السبت، 5 ديسمبر 2009

اللاهوتي هانس كونغ والإسلام- د. عزالدّين عناية

خلال الخمس وعشرين سنة الأخيرة، خصّ اللاّهوتي السويسري الألماني هانس كونغ الأديان الثّلاثة باهتمام خاصّ، أنتج خلالها، إضافة إلى أعماله الأخرى، ثلاثيّة متعلّقة بالأديان الإبراهيمية، كان مستهلّها عملا بعنوان "اليهوديّة" (1991)، ثم "المسيحيّة" (1994)، وأخيرا "الإسلام" (2004)، وبمناسبة صدور التّرجمة الإيطالية لمؤلّفه الأخير، نوافي القارئ العربي بعرض وتلخيص لأهمّ الأفكار الواردة فيه.
من هو هانس كونغ؟ ولِد في سويسرا سنة 1928 ودرَس بالجامعة الغريغورية البابوية بروما، عيِّن كاهنا سنة 1954، وبين 1960 و 1995 اشتغل بالتدريس في جامعة توبنغن بألمانيا. هو رجل دين كاثوليكي تجاوز ضوابط المؤسّسة، أراد العودة بالكلمة المسيحية إلى نقاوتها وشجاعتها بعيدا عن وعثاء السّياسة التي صارت تتحكّم بصدقيتها، ولجرأته ونباهته عُدّ أعظم عقل منشقّ عن الكنيسة الكاثوليكية في الزّمن المعاصر، برغم أن الخروج عن فكر المؤسّسة مهلكة أحيانا، لكنّ الرّجل من تلك الطّينة الحسينيّة التي لا تبالي، فكأنّه يصدح عاليا مع الخيّام:
لو كان لي كالله في فلك يد ** لم أبق للأفلاك من آثار
وخلقت فلكا يدور مكانها ** ويسير حسب مشيئة الأحرار
****
داخل موجة الرّجعة لمقولات القرون الوسطى مع الإسلام، التي يمرّ بها وعي الغرب، يحاول هانس كونغ إصلاح ما فسد، فيصف حالة التراجع الخطيرة قائلا: بعد انتهاء الحرب الباردة، مثّل صموئيل هتنغتون دعامة إيديولوجية كبرى لإيجاد شرعيّة للآلة العسكريّة الأمريكيّة الضخمة، وبشكل أو بآخر لخلق مناخ ملائم لحروب لاحقة. عبر صياغة بديل تتحوّل فيه صورة العدوّ من الشّيوعيّة إلى الإسلام.
فبالنسبة لأغلب الأوروبيين، تبدو أديان الصّين -الكنفشيوسية والطّاوية- قصيّة ومجهولة، فهي "شرق قصيّ"، وليست خطيرة بالمرّة. كما تبدو أديان الهند -الهندوسية والبوذية- للعديد أدنى قربا وأوفر علما بها، وقد تبدو للبعض وديعة وسلميّة ولا تتضمّن تهديدا، فهي لا تجمعها حدود صراع مع الدّول المسيحيّة؛ برغم أن الأصوليّة الهندوسية المتصاعدة والعنيفة بدأت في الانتشار بالهند مع منتهى القرن المنصرم. أما الإسلام، الذي تشترك المسيحية معه، في عدّة آلاف من الكلمترات فهو يمثّل دائما تهديدا مفتوحا. فعالم السياسة الأمريكي صموئيل هتنغتون، يصرّح علنا، سنة 1993: "حدود الإسلام ملطّخة بالدّماء"، ويتساءل كونغ وهل حدود المسيحيّة بخلاف ذلك؟
لقد صارت المسارات جليّة، إمّا الصِّدام بين الدّيانات والحضارات، المؤدّي إلى حروب بين الأمم، أو الحوار كدعامة للسّلام. فأمام تهديدات الموت التي تتربّص بالإنسانية جمعاء، أو ليس بالأحرى، عوضا عن تشييد صروح العداوة، حجرا حجرا، وإعلاء جدران الأحكام المسبقة، مدّ جسور الحوار مع الإسلام؟
تلك الأمور تفرض على المسيحيين وغير المسيحيين طرح أسئلة: لماذا مليار ومئتا مليون – وهم في ازدياد مطّرد!- في المناطق الوسطى من عالمنا، من سواحل الأطلسي إلى الجزر الأندونيسة، ومن سهوب آسيا الوسطى إلى الموزمبيق، يدينون بهذا الدّين؟ لماذا الإسلام أكبر الدّيانات العالمية بعد المسيحية، ويبدو في طريقه لتجاوزها يوما؟ لماذا، بحسب اعتقادات أتباعه، ليس فقط الدّين الخاتم والأمثل، بل أيضا الأكثر قدما وكونية؟ لماذا وفّق في جمع عائلة دينية كبيرة معا، من أناس مختلفين كثيرا، البربر الرحّل وعرب الشّرق الأوسط، أفارقة من غرب إفريقيا وشرقها، وأيضا أتراك وبوسنيون وألبان وفرس وباكستانيون وهنود، وصينيون وماليزيون، وفي الأزمنة الحديثة آخرون، تقريبا من كافة بلدان العالم برغم كلّ اختلافاتهم الثقافية؟ نعم، السؤال الكبير هو: ما السرّ فعلا وراء قوّة الإسلام وسحره؟ ما هي مصادره وقيمه ورموزه؟ وأيضا: ما الذي يشكّل الحياة اليومية الإسلامية، وما الذي تنبني عليه السّياسة والثّقافة والفنّ الإسلامي؟ وفي النهاية ما هي نقاط الوهن والنقص، التي ينبغي على المسلمين طرح أسئلة نقد ذاتي بشأنها؟
صورة الإسلام العدوّ
تبرّئ صورة العدوّ -المنتجة غربيّا- الذّات، يعبّر كونغ عن ذلك قائلا: لسنا "نحن" (أمريكان وأوروبيون وإسرائيليون)، بل العدوّ الإسلام، فهو يتحمّل المسؤولية تامّة! تلك الصّورة ترسي الوفاق، فحتى وإن كنّا في الغرب على خلاف، فإن ذلك يجعل منّا متحالفين ضدّ عدوّ، ضدّ "مملكة الشرّ" وضدّ "محور الشرّ"! فعدوّ مشترك يثبّت التآزر، كما يقويّ النّاتو ويمتّن الصداقة الأطلسيّة. يجعلنا معا، ويدحض الانتقادات ويهمّش كلّ أصحاب الآراء المغايرة. فصورة العدوّ تدعم فكرة التكتّل، كما تقوّي الاستقطاب، فإن كنّا غالبا لا ندرك بفضل أي قيَم نتآزر، فإننا نعرف دائما مع من نتنازع. ذلك أن الجبهات جليّة، فالكلّ يعرف أين مكانه وأين موضع الآخر. فصور العدوّ تصنِّف الجميع في معادلة مانوية صديق-عدوّ.
ثم يستدرك كونغ على ما تردّت إليه الأمور، ليجد عزاء أن صور العدوّ غير أزلية، وليست حاجة ثابتة. فليست فقط متحوّلة -مثلا من "الرّوس" إلى "العرب"- لكن بالإمكان إصلاحها أيضا، إذا ما صار الأعداء أصدقاء -فرنسا/ألمانيا-، ويمكن أن تصبح رخوة -الشيوعية-. كما يمكن أن يتمّ تجاوزها من خلال التمركز مجدّدا على مهام مشتركة، أمام التهديد النّووي أو الأزمة البيئية، يمكن أن تشغل البشرية جمعاء المسؤولة عن مصيرها، والتي تضم الإسلام أيضا.
فهناك أناس لا يستطيعون العيش بدون صورة عدوّ. مثل ما يصدر من قلاع الأصوليّة المسيحيّة: "الإسلام يريد السيطرة على العالم! إنه إيمان زائف مضاد للمسيحية، غير متسامح وعنيف يهيمن على شطر العالم". كذلك هناك موقف مشابه، مضادّ للإسلام مبدأ، لم يتواجد فقط ضمن تجمّعات اليمين المتطرّف المسيحي أو اليهودي، بل حضر أيضا ضمن توجّهات عديد الدّول المصنّعة. فعندما تُظهِر وسائل الإعلام الغربية المسلمين، فهي في غالب الأحيان تقدّم ناطقين متعصّبين باسم الدّين، بلحى طويلة، أو إرهابيين شرسين، أو شيوخ بترول متخمين بالثّروة أو نساء محجّبات. ليس هناك شيء يسرّ، بالتالي، إذا ما كانت صورة الإسلام في الغرب داكنة، فإنّه يتميّز:
- باللاّتسامح نحو الدّاخل: فهو دين شمولي، ينتج حماسة ولامعقولا وتعصّبا وهستيريا، يحبّذ إذلال الأقلّيات المسيحية ويضطهد بشكل دموي المنشقين مثل البهائيين والأحمديين.
- بالجهاد ضدّ الخارج: فهو دين عنيف، يرنو لغزو العالم، وأمام ذلك ينبغي الحذر الدائم منه.
- بالتخلّف: فهو دين متشدّد، بقي متجمّدا في القرون الوسطى، ومن خاصياته اللاّتحضر، واحتقار النساء، ورفض الحوار... داخل هذا المناخ يتساءل كونغ هل بالإمكان إرساء حوار جادّ مع المسلمين كما يدّعى؟
لذلك يبدي كونغ رفضا لما يسود في الغرب تجاه الإسلام قائلا: ينبغي أن أبدي اعتراضا على هؤلاء التبسيطيين الخطيرين، الذين ينعتهم بـ"صنّاع الرّعب"، الذين يقدّمون إعلاما أحاديا، يقوّي الأحكام المسبقة المضادة للإسلام، ويسطّحون كافة وجهات النظر بين المسلمين من جانب واليهود والمسيحيين عبر "صراع، أملاه القدر بين أبناء إبراهيم"، وفي ذلك يمر التبسيطيون بصمت على عديد الأوجه الإيجابية.

حقبة الجهل
يقارن التبسيط الغربي السائد اليوم مع الجهل الأوروبي القروسطي بالإسلام، فلا يجد تباعدا بينهما، يتساءل: كيف كانت حالة المعرفة بالإسلام في أوروبا الغربية؟ ففي العالم الإغريقي، شاعت سلسلة من الأحكام: محمّد منافق، وأخرى مصاب بداء الصرع، أو مسيح دجّال أو خادم للشيطان. وقد تظافر الأمر بشيوع أساطير، مثل أن راهبا مسيحيا -قتل لاحقا من طرف محمّد- هو الذي علّمه القرآن؛ وأن حمامة أكلت من أذنيه حبّ القمح صارت بالنسبة له روحا قدسيا ووحيا؛ وأن قبره في مكّة معلّق في الهواء نتيجة قوى التجاذب.
فلم تتوفر أي معرفة يقينية عن الإسلام، إلى حدود 400 سنة بعد وفاة محمّد: إنها "حقبة الجهل"! فقط على إثر النتائج الإشكالية المترتبة عن الحروب الصليبية الأولى، شدّ، رئيس دير كلوني الأخير بييترو الجليل، الرِّحال نحو إسبانيا سنة 1142م، مقتنعا بإمكانية هزيمة الإسلام بقوّة الكلمة وحدها، بدأ دراسة المصادر الإسلامية بعناية، وتحت إمرته، أنجزت سنة 1143م، أولى الترجمات اللاّتينية للقرآن، من طرف الأنجليزي روبارت دي كتون. والتي نشرت مصحوبة بتعليقات حجاجية-جدلية لبييترو ضد الإسلام، عدّت حجر الأساس في دراسة الإسلام، ووضعت حدّا لحقبة الجهل، فللمرّة الأولى توفّرت للغرب وسيلة لدراسة جدّية للإسلام.
ولا يدخل توما الأكويني بين رواد الحوار مع المسلمين في قلب القرون الوسطى، فقد عرف الإسلام عبر مؤلفات كبار الفلاسفة المسلمين وزعم اقتداره الدفاع عن عقائد المسيحيين من خلال وجهة نظر فلسفية عقلية، ودون إيلاء اهتمام بالقرآن أو التحاور مع المسلمين.
البندقية "عاهرة الأتراك"
انطلق التحقير ورفض كل ما هو عربي، بما في ذلك اللّغة، مع فترة النّهضة. فخلال 1530م أحرق البابا كليمونت السّابع نصّ القرآن العربي بعد نشره مباشرة، أمام التهديد العسكري المتنامي، الذي مثّله الأتراك للمسيحية (1529م أمام أبواب فيينا، 1541م غزو بودابست!). فقد تم نشر النص القرآني في البندقية التي كانت تتعاون منذ أمد مع الإمبراطورية العثمانية، بصفتها قوة سياسية كبرى في المتوسط الشرقي، مما أثار النقمة عليها ونعتها بـ"عاهرة الأتراك".
فحتى دعوات الإصلاح المرتفعة داخل الكنيسة فلم يواكبها إصلاح باتجاه رؤية الإسلام. لوثر من جانبه، صرّح بموافقته على ترجمة القرآن ونشره، لكن غاية ذلك أن يعرف كلّ فرد أيّ كتاب -والذمّ لِلُثور- ملعون هذا، وفاسد ومليء بالأكاذيب والبدع، وأي صنف من الشناعة يحوي! فلوثر بسبب التهديد العسكري الدّاهم، وبسبب خشيته الذاتية الأبوكاليسية كان تسيطر عليه رؤية شيطانية للمسلمين وللمهيمنين الأتراك، بصفتهم خدم الشيطان. ففي تلك الحقبة التي يوشك أن ينتهي فيها العالم، محمّد هو نبي كاذب تسيّره الغريزة والإسلام هو نقيض للمسيحية.
وقد تواصلت نفس المواقف من النبي محمّد وشاعت، فنجد كتاب فولتار "محمّد" يقدّم في المسرح في مدينة ليل خلال 1741م، معبرا فيه عن احتقار له، وعارضا إياه بشكل سلبي كرجل سلطوي.
ولكن في فترة لاحقة مع لويس ماسينيون، نجد الأمر يسير نحو التحوّل، حيث يقف ضدّ ذلك التمشّي طالبا من المسيحيين القيام بـ"ثورة كوبرنيكية روحية"، ويعرض التآلف بين دين الأمل (اليهودية)، ودين المحبة (المسيحية)، ودين الإيمان (الإسلام).
تخلّف المسلمين:
تشغل كونغ مسألة تخلّف العالم الإسلامي، فكأن المشكلة تهم حضارته، لذلك يطرح تخمينات من باب، كيف يتجرّأ رجل ديني مسيحي أن يضع نفسه في مناقشات وشؤون "داخلية للمسلمين"؟ إنه تحدّ أيضا للقارئ المسيحي: كيف يتجرأ لاهوتي مسيحي على الذهاب قدما للقاء المسلمين حول عديد الإشكاليات؟ ولكن الرؤية الشاملة للأديان الثلاثة هي التي تعمق لديه ذلك الالتزام الإبراهيمي.
إذ يرى أن معالجة مسألة التخلف، لا ينبغي أن تفسر سطحيا عبر عوامل عسكرية أو اقتصادية أو سياسية مباشرة، لكن من خلال وعي بالعمق الرّوحي-العقلي، كما تم التعبير عنه في الفلسفة واللاّهوت والقانون والتصوّف؛ إذ التطلّع للانتصار العسكري، وإلى الرفاهية الاقتصادية، وإلى الحرية السياسية لن يتيسّر سوى بالبحث عن العلوم والمعارف والفهم؛ فالأفكار الجديدة والإبداع لن تتواجد إلاّ في حضن ثقافة تتميّز بالشّغف المعرفي.
لذلك يذهب بجذور التخلّف بعيدا، كونه لم يبدأ مع العصر الحديث الأوروبي، بل منذ القرن الثّاني عشر، مع هجران الفلسفة، المعبّرة هن استقلالية الفكر العلمي. ففي تلك الفترة صار مستحيلا في الإسلام، الحديث عن حرّية جديدة للفكر والعمل، أي إبداع التصنيف واختلاق سبل مستجدّة للعيش؛ عندها تمت فرملة ديناميكية الثقافة الإسلامية والعلوم والتقنية، من خلال منع "ظهور العلماء" عديد القرون.
فدبّ قحط في الداخل وهيمنت أرثوذكسية مضادة للعقل والحرية، منعت في الإسلام، أساسا عشية النهضة الأوروبية، تطوّر العلوم والتقنيات الحديثة. فصارت الجامعات وفضاءات التدريس رهن استهلاك علوم جامدة تتناول الشريعة والحديث، فلأي شيء تصلح المعرفة القرآنية، إذ ما كان هناك جهل بالواقع، وإلى أي شيء يصلح التكوين الدّيني إذ ما كان التعليم غير كاف؟ ولم يكن المناخ مساعدا على تواجد العلماء، ولم تتوفر المقدرة على طرح أفكار جديدة أو إنتاج ابداعات علمية أو اكتشافات تقنية أو مبادرات اجتماعية. فالنقد الذاتي ما كان مسموحا به واستعيض عنه بثبات عند ما هو متواجد، لذلك لقي كلّ تنوير مقاومة. وهي حالة تتناقض كليا مع ما عرفته المجتمعات الإسلامية سابقا، فقد شارفت مستوى من التسامح، جعل اليهود المطاردين والمنشقّين المسيحيين يجدون فيها ملجأ. ويستشهد كونغ بقول لبرنار لويس ورد في كتابه "ما الخطأ": لقد قدّم العالم الإسلامي القروسطي حرية محدودة مقارنة بالمعايير الحديثة، لكنه منح حرية أكبر مما يتوفّر في أي مجتمع آخر سابق أو معاصر، أو مع عديد المجتمعات اللاّحقة.
ثم يتساءل كونغ ويجيب، لأيّ شيء يمكن إرجاع العقم الفكري للعالم الإسلامي في الفترة الحديثة؟ أريد الإجابة بشكل جوهري: ليس الإسلام بذاته السّبب، ولا نمط فكري محدّد، مادام ضمن فترته الزمنية؛ المشكلة تظهر حين يتمّ تكرار النّمط وتأبيده بما يتجاوز حقبته التاريخية. فالأنماط الدّينية تملك قدرة عالية على المقاومة والعيش، خصوصا في الحالات التي يطغى فيها الطّابع المؤسّساتي على الدّين، فتكون النتيجة اللاّإنتاج الفكري.
ومع الفترة الحديثة تم تخلّص نسبي من هذا التأبيد للأنماط الفكرية المتجاوزة تاريخيا، بتسريح طاقات هائلة ثقافية وفنية، لكن المجال الدّيني المركزي لم يشهد أي تحوّل جوهري في نمطه. فالحكومات العربية بقيت متوجّهة نحو الشّكل الإسلامي التقليدي، وكذلك الأتراك أيضا، كما بقيت المنطقة الماليزية الأندونيسية مرتبطة بعمق بالثقافات غير الإسلامية، ساد فوقها طابع إسلامي سطحي ليّن.

أيّ إسلام يريد المسلمون
ما سيكون حاسما في المستقبل، لن يكون خيار "العالم" أو "الغرب" لنمط معين من الإسلام، لكن خيار المسلمين أنفسهم. فقد سادت في تاريخ الحضارة الإسلامية معايير مختلفة:
معيار الجماعة الإسلامية البدئية.
معيار الإمبراطورية العربية.
المعيار الإسلامي الكلاسيكي للدّين الكوني.
معيار الحداثة.
يقول كونغ: لقد توقّفت عديد المرات عند نقطة النّمط، ففي تاريخ العلوم الطبيعية، يتم تجاوز المعايير القديمة، فورا بمجرد تسفيه المعطيات الرّياضية والتجريبية جدواها. فتسقط مباشرة ولا يُلزَم أي طالب في علم الفلك، مثلا، بدراسة النظام الشمسي البطليموسي، المتجاوز من النظام الكوبرنيكي. لكن في تاريخ الأديان، تستمر المعايير القديمة بالتواجد، وعادة في مجمل الحالات مصحوبة بتغيرات قوية. في حقل الدّين (كما في الباقي، بشكل غير مختلف كثيرا، أيضا في الفن) فإن الرياضيات والتجارب المخبرية ليست وسائل فعلية للإثبات أو التكذيب. فكما حصل في اليهودية والمسيحية، حصل أيضا في الإسلام، حيث ظهرت أنواع من الصراعات الداخلية ليست قليلة الأهمية، خلقت تعاصرا بين المعايير المختلفة والسائدة، ذات الخاصيات اللاّهوتية أو الإيديولوجية، مع مفاهيم مختلفة للواقع ولأنماط العيش.
بدون شك، مثلما ثلمت، في أعين العديد، التراتبية الكاثوليكية الرومانية -فترة صلافتها وصلابتها- مصداقية المسيحية، هكذا حدّت التراتبية الإسلامية غير السّمحة والدغمائية من مصداقية الإسلام. في إيران، مع عديد الفئات الجديدة، عدّ الإسلام تجاوزا، ولكن بسبب هذه العوامل من الصعب على الطروحات الإسلامية الإيرانية في الزمن المعاصر أن تصير أنموذجا تتطلّع إليها جموع المسلمين. لذلك، يؤيد كونغ ما يذهب إليه عالم الاجتماع الفرنسي جيل كيبيل، عندما يحلّل بشكل مختلف مسار الحركات الإسلامية في الرّبع الأخير من القرن الماضي، فيتبين له تجاوز مفاهيم الطروحات الإسلامية المناضلة، لأنها لم تف بوعودها في تطوّر حرّ، اجتماعي وديمقراطي للشعوب الإسلامية. لذلك يتساءل اليوم بعض المسلمين إذ ما كان بلوغ الهدف يمكن أن يتحقق من خلال طرق مسارات مغايرة؟
مستقبل العالم الإسلامي
تميز العالم الإسلامي، خلال القرن العشرين، بتحوّلات مطّردة. فالبلدان، كلّ على حدة، تبدو مقودة بحكومات تستبطن مبادئ جدّ متغايرة: موالية للغرب أو مضادة له، رأسمالية أو اشتراكية، كذلك مختلفة في الحدة السلطوية. كما أن الحدود بين مختلف التيارات رخوة، والتحالفات بين مختلف الأحزاب والتجمعات متحوّلة.
لتلك الأسباب، يبدو مستقبل الإسلام في القرن الواحد والعشرين غير قابل للتوصيف المضبوط، إذ يبدو مشرّعا على احتمالات عدّة. كما هناك في الإسلام تعدّدية في النظرية والتطبيق تهوّن من ذلك اليقين بمستقبل مضبوط. فلا أحد بإمكانه الرّجم بغيب لا ريب فيه، لأن التكهنات الممكنة عديدة.
رئيس الوزراء الماليزي السابق مهاتير محمّد في خطاب التوديع لخص إشكالية العالم الإسلامي بقوله: "أحببنا أم كرهنا، علينا تغيير الطريق: لا يتعلّق الأمر بتغيير الدّين، لكن بتغيير الشكل الذي نستعمل به تعاليم ديننا في الوضع الراهن. العالم اليوم تبدّل كلّيا عمّا كان عليه خلال القرن القرن الإسلامي الأوّل".
فبعض الظواهر من شأنها أن تؤثّر على منطقة هامة من العالم الإسلامي وهي البلاد العربية، المتكوّنة من 22 دولة، بمجموع سكاني يناهز 300 مليونا، الثلثان منهم أعمارهم دون الثلاثين، وفي المستقبل القريب خلال سنة 2020 مرشّحة أن تبلغ بين 410-459 مليون نسمة! ما هو مستقبلهم في هذه الحالة؟ أعليهم بالهجرة؟ أصحاب الشهادات بإمكانهم ذلك، فبين العامين 1995-1996 ترك 25% من المجازين بلدانهم الأصلية، وخلال العامين 1998-2000 هجر 15.000 طبيبا العالم العربي. هذه الظاهرة وشبيهاتها ليست حالات هامشية لكن مشكلة بنيوية، وأسباب دقيقة وراء ذلك: رداءة التسيير الحكومي، سوء الأداء والتصرف، الفساد، المحسوبية المنظمة، الشّره المنحلّ من أي رادع.
كذلك مصاريف التسلّح في البلدان العربية فهي ناخرة للاقتصاد العام، إذ يساوي معدّلها 6% من نسبة الدخل القومي الخام لكل بلد منفرد، في حين في الدول الغربية لا تتجاوز المصاريف 2% من الدّخل القومي الخام، وفقط في الولايات المتحدة تبلغ 4،5%.
كما يرفض حكّام البلاد العربية القيام بإصلاحات جوهرية خوفا من فقدان سلطاتهم. فالذين يتحكمّون بغيرهم، يسعون أن تبقى الأمور على حالها، وهو أمر لا ينبغي. فتقرير الأمم المتحدة يدعو لضغوطات اقتصادية وسياسية على الأنظمة السلطوية العربية، حتى تتخلّى عن بعض المواقع وتلتزم أكثر بمستقبل شعوبها، لكن في الأساس لن يحدث التغيير ما لم يكن من عمل الشعوب ذاتها.
 
Free Hit Counter Search Engine Submission - AddMe