الأربعاء، 2 ديسمبر 2009

نشوء -الأصولوية الإسلاموية- ( 8 ) نجيب الخنيزي

نشوء -الأصولوية الإسلاموية


نجيب الخنيزي


 بداية، علينا التمييز داخل الإسلام، بين ثلاثة مستويات وتمظهراته المصاحبة له. المستوى الأول: يتمثل في النص (الإلهي) الأول والمؤسس وهو القرآن الكريم، ثم الثابت وقطعي الدلالة من السنة، والأحاديث والسيرة النبوية الشريفة المبينة للنبي (ص) فيما يتعلق بتفاصيل وتطبيق بعض أحكام الإسلام (العبادات) مثل الصلاة ومناسك الحج، وبعض المعاملات التي هي ثابتة في آيات القرآن، مع الأخذ بعين الاعتبار أسباب النزول، والناسخ والمنسوخ منها من جهة، أو الأحاديث والسياسات الدنيوية (العمران وفقاً للمفهوم الخلدوني ) المتغيرة، وفقا للقول المأثور للنبي " أنتم أدرى بشؤون دنياكم . "
المستوى الثاني: القراءة والتفاسير والشروح الفقهية (البشرية) المختلفة للقرآن وأحكامه، ورواة الحديث والسيرة النبوية، وما يستنبط منها من أحكام واجتهادات، والتي تمثلت في حضور الكم الهائل (المتنوع) من المذاهب، الفرق المذهبية، الشخصيات والمدارس الفقهية.
المستوى الثالث: يتمثل في الإسلام (العامي) الذي يتمثل في الذهنية والتصورات والممارسة الشعبية للدين، والتي يخترقها غالباً المخيال (الأسطوري ( الشعبي، على غرار الإيمان بالخرافات والخزعبلات، واللجوء إلى الشعوذة والسحر، والتعلق بشخصيات حقيقية أو وهمية، يضفى عليها هالة من القداسة والقدرة على اجتراح المعجزات، والتقرب إلى " الأولياء " بالنذور والأدعية. غير أنه إلى جانب هذه المستويات الثلاثة، استجد وبرز مستوى رابع منذ عشرينات القرن الماضي، تمثل في ظاهرة الأحزاب الأيديولوجية - السياسية ذات المحتوى الديني، أي تلك الحركات " الأصولوية الإسلاموية " التي تستند إلى الأيديولوجية الدينية، وتوظفها بصورة نفعية، في خدمة مشروعها وبرنامجها السياسي الدنيوي، الذي يستهدف التغير الراديكالي وإسقاط الحكومات وتغير المجتمعات " الجاهلية " أو " الكافرة " التي لا يحكمها الإسلام، ولا تتمثل تعاليمه وفقاً لتصورها، وذلك تحت عناوين مثل " الولاء والبراء " و" دار الحرب ودار الإسلام " و " جهاد الدفع وجهاد الطلب " وشعارات من قبيل " الإسلام هو الحل " و " الحاكمية لله" ومن خلال انتهاج منهج الإقصاء والتكفير العنف والإرهاب، وهي بذلك تشكل ظاهرة مستجدة خطيرة، تختلف إلى حد كبير (رغم جذرهما الفكري المشترك) عن الأصولية الإسلامية ( التقليدية) التي تستند إلى أصول القرآن والسنة النبوية، وإلى المذاهب والآراء الفقهية المعروفة، وتعمل على تطبيقها، وفقاً لفهمها ومتبنياتها الفقهية أو من خلال الاجتهاد وفقاً للمتغيرات والمستجدات على أرض الواقع من جهة، كما تتخذ موقف الرفض والعداء إزاء دعوات الإصلاح وتجديد الخطاب الديني، الذي تضمنه المشروع النهضوي منذ منتصف القرن التاسع عشر لمواجهة أسئلة ومتطلبات وتحديات الحضارة الغربية المعاصرة لهم، وتمثل في كثير من رجال الدين المتنورين من أمثال طهطاوي، الأفغاني، عبده، عبدالرازق وغيرهم من جهة أخرى.
إنها أصولية، تتمسك حرفياً بالأصول، وتعمل على تطبيقها كما وردت، بغض النظر عن المستجدات والضرورات (التي تبيح المحظورات ) والمصالح المرسلة التي يفرضها متغيرات الواقع والعصر. نستطيع القول إن هناك مثالاً تاريخياً قديماً لهذه «الأصولوية الإسلاموية» الجديدة تمثل في حركة الخوارج، الذين خرجوا على الإمام علي، وكفروه وحاربوه تحت شعار «لا حكم إلا لله». على خطى ذلك النهج والمنوال، نشأت «الأصولوية الإسلاموية» المعاصرة وزادت عليه.
كتب حسن البنا «كان الأفغاني يرى المشكلات ويحذر منها، وكان محمد عبده يعلم ويفكر، ورشيد رضا يكتب أبحاثاً وهم جميعاً مصلحون دينيون وأخلاقيون يفتقدون الرؤية الإسلامية الشاملة». وفي كتابه «الرجل الذي أشعل الثورة»، أشار أحد زعماء الإخوان أحمد الحجاجي إلى «أن دعوة حسن البنا تتميز عن غيرها بأنها تعني الجهاد والنضال والعمل، وأنها ليست مجرد رسالة فلسفية». وقد جاء في مقال منشور لمؤسس حركة الإخوان المسلمين حسن البنا تحت عنوان «بين السياسة والدين» نشره في مارس/ آذار 1945 في صحيفة الإخوان المسلمين ما يلي «أتحسب أن المسلم الذي يرضى بحياتنا اليوم ويتفرغ للعبادة ويترك الدنيا والسياسة للعجزة والآثمين.. يسمى مسلماً؟ كلا إنه ليس بمسلم، فحقيقة الإسلام جهاد وعمل ودين ودولة» كما كتب في مجلة النذير (مايو/ أيار 1938) رافضاً السياسيين في الحكم، وفي الأحزاب المعارضة والمغايرة للإخوان تحت عنوان " أيها الإخوان تجهزوا.. ستخاصمون هؤلاء جميعاً في الحكم وخارجه خصومة شديدة لديدة إن لم يستجيبوا لكم" .
هذه الأطروحات المتطرفة والإقصائية لم تمنع انتهاج الانتهازية والمداهنة السياسية المؤقتة، إزاء السلطة (أياً كانت) وإخفاء المواقف والأهداف الحقيقية، بغرض الاستقواء، وقد ذكر حسن البنا ذلك بصراحة في رسالة المؤتمر الخامس، حيث قال «أيها الإخوان: لا تصادموا نواميس الكون فإنها غلابة، ولكن غالبوها، واستخدموها، وحولوا تيارها، واستعينوا ببعضها على بعض، وترقبوا ساعة النصر وما هي منكم ببعيد». وضمن سياق مبدأ التقية والتزلف والتغطية على الأهداف الحقيقية للإخوان المسلمين كتب البنا في «النذير» يونيو/ حزيران 1938 " إن 300 مليون مسلم في العالم تهفوا أرواحهم إلى الملك الفاضل الذين يبايعونه على أن يموتوا بين يديه جنوداً للمصحف، وأكبر الظن أن الله قد اختار لهذه الهداية العامة الفاروق، فعلى بركة الله يا جلالة الملك، ومن ورائك أخلص جنودك[1 " .
كما نشرت صحيفة الإخوان المسلمين «يقولون إنّ الناس على دين ملوكهم، ونحمد الله ونشكر فضله على أنّ رب البيت يضرب المثل الأعلى في سمو النفس وعلو الهمة». ثم نقرأ أيضاً «يا أيّها الوزراء والعظماء هلموا إلى المثل الأعلى صاحب الجلالة فاروق الأول، ومادام الناس على دين ملوكهم فإنّ الوطن يرجو أن يتم له على أيدي الوزراء والعظماء كل خير». وفي ذروة الصراع بين حزب الوفد، والقصر المسنود من قبل السفارة البريطانية، خرج الإخوان في مظاهرة صاخبة أحاطت بقصر عابدين هاتفة «الله مع الملك» وخرج الملك لتحية المظاهرة ست مرات من شرفة قصره قائلاً: «نعم الله معنا[2]». وتعتبر الجماعة الملك فاروق أنّه «الأسوة الحسنة والمثل الأعلى لأمته[3]». ثم يوجه البنا حديثه للملك قائلاً «إنّ شعبك الذي عرفك مؤمناً صالحاً تقياً ووثق بك مجاهداً، وأنّ هذا الشباب الذي ناديته فلبى، وهبت به فاستعد، ليعلن بهذه المناسبة السعيدة عظيم إخلاصه وولائه للعرش المفدى، وقد عرف فيك شعبك المنقذ له، والحارس لدينه، والساهر على رعاية مصالحه والداعي إلى الخير والفضيلة فيه بالقول والعمل، فأحبك وأخلص لعرشك من قرارة نفسه، وعقد على عهدك الرجاء، وكنت عنده رمز الأمل[4]» ولم يتردد الإخوان المسلمون في تأييد رئيس الوزراء الطاغية إسماعيل صدقي الذي وقع مع بريطانيا على معاهدة 1936 المعروفة بمعاهدة صدقي - بيفن وخرجت مظاهرة للإخوان تأييداً لها رفع فيها شعار عبارة عن الآية " واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد."
[1] رفعت السعيد، «قضايا فكرية - الأصوليات الإسلامية».
[2] صحيفة «الأهرام» 22 ديسمبر/ كانون الأول .1937
[3] صحيفة «الإخوان المسلمون»، 16 يونيو/ حزيران .1936
[4] راجع: كاريمان إبراهيم المغربي في كتابها «الإخوان المسلمون من حسن البنا إلى سيد قطب»، مقتطف عبارة البنا وردت في «النذير» مؤرخة في 8 محرم 1358 هجرية بعنوان: " ملك يدعو شعباً فيجيب."



 
Free Hit Counter Search Engine Submission - AddMe