي المرصع بآيات وأحاديث وأقوال مأثورة من جهة أخرى.  إن افتقاد المتلقي لأدوات المساءلة والنقد والتفكير، فضلاً عن تعشيق الرسائل الدعوية بآية هنا وحديث هناك يبقى قاصراً ما لم يملك الداعية قماشة صوتية متميزة تتيح له العزف ببراعة على أوتار القلوب، فمرة يرفع درجة الهارموني عندما تلفح كلماته ألسنة جهنم، ومرة يهبط بدرجة الهارموني عندما تكتسي كلماته بلون الجنة الأخضر وتحتسي من أنهار اللبن والعسل والخمر.

 ليست أقوال رجال الدين وخطباء المسلمين ذات عصمة وحدها، بل أن كل أقوال السلف ورموز التاريخ الإسلامي تتحول إلى نواة صلبة ينسج حولها تاريخاً متوهماً ومزوراً، في الوقت الذي يهال التراب على أفعال هؤلاء القديسين وسلوكياتهم المتناقضة مع زيف الشعارات أو "زلات ألسنتهم".  عندما تضع  بين يدي محاورك الملابسات التاريخية المحيطة بتدوين القرآن، وما صاحبها من ضياع عدد كبير من الآيات، وهي حقائق تاريخية مثبتة في أكثر من مصدر لا يرقى لها الشك، يرد عليك محاورك بكل اطمئنان وثقة: "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون".  هكذا إذن(!) جملة قرآنية لفظية تملك من الفعالية والحضور ما يكفي لنسف العقل من الحضور وشطب وقائع التاريخ من الوجود.  إنها الكلمة السحرية التي تقول للشيء: كن فيكون.  ألا تجد أن عبارات مراوغة تخرج من فم أحد الفقهاء بأن يدي الإسلام والمسلمين بريئة من دماء العمليات الإرهابية كافياً لإسقاط تهم الإرهاب الأصولي عن جماعات الإسلام السياسي، بل وإلصاقها بحكومات الغرب المتآمر ـ ويا للعجب ـ على نفسه؟  الكلمة في عالمنا العربي مثل الأسيد الحارق، ما أن تخرج للفضاء حتى تذوب فيها المشاهدات الملموسة والحقائق المنظورة بكل يسر وبساطة.  دائماً يردد عبدة الأموات أن أبا بكر كان نموذجاً راقياً للشورى بالتذكير بعبارات خطابية قالها إبان توليه الخلافة، متناسين أنه استبد بقراره في محاربة من تم تسميتهم بالمرتدين رغم اعتراض الصحابة وعلى رأسهم عمر بن الخطاب.  عبدة الأموات لا ينفكوا يحدثوننا عن عدل عمر الأسطوري القائل في قصة القبطي المجني عليه "كيف تستعبدون الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً ؟ " ضاربين صفحاً عن سرقة عرق أهل البلدان المفتوحة من العجم الذين صاوا فجأة عبيداً للعرب الفاتحين زمن عمر.  عبدة الأموات لا يكلون الحديث عن حياء الملائكة من ذي النورين عثمان بن عفان، كما قال عنه النبي محمد، ولا نعرف كيف نجد تبريراً لحياء عثمان وهو يمطر عمار بن ياسر بألفاظ تنال من رجولته وكرامته.  عبدة  الأموات يبجلون أم المؤمنين الحميراء عائشة بنت أبي بكر، ويرفعونها إلى مصاف القديسات، فمنها نستمد نصف الدين كما قال النبي محمد، ولا ندري ماذا عسانا أن نفعل بتحريضها الفعلي على قتل عثمان، ثم جر المسلمين إلى حرب طاحنة  انتقاماً لجرح قديم زرعه علي بن أبي طالب في قلبها في حادثة الأفك الشهيرة.
=====
 
Free Hit Counter Search Engine Submission - AddMe