الأحد، 1 نوفمبر 2009

الفلاح السكسوني مارتن لوثر وبدعة صكوك الغفران


أشرف صالح



ظهرت حركة الإصلاح الديني اللوثري‎ ‎كحركة دينية نصرانية في القرن السادس عشر الميلادي في ‏أوروبا وأدت إلى ظهور البروتستانتية، وكان لها أثر كبير على الحياة‎ ‎السياسية والاجتماعية والاقتصادية ‏في أوروبا، بل لا تزال آثارها ملموسة حتى اليوم، كما ظهرت على إثرها العديد من الكنائس ‏البروتستانتية الكبرى، وبعض الجماعات التي أصبحت‎ ‎تنافس الكنيسة الرومانية الكاثوليكية في كسب ‏ولاء النصارى‎.‎‏ ‏

وقد ولد صاحب حركة الإصلاح مارتن لوثر في 10 نوفمبر 1483 في آيزليبين في مقاطعة ‏سكسونيا بألمانيا وعاش حياة تعيسة فقيرة، وكان والداه يشتغلان في فلاحة الأرض، وقد درس القانون ‏في جامعة إرفوت. وفي عام 1505 دخل ديرا يتبع طائفة القديس أوجستين وأصبح راهباً، وفي عام ‏‏1511 زار روما في مهمة رسمية ممثلاً لهذه الطائفة، وقد أدهشه في روما انهيار المعايير الأخلاقية ‏لدى رجال الدين والباباوات وانغماسهم في حياة التبذل والملذات فقال عبارته ‏‎"‎إن من يذهب إلى روما ‏يشعر بأن عقيدته الدينية تترنح تحت الضربات التي تصيبه من جراء ما يرى هناك‎"‎‏.‏

وقد عين لوثر سنة 1512 أستاذاً لكرسي اللاهوت في جامعة وتنبرج وأصبحت رسالته الأولى هي ‏التدريس والوعظ. وفي 1517 هبط مدينة وتنبرج راهب يدعى حنا تتزل من أتباع طائفة الدومينكان ‏الدينية وقد جاء لبيع صكوك الغفران، وخصص جزء صغير من حصيلة البيع إلى كبير أساقفة مانيز، ‏والجزء الأكبر إلى خزانة البابا ليو العاشر للإسهام في نفقات المبنى الجديد لكنسية القديس بطرس في ‏روما.‏

وكان هذا الراهب يدعو الناس إلى أن يشتروا الثواب وصك الغفران طواعية، وبلغت وقاحته في أنه ‏زعم إذا ارتكب الرجل الخطيئة مع العذراء المباركة نفسها فإن هذه الصكوك كفيلة بأن تمنحه الغفران ‏الكامل، وبذلك فقد تطاول على العذراء المباركة التي لها تقدير في نفوس الملايين من المسيحيين ‏والمسلمين، ومن جهة أخرى كان ذلك بمثابة تحريض على ارتكاب الخطايا بإعفاء من العذاب.‏

الواقع أن؛ الغفران كما عرفه توماس أكونياس يقوم على ثلاث قواعد: الندم أو التوبة، الاعتراف، ‏التكفير بالصلاة والصوم والزكاة. وكان البابا قادر على إصدار صكوك الغفران لأنه خليفة القديس ‏بطرس الذي له ميزة توزيع فيض من الثواب وذلك لأنه هو خليفة المسيح، ولكن الباباوات استعاضوا ‏الجزاء بالاشتراك في حرب صليبية أو الحج إلى روما في أول كل مائة سنة جديدة ويسمى ذلك الغفران ‏اليوبيلي. وقد توسع البابا ليو العاشر في تطبيق مبدأ الاستعاضة عن الجزاء حتى صارت هذه ‏الاستعاضة تشمل زيارة قبول القديسين وتقديم الهبات إذا تعذر الحج وأن يسري هذا التعويض على ‏الأموات.‏

ولكن الباباوات عهدوا إلى البنوك والمصارف في ألمانيا للقيام بعملية تحصيل هبات الأموال فأدى ‏تدخل المصارف في مسألة التعويض عن الجزاء إلى مجرد عملية تجارية. فيكفي الإنسان أن يدفع مبلغاً ‏ويحصل على شهادة صك الغفران.‏ وفي سنة 1515م توصل لوثر إلى أنه ليس من المعقول التخلص من الخطايا بشراء صكوك ‏الغفران، وأنه ليس التخلص منها بالصلاة والعبادة وإنما بإسداء الحمد والشكر للإله الرحيم. وأن الإيمان ‏هو شرط الغفران هو الثواب على الإيمان، وقد اهتدى لذلك من دراسته للكتاب المقدس وتعاليم القديس ‏أوجستين وهذه العقيدة تعرف بـ ‏‎"‎التبريد بالإيمان‎"‎‏.‏

وبذلك فقد اغتصب البابا ليو العاشر ما كان مفروضاً من صفات الله وحده، بل أنه قادر على التجاوز ‏عن العقوبة وقادر أن يمحو الخطيئة ذاتها، وانحطت الأخلاق في عصره واستطاع المذنب أن يشتري ‏صكاً ليمحو كل خطاياه.‏ وقد أثارت التصريحات الحمقاء لحنا تتزل السخط في نفس لوثر فقام في 31 أكتوبر 1517 يوم ‏الاحتفال بذكرى تدشين كنيسة وتنبرج بتعليق احتجاجاً مفصل على باب الكنيسة من خمسة وتسعين ‏حجة ضد صكوك الغفران، وأن البابا ليو العاشر يمنح الغفران للناس ولا يستطيع شراءه لنفسه، فتلك ‏صفة إلهية لا يجب اقتباسها وقد جعلها لنفسه، وأوضح لوثر أن الكتاب المقدس وحده هو القانون الذي ‏يجب الاعتماد عليه في تفسير العقائد.‏
وكان احتجاجه باللغة اللاتينية إلى العلماء لمناقشتها والنظر فيها، لا إلى عامة الشعب. ولكن سرعان ‏ما ترجم إلى اللغة الألمانية وانتشر في طول ألمانيا وعرضها. وهذه بعض بنود الاحتجاج:‏
- إن الله هو الذي يغفر الخطايا. وإن الإنسان لا يستطيع أن يشتري الغفران وخلاص نفسه بمبالغ ‏معينة من المال. وأن الأعمال الصالحة لازمة، ولكنها لا تخلص الإنسان. وهي ثمرة الإيمان. ‏
- إن الكتاب المقدس هو دستور حياتنا وهو فوق تقاليد الكنيسة. إننا نقبل التقاليد إذا كانت لا ‏تتعارض مع ما يعلمه الكتاب المقدس.‏
- إن الأسرار المقدسة اثنان وليس سبعة، لأن المسيح لم يرسم إلا سرين (أو فريضتين) مقدسين ‏هما المعمودية والعشاء الرباني.‏
- إننا نترك مسحة المائتين بالزيت، ولكننا لا نترك الزواج، وإن كنا لا نعتبره فريضة. والسبب في ‏عدم اعتبار الزواج فريضة هو أن الناس كلهم يتزوجون منذ الخليقة.‏
- دعا لوثر الرهبان والراهبات والكهنة إلى الزواج إذ شاءوا ذلك. أما من أراد أن يبقى عازباً فإن ‏حرية الخيار متروكة له وراجعة إلى ضميره. ‏

وفي عام 1519م وجد لوثر أنه يجب إصلاح الكنيسة من الخارج طالما أنها لم تستجب من داخلها ‏للدعوات المتكررة بإصلاح نفسها بنفسها، فوجه الدعوة إلى حكام الولايات الألمانية من الأمراء ‏ليتزعموا هذه الحركة الإصلاحية، وقد قبلها ورحب بها الأمراء نظراً للمكاسب السياسية والمادية التي ‏تعود عليها من ورائها. وقد حدد لوثر أسس ومبادئ الإصلاح الديني في رسالته الأولى وهي:‏
‏أولاً: أباح الطلاق للمسيحيين.‏
‏ثانيا: إلغاء الحج إلى روما.‏‎ ‎
ثالثاً: ليس للبابا الحق في احتكار تفسير الإنجيل.‏
‏رابعاً: إخضاع رجال الدين للسلطة المدنية.‏
خامساً: إباحة الزواج للقسس. ‏
سادساً: عدم إنشاء أديرة جديدة وإلغاء عدد من الأديرة القائمة وتحويل نزلائها إلى الحياة ‏المدنية وإلغاء الديرية والرهبنة.‏

ونتيجة هذا الهجوم من جانب لوثر أصدر البابا ليو العاشر في ديسمبر 1520 قرار الحرمان ضد ‏لوثر وذلك لأن أرائه جعلت منه مارقاً على المسيحية. وكان جواب لوثر على ذلك أن نشر رسالته ‏الثانية عن الأسر البابلي للكنيسة لإظهار ضعف البابوية ومفاسد الكنيسة، وقام بحرق الحرمان علنا في ‏ساحة كنيسة وتنبرج. وفي يناير 1521 استدعى لوثر للمثول أمام أول مجمع إمبراطوري لمناقشة أرائه ‏بناء على طلب الإمبراطور تشارلز الخامس، وأصر لوثر في هذا المجمع على أرائه فاعتبر خارجاً على ‏السلطة القائمة وحرم من حقوقه المدنية.‏

فقد طلب المجمع من مارتن العدول عن هرطقاته فكان جوابه: ‏‎"‎لا يمكنني‎ ‎العدول أو التراجع عن ‏كل ما كتبته أو قلته إلا بشرط واحد هو أن يبين لي أحدكم أن‎ ‎أقوالي وكتاباتي تناقض الكتب المقدسة ‏أو تناهض مبادئ العقل والضمير، أو تثبتوا لي‎ ‎بأنها غير سليمة أو غير مستقيمة‎."‎‏ وأنهى كلمته ‏بالقول:‏‎ "‎ما عدا ذلك لا يمكنني التراجع عن آرائي أو العمل بخلافها. علي هذا عاهدت نفس وسأكون ‏علي العهد مقيماً أعانني الله‎. ‎آمين‎"‎

في نفس اللحظة تم وضعه تحت الرقابة الإمبراطورية وسُمح له بالذهاب إلى‎ ‎منزله. لكن في طريقه ‏إلى بيته وفي أحد الشوارع الضيقة انقضّت عليه مجموعة من‎ ‎الفرسان المقنعين فحملوه إلى قلعة ‏ورتبورج. هذا حدث بإيعاز من صديقه فردريك حاكم‎ ‎سكسونيا الذي كان يخشى على حياة صديقه مارتن ‏ولم يتمكن علناً من توفير الحماية له،‎ ‎فقرر على الأقل اختطافه ووضعه في مكان آمن‎.‎‏ وخلال مدة ‏العشرة شهور التي قضاها‎ ‎في القلعة قام مارتن لوثر بترجمة جديدة للكتاب المقدس من اليونانية إلى ‏الألمانية‎ ‎فاعتبر ذلك العمل الضخم حجر الأساس في تاريخ الأدب الألماني. وفي سنة 1546 دُعي لفض نزاع قام في بلدة إيسليبن، وبعد أن أفلح في فض النزاع أصيب بنوبة ‏برد ما لبث أن توفي في أثرها وذلك في 18 فبراير 1546ودفن في نفس الكنيسة التي قام بتثبيت آرائه ‏الدينية على بابها‎.‎

والجدير بالذكر؛ أن اللوثرية تدين بالكثير لسياسي وباحث وجامعة، فكان السياسي هو فردريك ‏منتخب سكسونيا هو الذي حمى لوثر من أعدائه ودبر له مخبأ بعيداً عن متناول أيديهم في قلعة وارثر ‏برج وقد ظل لوثر هناك سنة ترجم فيها الإنجيل للألمانية، وقد أثر ذلك في إحياء الأدب وإطلاع عامة ‏الناس على كتابهم المقدس. والباحث هو فيليب ملانكتون الذي أمد الدين الجديد في سنة 1521 بأول ‏كتاب له في اللاهوت وهو ‏‎"‎كلام معاد‎"‎، ويرجع إليه الفضل في وضع فلسفة واضحة للإصلاح ‏اللوثري. أما الجامعة فهي جامعة وتنبرج التي أصبحت المهد الأساسي لتعليم اللوثرية وجاء إليها طلاب ‏العلم من جميع أنحاء ألمانيا.‏

وهكذا؛ نرى أن الظروف السياسية التي أحاطت بألمانيا ساعدت على انتشار الحركة اللوثرية، ولكن ‏الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي سادت في أرجاء ألمانيا جعلت الحركة تأخذ في مساراها اتجاهات ‏معينة، فالبعض وجد في هذه الحركة فرصة لتنفيذ الآراء التي يؤمن بها مما أدى لوقوع اضطرابات ‏وجعل حركة الإصلاح تقترن بالعنف والفوضى، وذلك شاعت حركات الإصلاح في ألمانيا.‏
المراجع: ‏
- ‏أشرف صالح، أصول التاريخ الأوربي الحديث.- الطبعة الإلكترونية الأولى.- الدوحة: دار واتا للنشر ‏الرقمي، 2009. ‏
- ‏جاد طه، محاضرات في تاريخ أوربا الحديث.- القاهرة: كلية الآداب - جامعة عين شمس، 1997.‏(غير منشورة)
- شوقي عطا الله الجمل، عبد الله عبد الرازق إبراهيم، تاريخ أوروبا من النهضة حتى الحرب الباردة.- ‏القاهرة: المكتب المصري لتوزيع المطبوعات، 2000.‏
- ميرل دوبينياه، تاريخ الإصلاح في القرن السادس عشر/ترجمة الشيخ إبراهيم الحوراني.- الطبعة ‏الثانية .- بيروت: منشورات مكتبة المشعل، 1878‏
- يواقيم رزق مرقص، محاضرات في تاريخ الكنيسة الغربية؛ مارتن لوثر، 2009. ‏
John Dillenberger, Martin Luther: Selections from His Writings.- New York: Doubleday, ‎‎1951.‎
Paul Althaus, The Ethics of Martin Luther‏/‏‎ Translated by Robert C. Schultz.- Philadelphia: ‎Fortress Press, 1972.‎
*كاتب المقال/ أشرف صالح
عضو إتحاد كتاب الإنترنت العرب
 


 
Free Hit Counter Search Engine Submission - AddMe