السبت، 5 ديسمبر 2009

تصحيح الوعي بالدّين- د. عزالدّين عناية*

فرضت صيرورة تشكّل الأسس الحضارية في بلاد العرب حضور الدّيني مكوّنا جوهريا داخل العملية، عرف التلازم خلالها تمظهرات عدّة. وداخل التبدّلات والتحوّلات الممتدّة عبر القرون، لايزال الدّيني يحضر في الفرد وفي الشخصية العامة بعد مسيرة حافلة بشتى التقلّبات، الأمر الذي يطرح سؤال تراكم الوعي من انعدامه في تلك العلاقة الجدلية، ومما يجوّز الحديث عن علاقة متأسّسة على تطوّر هرمي متصاعد من الجاهلية إلى العرفانية، أو بالأحرى متراجع نحو اندثار الوعي وتلاشيه.
فعبر القرن السالف تمّ جدل واسع بين النّخب العربية تناول عنصر الدّين، من حيث مشروعية حضوره على مستوى الذات وعلى مستوى المجتمع، من خلال التعرّض لمدى صوابية استهلاكه كرؤية معرفية تنشيطية، عبر استيعابه في الفلسفة الاجتماعية من خلال التربية والمعرفة والاستفزاز الشعبي. كما جرى التعرض بالمقابل للامشروعية حضوره –ودون التخفّي على ذلك أو التستّر عنه- سواء على مستوى الفرد أو الجمع، وما بينهما من تنوّعات تنزع إلى أحد النجدين قربا وبعدا. ولكن ذلك الجدل الواسع، نلفت إلى خاصية أساسية ومركزية فيه، فقد تميز بغياب المتابعة العلمية للظاهرة الدينية بمفهوم "علم الأديان"، التي ظلّت منعدمة، لافتقاد التقليد العلمي المتابع للمقدّس، وهيمنة المقاربة اللاّهوتية الإيمانية ونقيضتها المضادّة لها اللاّلاهوتية.
فبرغم أن العرب من أكثر الأمم، إن لم نقل في مقدّمتهم، من حيث إنتاج المقدّس واستهلاكه، وتوظيفه، والذي انعكس على مكوّنات هويتهم الحضارية الأساسية. فإن ذلك التعامل على ثرائه واتساعه، بقي الحديث عنه ظاهريا سطحيا، ولم يتعدّاه إلى الحصر والتقصّي، والإحصاء والضّبط، وتفسير احتشاد الدلالات والمعاني في ذلك الحقل، على خلاف ما هو موجود في بلاد أخرى أقل شأنا في ذلك، لكنها وفّقت في قطع شوط معرفي من حيث العلاقة الاجتماعية بالمقدّس. إذ تخلو الساحة لدينا حتى الآن من إحصائيات مضبوطة تتعلّق بالنّفاتيين واللاّإدريين، وبالمتشكّكين والمؤمنين، كما ليس هناك تصنيفات مضبوطة لتنوّعات المتديّنين وتنوّعات غير المتديّنين، من ممارسي الطقوس ومهمليها ومنكريها، كما ليس هناك تبويب لمفاهيم الدّين بين الناس، من حيث رؤاهم وتصوّراتهم عنه، وما نجده هو تعريفات للدّين والمتديّن، والمؤمن والكافر، والعابد والمعبود والعبادة، ضمن رؤى فقهية مغتربة.
وكلّيات الشريعة التي طالما ألقيت على كاهلها المسؤولية المعرفية في ذلك، لازالت تدرُس الدّين وتدرّسه من حيث كيف يجب أن يكون، وتهمله من حيث واقع ما هو موجود، ولذلك تعجز عن التحكّم بمقدرات الدّين وبمصائر الواقع وتحوّلاته. فهي تدرّس أركان الدّين من صلاة وصيام وزكاة وحجّ، ولكنها تجهل وقائع الإتيان بهذه الشعائر من عدمها، ومنشئها من امحائها في النفسية البشرية، لما توليه من تنكّر لعلم النّفس الدّيني، وعلم الاجتماع الدّيني، والإناسة الدّينية، وغيرها من العلوم التي لا يفهم الدّين في غيابها اليوم، مما أبقى ظواهر دينية عديدة يطفح بها الواقع بعيدة عن قدرة استيعاب المناهج التقليدية. فمثلا لا تزال ظواهر دينية لافتة مثل الكلف بالصوم في المغرب الكبير، على خلاف التهاون في أداء الصلاة، في مقابل عناية بالصلاة في المشرق العربي تفوق الاهتمام بالصوم، والأمر يحتاج إلى مساءلة وتفسير وإحصاء، وليس عبر المرور السّطحي على الوقائع من خلال قوله تعالى:"ولكن الله يهدي من يشاء". وكذلك يبقى الدور الدّافعي والتنشيطي للدّين في التحوّلات الاقتصادية ببعده الفيبيري، على ما أجلاه صاحبه في "الأخلاق البروتستانية وروح الرأسمالية"، غائبا عن رصد العقل الإسلامي في كلّيات الشريعة، من حيث تبين دوره وأثره. إذ من داخل المقاربة الفهمية للواقع يتيّسر بناء معرفة واضحة وعلمية بالدين، وبتعبير علمي جامع هناك غياب لعلم اجتماع التديّن ولعلم اجتماع اللاّتديّن في الآن، وما نراه ما هي سوى معارف لاهوتية تعجز أن ترى الدّين من خارج، أو أن تحيط بكنهه في انفصاله عن الذّات.
وبالإضافة لتلك الإشكالية، يظل حقل الديني حتى راهننا الحالي، رهينا لرؤية سياسوية فقهوية أعمت عن غيرهما. وقد تعمّقت هذه العاهة منذ أن نشأت بدعة المطالبة بالاعتراف الحزبي بالدّيني، والتي دخل الدّيني معها في عملية محكومة بالنفي والاعتراف، تراوحت بين قوننة اللاّعتراف واستحواذ الدّولة على نسخة الدّين الرّسمية والصائبة والمشروعة، ومن جانب آخر عبر اعتراف نسبي حدّدت فيه الدولةُ النوعيةَ، والإيديولوجيا، وحجم التكتّل الحزبي المسموح به وحتى رموزه. وقد ظل التعامل كاشفا عن افتقاد السّوق الدّينية للانفتاح والتحرير، التي يستلزم فتح أبوابها لكافة المتنافسين والمتزاحمين، "قل كل متربّص فتربصوا فستعلمون من أصحاب الصراط السوي ومن اهتدى" (سورة طه: 135). إذ بقيت السلطة، من حيث تصوّرها للدين، تمثل الفرقة الناجية ودونها في ضلال وسائر إلى هلاك. ولا أدلّ على ذلك من احتكارها الخطاب الصائب والقول الفصل فيما يتعلّق باقتصاد الدين جمعا، وإلا ما معنى أن وسائل التعبير تمتد في الغرب حتى لتواجد النوادي والجمعيات والأحزاب والصحف والمجلات الناطقة باسم الملاحدة والكفرة، وفي البلدان العربية لا تتوفر تلك الإمكانيات حتى للمؤمنين.
إذ تتواجد إشكالية جوهرية متعلّقة بالموضوع، عائد أمرها بالأساس للنخبة الفكرية المنشغلة بالدّين، وأيا كانت نوعية انشغالاتها، الممتدة من نمط حسن الترابي إلى نمط صادق جلال العظم، من الطرح الذي يرى في أنه كلما زاد في الأمّة تديّنها زاد خيرها، وكلّما نقص دينها نقصت ثروتها، إلى من يرى نقيض ذلك. فهي لم تدفع-تلك النخبة- بالمقاربة العلمية، حتى تتابع وقائع المقدس المنغرسة في الاجتماعي، داخل مجال يتكفّل العقل فيه بشرح محتوياتها، ومتابعة حضورها وتطوّرها وانتكاسها، وشرح مطالبها ومستلزماتها. بل ما نجد انماؤه والسّهر على رعايته، بين هذين الحدّين، هو المقاربة الإيديولوجية، سواء في شكلها الدغمائي الحماسي أو في شكلها الدّغمائي التّنحوي. ولذلك يبقى حضور الظاهرة الدينية في البلاد العربية منعدما خارج القوسين اللذين أشرنا.
فداخل تلك الأدلجة ذات الوجهين المتقابلين حصلت متاهة الوعي بالواقعة، وهو ما أدى لاختناق حقلها برغم رحابته، لذلك يبقى الشائع والغالب، إما التحزّب الدّاخلي للتصوّرات الدّينية، التي يراد تحويلها إلى رؤية اجتماعية مكرِهة للمجتمع بأسره، باعتبارها مركز الجنّتين الأخروية والدنيوية، أو ما نجده بالمقابل ضمن تحزّب خارجي، ناف لكافة تجلّياته وأنشطته الاجتماعية، يُعمل فيها على تنقيته ونفيه، سواء من الاجتماع أو السياسة أو التربية، دون التبين لماهية المنزوع ومدى نفعيته من عدمها. لذلك تبدو أزمة الواقع العربي في علاقته بالدّيني ناتجة بالأساس عن نمط الوعي الذي انحصر فيه التعامل مع الدين وليس في الدين ذاته.
فالتعامل المتضاد مع المسألة الدينية في ذهن عديد المثقّفين العرب، ولّد تحزّبا عقيما منبن على قاعدة مع الدّين أو ضدّ الدين في حضوره السياسي. وهي نظرة لطالما خنقت الدين كمنظومة ثقافية حضارية، لكونه أوسع من الإطار الذي حشر فيه. وقد أفرز هذا التضاد الذي أشرنا إليه حالة من الاحتراب والتنازع، فيندر أن يجري لقاء أو تدار محاورة بين ممثلي ذينك الطرفين ولا تتم في كنف الاتهام والتقوّل والردّ والاعتراض. لعل الهرمين الفكريين حسن الترابي وصادق جلال العظم -من خلال اللّقاء الذي رعته بينهما قناة الجزيرة عبر برنامج "الاتجاه المعاكس" يوم:20 جانفي 2004- خير من مثّلا هذه العقلية الاحترابية التي صارت مهيمنة وشائعة لدينا في تصوّر الدّين. وكان الأولى أن يقدّما المثل، ويتم الحوار بينهما في كنف مقاربة الظواهر والوقائع بمناهج مختلفة، وتجنّب عقلية التكذيب والتبكيت والإلغاء للآخر، وهي من مخلّفات أدب المل والنحل الذي لا يزال مهيمنا على التصوّر للمسائل الدينية. حتى تشكّل تكتّلان صغيران من حيث موقفهما من الدين، يجرّان حشدا كبيرا، تارة إلى هؤلاء وتارة إلى هؤلاء، يتخاصمان فيه لسحب أكبر عدد ممكن، ولا وسيلة في ذلك إلا الدّمغجة والسفسطة بوسائلهما المتنوعة. فكيف لزعماء تيّارات فكرية وسياسية يمارسون الاحتراب والنّفي فيما بينهم أن يطالبوا السّلطات بالممارسة الديمقراطية، فهنا إحدى التناقضات الكبرى للنّخب العربية المتطلّعة للديمقراطية وغير المدركة لمستلزمات العملية وموجباتها!
ففي غمرة الأدلجة للدّين، التي أفرزت كل ما نراه من موبقات التطرّف والشمولية والتلاعب والخرافة والواحدية، ظهرت التعلّة السلطوية القائلة بسدّ الطريق أمام الإسلاميين الساعين لاختطاف السلطة، إحدى المبرّرات التي تعللت بها عديد الأنظمة لتأجيل الديمقراطية، والذي انعكس على ابطاء تنشئة الخطاب الديني الديمقراطي الحرّ، كل ذلك بدعوى المحافظة على التوازنات الاستراتيجية داخل المجتمع. وقد ساهمت تلك العملية في تعطيل التطور والانماء، وهي من أخبث الحيل التي أنتجتها الأجهزة الاستنفاعية للاستمرار في تكديس الثروات واستنزاف خيرات البلدان ولا رقيب ولا حسيب. وربما هشاشة البناء الإيديولوجي والمبدئي لعديد أحزاب المعارضة، ما جعل عديد منها يستسلم لهذه الأطروحة ويتبناها. ولا يمكن القول أن التخوّفات غير جائزة سواء، من الأطراف السلطوية أو المعارضة، ولكن أن يصير التخوّف مانعا ومثبتا لحركية المجتمع، من أجل رجم بالغيب لم يقع، فهو عين الخطأ. فكما أوجز الأستاذ برهان غليون تلك الخدعة في كتابه: "الاختيار الديمقراطي في سورية" المنشور في دار بترا، ص: 139 بشكل كاف شاف بقوله: "التحوّط من الفاشية المحتملة لا يكون بتخليد الدكتاتورية".
بناء على ذلك، فالتحرّر ينطلق من تجاوز النظرة السياسوية للدّيني التي سادت عبر القرن الماضي، والالتزام الحق بالواقعة الدينية في تخليصها من هذا الارتهان، وتحويل الاشتغال بها نحو وجهة علمية ومعرفية تتجاوز ضيق الأدلجة التي خنقتها. ولن يتيسر ذلك إلا من خلال افتكاك كل فرد سهمه من الثّروة الدّينية، سواء أكان عبر الممارسة أو الفهم أو الوعي، فالدّين المودع صدقه، وفهمه، وكنهه، لدى المجامع الفقهية ولدى سماحة المفتي والمجالس الإسلامية العليا، في حاجة إلى إعادة توزيع بين الناس حتى لا يفعل المفتي ما فعله جحا عندما ولّي سلطة الإفتاء، على حسب ما صوره التندّر الشعبي، في قصة الرجل الذي استفتاه: يا جحا إن الكلب بال على حائط فكيف يطهر؟ فأجاب: يهدّ الحائط ويبنى سبع مرّات. فردّ الرجل: ولكنّه الحائط الذي بين داري ودارك. فقال جحا: إذا كان الأمر كذلك، فيكفي قليل من الماء ليطهر. لذلك تبقى الضرورة ملحّة لتنشئة مستويات من الانفتاحية، تتحرر فيها المجتمعات دينيا، حتى تستهلك ما تريد وترتئي ما تريد، في نطاق عقد ديني احترامي بين كافة القوى المنتِجة والمستهلِكة. فما تعرضه الدّولة من خطاب ديني صار لا يكفي، أو بالأحرى لا يعبّر عن الرّوح الجماعية التي حدثت فيها تبدّلات، لم يجارها الوعي الدّيني المقدّم. إذ التناقض المتواجد بين المطلب الاجتماعي والموجود الاجتماعي متأسس على خلل في العلاقة، وهو ما سبب جل العلل ذات الطابع السوسيوديني، من تعصّب ونفي للحرّيات وغيرها.
فقد كان جراء افتقاد النظرية العلائقية العقلانية مع الدين، أن صارت الأمة التي ظهرت من بين أحضانها أعظم الفلسفات الرّوحية والدّينية، المنتشرة على مدى الكون، تتلقّى أوامر خارجية بإحداث الإصلاح الدّيني فيما يتعلق بوعي ثروتها الرّوحية، والمنطقي والواقعي أن تكون هي النموذج والمثال بفعل ثرائها. وكأن التجربة التاريخية لم تفد في شيء من حيث إدراك الفلسفة التطورية والتحررية للمقدس، حتى يهتدي العرب بغيرهم في التعامل مع الدين. ولذلك من هذا الباب يتستلزم تجديد المنهج في التعامل مع الواقع الدّيني، لتجاوز سقطات الداخل وإكراهات الخارج.
 
Free Hit Counter Search Engine Submission - AddMe