السبت، 5 ديسمبر 2009

الشجاعة هي قوة الإرادة - زهير الخويلدي

"إن من يثبت وسط الأخطار ويتصرف حيالها كما يجب لهو أشجع بحق ممن يسلك بثبات في الأوضاع المطمئنة."[1]
لا يمكن الحديث عن الفلسفة إذا ما أهملت الشجاعة لاسيما وأن أهم فضيلة ينبغي أن يتحلى بها الفيلسوف هي أن يكون شجاعا ، وطالما أن هذه  الهيئة الأخلاقية هي من الأمور صعبة التحقيق وترتبط بالمشقة والمكابدة ولذلك ظلت موضع مدح وتعظيم، وقد وضعت الشجاعة منذ القدم جنبا إلى جنب مع الحكمة والعفة والعدالة ولكنها في الفترة الحديثة أصبحت مقترنة بالإرادة والحرية والقوة تقاوم إغراء اللذة وتتغلب على كل تخوف من الألم.
إن أهم مبرر يدعونا إلى الاهتمام بمسألة الشجاعة هو ما نشاهده اليوم بأم أعيننا من استيلاء الكسل والجبن على النفوس وتعمد اختيار القعود والانتظار على الحركة والنشاط وبروز ضعف الشخصية وانحطاط مستوى الارتقاء لدى الأفراد والوقوع فريسة الاستلاب والسعادة الوهمية وفقدان القيمة الذاتية عند كل فرد وتفضيل العيش مع الحشود رغم ما يسببه ذلك من امتثالية للسائد ورضوخ للعادة والاقتناع بحياة القطيع.
إن الشجاعة هي الثبات عند كل خطر وضبط النفس أثناء مواجهة كل محنة وذلك بالانتصار على الخوف واعتماد الجسارة والإقدام والتحلي بقوة الشكيمة ورباطة الجأش والصبر على وقوع الشر وحضور الذهن عند الشدائد وذهاب التشتت عن العقل وحضور التركيز والحصافة والكيس والفطنة في كل موقف عصيب والقدرة على احتمال النوائب وتقلبات الدهر.إن الموقف الشجاع  هو الموقف النقدي الذي يحتكم إليه المرء عند المحاسبة والمراقبة وقول الحق والشهادة على العصر وهو كذلك ما يميز الإنسان وتعوز الحيوان لارتباطها بالقوة الغضبية والإرادة العاقلة التي تجعلها تقاوم الميول.
" إن كثيرا من الأعمال اليومية يحتاج إلى شجاعة لا تقل عن شجاعة الجنود"[2]وإن الشجاعة ترتبط بالسلوك اليومي للبشر وتتنزل مكانة مرموقة في سلم القيم وهي كذلك مبدأ يتقمصه الفرد بشكل منعزل وتؤمن به المجموعات وتسطر على ضوئه طباعها ومزاجها، وعلاوة على ذلك هي مناخ عام يتنفسه الناس في لحظات المنعطفات والتحولات الكبرى التي تمر بها الشعوب وقد تتحول إلى عقيدة مشتركة ورأي جماعي في لحظات المواجهة والتحدي وترتبط بالعزيمة والإرادة. وربما الشعب الفاقد للشجاعة هو الشعب الذي له إرادة ضعيفة أو تكون إرادته سيئة وشريرة وتتغلب عليه انفعالات الجبن والتملق، أما الشعب الشجاع فهو الشعب المغامر الذي يحبذ أفراده التجول والسفر ويهيمن على الطبيعة ويحل مشاكله مع العالم. ولكن يمكن أن نميز بين الشجاعة البدنية والشجاعة الأدبية حيث تتساوى شجاعة الكتاب والعلماء مع شجاعة المحاربين والسياسيين.
إن اللافت للنظر أن الشجاعة تفيد أيضا قوة الإرادة وإرادة القوة التي تنفذ موضوع تصميمها مهما كانت الضغوطات والموانع وتسعي لبلوغ الأهداف القصية والمرامي البعيدة.وتتكون الشجاعة من جملة من العناصر الطبيعية والملكات الروحية والأفعال الإرادية وتسعى إلى التوافق مع نظام الكون وماهية الإنسان وقد ذكر أبو حيان التوحيدي في المقابسات أن "الشجاعة قوة مركبة من العز والغضب تدعو إلى شهوة الانتقام. الجبن ضده"، لكن الحقيقة تبعد الشجاعة عن مثل هذه الانفعالات الدونية لأنها تأتي في مرتبة ثانية بعد الحكمة وتكون بجوار الحنكة وصواب الرأي وتمر بثلاثة مراحل تبدأ بالسرية ثم تعلن عن نفسها وتجهر بنضالها لتسمو في مرحلة ثالثة في مستوى الضمير أين ينحل التقابل بين الذاتي والموضوعي.
 من البين أن الشجاعة هي وسط عادل بين رذيلتين هما الجبن والتهور لاسيما وان الإفراط فيها يؤدي المغامرة والمقامرة والمهلك والتفريط فيها يؤدي إلى خلاف ذلك أي إلى الاستكانة والرضا بالذل وحياة الخضوع ولذلك ترتبط الشجاعة بالثقة والخشية في نفس الوقت، الثقة بالذات والخشية من الآخرين وقراءة ألف حساب لهم وعدم استسهالهم والاستهانة بهم. إن الغاية من الشجاعة ليس تحصيل المنفعة المادية وإنما نيل الشرف والمجد ولذلك كانت الشجاعة من الأمور المرغوب فيها ولم تكن من الأمور المتروكة. وقد قال أرسطو:"إن الشجاع يتحمل الآلام لأنه من النبل أن يتصرف على هذا النحو ومن المخجل له أن يتنصل منها وذلك شأن الملاكم الذي يتحمل اللكمات على أمل الفوز بالتاج"[3].
الشخص الشجاع يثورعلى الجبن ويجعل الحياة موضع رهان فإذا كان الجبان يفضل المحافظة على البقاء حتى في ظل العبودية فإن الشجاع يفضل الذكر الحسن على البقاء ويغالب التوجس ويواجه المصاعب بكل اقتدار. ومن المعلوم أن العالم لن ينقذه من بؤسه الجبناء المترددين بل الأشخاص الأحرار الذين لا يخضعون إلا لأنفسهم. وقد رأى أرسطو: أن الشجاعة لا تتمثل في قول ما نعتقده بل في الاعتقاد في ما نقول ويقصد أنها ترتبط بالصدق والانتماء إلى الحقيقة  والوفاء للمبدأ وانجاز العهود والالتزام بالمواثيق.
إن الشجاعة تعقل وجودة روية والتزام بطريق الفضيلة و"الاجتماع على الفضيلة لا يقع فيه تباين أصلا ولا تفاسد لأن الغرض في الفضيلة واحد هو الخير الذي يراد  لنفسه لا لشيء آخر غيره."[4]
ما نراهن عليه هو تحصيل الاستقامة في السلوك والسيطرة على النفس بتقوية الإرادة وتصليب الشخصية بالدراسة المتأنية للواقع والبحث عن الحقائق الأكثر عمق وبتحقيق الانسجام مع نظام الكون والتكيف مع المتغيرات والعمل وفق تكافؤ النواميس واختلاف الشرائع بالخروج من قوقعة الذات والتعاطف مع الغير وإيجاد وضعيات تعلم بالانطلاق من الأسئلة التالية: لماذا ينبغي على الإنسان أن يكون صالحا في حياته؟ وكيف يكتسب درجة الصلاح؟ وماذا يفعل بذلك؟ وما الفرق بين الصالح والفاسد؟ وما دور الشجاعة في مقاومة الفساد الذي أصاب الفرد واستشرى في المدينة؟
مجمل القول أن "الحشود تتفادى أية أخلاقية عالية ليس لأنها شريرة بل لأنها تفتقر إلى القدرة على أن تكون طيبة"[5] وأن الشجاعة الحقيقية هي العفو عند المقدرة وتفضيل التسامح في وضح غير متسامح والرغبة في السلم زمن الحرب والدعوة إلى زرع الأمل في عصر الجدب والتصحر وتحمل المسؤولية بشكل فردي في مجتمع يجمع على التنصل منها ويحتمي بالروح الجماعية للحشد تعويضا نفسيا لأناه الضعيفة قاصرة النمو ولرحم الأم الذي فصل عنه إلى المجهول.
إن الشجاع هو الذي يفهم حياته الخاصة ويعمقها بالتجارب ويجعلها منسجمة مع الحياة العامة يقدم على الخطر دون خوف وهو الذي يصبر على الألم دون شكوى ويبدي من الحصافة وشدة القلب عند البأس الشيء الكبير. ولا ترتبط الشجاعة بالحرب والقوة والعنف فهذه علامات ضعف بل ترتبط بالعقل والحكمة وبالتالي:"ليست الشجاعة أن نوكل إلى القوة حل النزاعات التي باستطاعة العقل أن يحلها بل هي دفع الإنسان إلى السمو." ربما تساعد الشجاعة الناس على العود على بدء والانخراط في مشروع الخلق الجديد والولادة الثانية التي ترتبط بانتصار شعلة الحرية الآدمية على سكون السببية الطبيعية، الم يقل الله عز وجل في القرآن في سورة ق:الآية 14 :"بل هم في لبس من خلق جديد"؟
لا تعني الشجاعة المجازفة بحياة الآخرين وتعريض مستقبل الحياة على الأرض للخطر بل تفيد السهر على ضمان وجود أحسن لإنسانية الآخر في المستقبل وتحمل المسؤولية والاعتراف بالدين تجاه الإنسانية واللاتبادلية معها وتعمل على أن تكون عواقب أفعال الإنسان غير هدامة وغير مفسدة لشروط البقاء على الأرض ومتسقة مع استمرار حياة إنسانية حقيقية على الأرض في المستقبل.
إن التدرب على الشجاعة هو جود من الوجود الغاية منه تمكين كل فرد من ترصيع مكان له في العالم ومن المساهمة في صناعة المشترك وأن يتكلم بالجملة الكونية ويعيش حياته بملء وعيه وبكامل مشيئته.
اللافت للنظر أن امتلاك الإنسان للشجاعة يساعده على الدنو من اكتساب درجات الكمال الإلهي والاتصاف بمقام الإنسان الكامل الذي ينطق بالكلمة الجامعة ويمثل الحقيقة الآدمية الكلية التي وصفها محي الدين ابن عربي في فصوص الحكم بأنها "عين جلاء مرآة العالم وروح الصورة التي يعطيها الله عن نفسه في المحل المنظور" . غني عن البيان أيضا أن الإنسان الشجاع هو الإنسان الكلي كامل الإرادة ناجز الفعل ومدبر العقل ومحقق الكينونة ومخرجها من العدم إلى الوجود. إن الشجاعة تجعل الإنسان ثباتا من جهة كينونته المعقولة وموجودا من جهة كينونته المحسوسة تصديقا لما قاله الشيخ الأكبر في فصوص الحكم:" ما كنت به في ثبوتك ظهرت به في وجودك." لكن أليس من الشجاعة أن نعتقد في أن مثل هذا القول: "ثم شيء فصار كونا وكان غيبا فصار عينا" هو القول الحق؟ ألا يؤدي هذا الإقرار بالشجاعة على الصعيد الوجودي إلى الاستنتاج بأن عالمنا هو أحسن العوالم ليس لكونه ممكنا بل لكونه واجب؟ وهل يمكن أن ننتهي إلى إثبات نظرية الأعيان الثابتة للإنسان الكلي التي تمنح للأشياء قدرة للظهور في العالم؟ ألم يقل ابن عربي في السياق نفسه:" لولا أن الشيء من قوته التكوين من نفسه، عند هذا القول ما تكون"؟ لكن أليس الافتقار إلى الشجاعة في استعمال العقل دون إشراف الغير هو واحد من الأسباب التي أبقت البشرية في حالة القصور والوصاية وحرمتها من الأنوار؟ ألم يكن شعار التنوير الأول هو : "تشجع على استعمال عقلك بنفسك وبطريقة منهجية وخاصة"؟ ماذا يفعل المرء بقيمة الشجاعة في ظل ظهور أخلاق الحياة والبيئة والمهنة والتجارة والإعلام؟ ألا تترجم الشجاعة ذاتها الاتكال الفردي على التصورات الكبرى لديانة التقدم وما رافقها من ارادوية volontarisme  مغشوشة؟  وكيف نعيد الروح لقيم أفقدت ثقافة ما بعد الأخلاق ثقة الإنسان بها؟
المراجع:
Aristote, Ethique à Nicomaque, Édition Vrin
أبو نصر الفارابي، فصول منتزعة ، دار المشرق بيروت،
أحمد أمين، كتاب الأخلاق، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 2005
جون ، باينس، أسس التعامل والأخلاق للقرن الواحد والعشرين، ترجمة أحمد رمو، دار علاء الدين للنشر والتوزيع والترجمة،دمشق، طبعة أولى 2002،
كاتب فلسفي
 
Free Hit Counter Search Engine Submission - AddMe