الأربعاء، 2 ديسمبر 2009

لا أزال مستمرّاً في عرض موضوع بلاغة القرآن الذي أفرد له الرصافي فصْلاً مُفصّلاً ومطوّلاً في كتابه الموسوم “الشخصيّة المحمّديّة” ابتداءً بالصفحة 614 حتى نهاية الصفحة 642 وقد وضع الرصافي بلاغة القرآن في ثلاث درجات؛ إذ ورد في الصفحة 616 {ليس كلّ آي القرآن في الذروة العليا من البلاغة كما يقولون، بل يقع بينها التفاضل، فمنها الأعلى ومنها الأوسط ومنها ما دون ذلك} وعزز الرصافي كلامه بأمثلة متنوّعة، تناولت في البداية تلك التي رآى فيها الرصافي أنها في الذروة العليا من البلاغة، ابتداءً بالحلقة الخامسة عشرة من هذا البحث، منها آل عمران: 64 (الحلقة 15) والنساء: 47 (الحلقة 16) والشعراء: 227 (الحلقتين 17 و 18) ومنها أيضاً سورة البقرة: 204 و 255 (آية الكرسي) و 286 وسورة الرعد: 8 وسورة النور: 35 وسأعلّق في هذه الحلقة على بلاغة الآية القرآنية 204 في سورة البقرة، لعلّي في حلقات قادمة أستكمل تعليقي على البلاغة التي في غيرها ممّا أشار إليه الرصافي.

وَرَدَ في ص 615 من كتاب الرصافي- رحمة الله عليه:
{وقوله في سورة البقرة: 204 (ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألدّ الخصام) إنّ أقدر البلغاء على البيان لا يستطيع أن يصف منافقاً بأبلغ من هذه الآية} انتهى

وسأقتطف أوّلاً من تفسير القرطبي لهذه الآية:
وقراءة ابن عباس: "والله يشهد على ما في قلبه" وقراءة الجماعة أبلغ في الذمّ؛ لأنه قوي على نفسه التزام الكلام الحسن، ثم ظهر من باطنه خلافه.

[تعليقي: لقد اٌختلفت إذاً القراءة المعروفة في مصحف عثمان بن عفـّان (ويشهد الله) عن قراءة ابن عباس (والله يشهد) والإختلاف في كلام نـُسِب الوَحْيُ فيه إلى الله لا ينبغي السكوت عليه؛ فلو كان القرآن مكتوباً بلغة أخرى مُحْكمَة كاليونانيّة- مثالاً- ثمّ تمّت ترجمته إلى العربية ووُجد اختلاف ما بين الترجمات فلا بأس، سيُقال حينئذ: اختلاف ترجمات أو اختلاف مترجمين ومترجمات، على افتراض أنّ النّصّ الأصلي موجود وغير قابل لأيّ تحريف- أيّاً كان معناه، بل يمكن لمن يتعلّم تلك اللغة ويجيدها العودة بسهولة إلى النص اليوناني ليُرضيَ فضوله العلمي، لكنّ ما سبّب حصول الكارثة في حالة القرآن هو الإختلاف على النصّ الأصلي. فكيف تصْدق آية سورة الحجر (وإنّا لهُ لحافظون) أنْ أيّهما المحفوظ؟ وكيف يكون من عند الله ما فيه اختلاف كثير- كما ورد في سورة النساء: 82؟]

وقرأ أبَيّ واٌبن مسعود: "ويستشهد الله على ما في قلبه" وهي حجّة لقراءة الجماعة.
[تعليقي: هو ذا اختلاف ثانٍ على الآية عينها بين قراءة المصحف العثماني (ويشهد الله) وبين قراءة شاهدَين من كبار الصحابة (ويستشهد الله) وهما أبّيّ بن كعْب- وهو من كتـّاب الوحي المحمّدي- وعبد الله بن مسعود الذي رُويَ أنّه كان حافظاً سبعين سورة قرآنيّة من لسان محمّد مباشرة. فلماذا تجاهل عثمان قراءة هذين الصحابيّين المُخلِصَين للإسلام؟ وقد عُلِمَ أنّ شهادة رجُلين اثنين كافية فما بال القرّاء الكرام بشهادة صحابيّين من وزن أبيّ بن كعب وعبد الله بن مسعود؟]

وروى البخاري- باب القرّاء من أصحاب النبي- عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال‏:‏ سمعت النبيّ ص يقول: (خذوا القرآن من أربعة: من عبد الله بن مسعود وسالم ومعاذ وأبَيّ بن كعب؛ أي تعلّموا منهم‏) انتهى. وسالم هو ابن معقل مولى أبي حذيفة، ومعاذ هو ابن جبل؛ علماً أنّ ابن مسعود وأبيّ قد تـُوفـّيا في زمن خلافة عثمان.‏

وفي كتاب المصاحف للساجستاني- باب كراهية ابن مسعود لنسخ المصحف- رُوي أن عبد الله بن مسعود، لما أ ُمِر بالمصاحف أن تُغيَّر وتُكتب على مصحف عثمان، ساءه ذلك وقال: أفأترك ما أخذتُ من فم رسول الله؟ لقد أخذت من فم رسول الله بضعاً وسبعين سورة، ولقد عَلِمَ أصحابُ النبي أني من أعْلمِهم بكتاب الله. فهذا يدل على أن تغيير المصاحف كان جسيماً جداً، فكأنّ الذي تولّى مسألة التغيير والتبديل أقلّ منه علماً، ولم يأخذ من الرسول قدر ما أخذ هو. وانقلبت المسألة إلى تفاخر وتنافس وحبّ رئاسة. ولو كانوا أخذوا منه السبعين سورة واعتمدوا على نقله لكان ذلك يرضيه، والظاهر أنهم لم يفعلوا ذلك. انتهى

و يقول الشيخ خليل عبد الكريم في كتاب “النص المؤسس ومجتمعه” ص30 – السِّفر الثاني– وقد نقل عن تاريخ اليعقوبي: ولكنّ عبد الله بن مسعود رفض تسليم مصحفه وقاوم وعصلج. فأمَرَ به عثمان فجُلِد وجُرّ برجله حتّى كُسِر له ضلعان ومنعَهُ عطاءَه فظلّ مغاضباً للخليفة حتّى توفّي. ثمّ تساءل الشيخ عبد الكريم: ما الذي كان في مصحف ابن مسعود ودفع الخليفة الثالث إلى إحراقه ولو أدّى إلى جلد صحابي في وزن ابن مسعود وكسر ضلعين من ضلوعه وحرمانه من عطائه؟ انتهى

تعليقي: علماً أنّ حادثة الاعتداء على ابن مسعود قد وردت في مراجع تاريخية أيضاً منها “تاريخ الطبري” - ج 5 و”تاريخ ابن عساكر” - ج 7 وقد تقدّم في هذه السلسلة من البحث ذكـْر مصحف ابن مسعود الذي احتوى 112 سورة- إذ لم يعترف ابنُ مسعود بالمعوَّذتين على أنهما من الوحي- كما مرّ ذكر مصحف أبيّ بن كعب الذي احتوى 116 سورة بإضافة سورتـَي الحفد والخلع في آخره- ما ليس في المصحف العثماني. وأخيراً يكفي كون النقصان في عدد السّوَر (أو الزيادة) دليلاً على تحريف القرآن.


قال علماؤنا- والكلام للقرطبي: وفي هذه الآية دليل وتنبيه على الاحتياط فيما يتعلق بأمور الدين والدنيا، واستبراء أحوال الشهود والقضاة، وأنّ الحاكم لا يعمل على ظاهر أحوال الناس وما يبدو من إيمانهم وصلاحهم حتى يبحث عن باطنهم؛ لأن الله تعالى بيّن أحوالَ الناس، وأنّ منهم من يُظهر قولاً جميلاً وهو ينوي قبيحاً. فإنْ قيل: هذا يعارضه قوله (ع): (أ ُمِرْتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله) الحديث، وقوله: (فأقضي له على نحو ما أسمع) فالجواب أنّ هذا كان في صدر الإسلام، حيث كان إسلامهم سلامتهم، وأمّا وقد عمّ الفساد فلا، قاله ابن العربي.
قلتُ [أي قال القرطبي] والصحيح أنّ الظاهر يعمل عليه حتى يتبيّن خلافه، لقول عمر بن الخطاب (رض) في صحيح البخاري: أيّها الناس، إنّ الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم، فمَنْ أظهر لنا خيراً أَمَّنَّاهُ وَقَرَّبْنَاهُ، وليس لنا من سريرته شيء، الله يحاسبه في سريرته، ومن أظهر لنا سوءً لم نُؤَمِّنهُ وَلَمْ نُصَدِّقهُ، وإنْ قال إن سريرته حسنة.

تعليقي: هكذا أصبحت الحال في زمن محمّد بعدما قويَتْ شوكته في المدينة، كذلك في زمن الرّدّة أيّام أبي بكر وعليّ بن أبي طالب؛ الباطن ما في الناس خلاف الظاهر وبات القبول بالإسلام من أجل السلامة من الغدر المحمّدي والبطش لا من أجل الإسلام- وذلك ما سُمّي رياءً في الإسلام أو نفاقاً.

وهنا ما تبقى من تفسير القرطبي- وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ:
الْأَلَدّ: الشَّدِيد الْخُصُومَة، وَهُوَ رَجُل أَلَدّ، وَامْرَأَة لَدَّاء، وَهُمْ أَهْل لَدَد. وَلَدَدْته- بفتْحِ الدَّال- أَلُدّهُ- بِضَمِّهَا- إِذا جَادَلْته فغلَبْته. والألدّ مشتقّ من اللديدَين، وهما صفحتا العنق، أي في أي جانب أخـَذ من الخصومة غلـَبَ. قالَ الشَّاعِر:
وَأَلَدّ ذِي حَنـَق عَلَيَّ كَأَنَّمَا *** تغْلِيْ عَدَاوَة صَدْره فِي مِرْجَلِ
[بحر الكامل]
وَقالَ آخـَر:
إِنَّ تحْت التُّرَاب عَزْماً وَحَزْماً *** وَخـَصِيماً أَلَدّ ذا مِغْلَاقِ
[بحر الخفيف]
و"الْخِصَام" فِي الْآيَة مَصْدَر خاصَمَ، قَالهُ الخلِيل. وقيل: جمع خصْم، قاله الزَّجَّاج: ككلب وكلاب، وصعب وصعاب، وضخم وضخام. والمعنى أشد المخاصمين خصومة، أيْ هو ذو جدال، إذا كلّمك وراجعك رأيت لكلامه طلاوة وباطنه باطل. وهذا يدلّ على أن الجدال لا يجوز إِلَّا بمَا ظَاهِره وَبَاطِنه سَوَاء. وفي صَحِيح مُسْلِم عن عائشة [ممّا في تفسير ابن كثير أيضاً] قالت: قال رسول الله (ص): إنّ أبغض الرجال إلى الله الْأَلَدّ الْخَصِم. انتهى

تعليقي: ذلك كان لسان العرب وكلامهم الفصيح على اختلاف أشكاله، سواء ما كان شعراً أو نثراً. وقد تميّز السجع في فنون النثر- ما يُعنى بالقوافي دون الأوزان- وليس القرآن من الناحية الفنية سوى مقاطع مسجوعة ومتعددة القوافي، لم تـُضِفْ- في تقديري- فنّاً جديداً إلى الفنون الأدبيّة في ذلك العصر المسمّى بالجاهلي.


أمّا بعد فقد دعاني قول الرصافي {إن أقدر البلغاء على البيان لا يستطيع أن يصف منافقاً بأبلغ من هذه الآية- أي البقرة: 204} إلى التحرّي عن “النفاق” و“المنافق” و”الرياء” في معجم “لسان العرب” لابن منظور- الذي اعتمد القرآن أساساً في قاموسه- فوجدت هناك:
* والنُّفـَقة مثال الهُمَزة: النَّافِقاء، تقول منه: نَفَّق اليَرْبوع تنْفيقاً ونافـَقَ أَي دخل في نافِقائه، ومنه اشتقاق المُنافق في الدِّين. والنِّفاق- بكسر النون- فِعْل المنافِق. والنِّفاقُ الدخول في الإسلام من وَجْه والخروُج عنه من آخر، مشتقّ من نافِقاء اليربوع- إسلاميّة، وقد نافقَ مُنافـَقةً ونِفاقاً. وقد تكرّر في الحديث ذكر النِّفاق وما تصرّف منه اسماً وفعلاً، وهو اسم إسلاميّ لم تعرفه العرب بالمعنى المخصوص به، وهو الذي يَسْترُ كُفْره ويظهر إيمانـَه وإنْ كان أَصله في اللغة معروفاً. والنفاق مأْخوذ من النافقاء لا من النَّفـَق وهو السَّرَبُ الذي يُستـَتـَرُ فيه لستره كُفـْره.
* وفي الحديث: أَكثر مُنافِقِي هذه الأُمَّة قـُرَّاؤها؛ أَراد بالنِّفاق ههنا الرّياء لأَن كليهما إظهار غير ما في الباطن.
*راءَيْتُ الرجلَ مُراآة ً ورِياءً: أَرَيْتهُ أَنِّي على خلاف ما أَنا عليه. وفي التنزيل: بَطَراً ورِئاءَ الناسِ، وفيه: الذين هُمْ يُراؤون؛ يعني المنافقين أي إذا صَلَّى المؤمنون صَلَّوا معَهم يُراؤُونهُم أَنَّهم على ما هُمْ عليه. وفلان مُراءٍ وقومٌ مُراؤُون، والإسم الرِّياءُ. يقال: فـَعَلَ ذلك رِياءً وسُمْعَة. انتهى

تعليقي:
1 سأختار أبياتاً بليغة من الشعر حول الظاهر والمخفيّ أو المكتوم لأحد شعراء المُعَلّقات زهير بن أبي سلمى والذي ضُربَ بشعره المثل في الجودة والإتقان. وقد نظم معلّقته، كما ذكر التبريزي، في ظروف حرب البسوس- أي قبل الإسلام- والتي احتدم أوارها بين عبس وذبيان. والمعلّقة من بحر الطويل- والأبيات المُختارة متفرّقة:
فَلاَ تَكْتُمُنَّ اللهَ مَا فِي نُفوسِكُم *** لِيَخفى، وَمَهْمَا يُكتَمِ اللهُ يَعْلَمِ
وَمَهْمَا تكُنْ عِنْدَ اٌمرِئٍ مَنْ خلِيقةٍ *** وَإِنْ خالَهَا تَخْفى عَلَى النَّاسِ تُعْلَمِ
لِسَانُ الفتَى نِصْفٌ وَنِصْفٌ فُؤَادُهُ *** فلَمْ يَبْقَ إَلا صُورَةُ اللَّحْمِ وَالدَّمِ
[خليقة: طبيعة- قول الشنقيطي- وواضح أنّ الله معروف عند العرب قبل الإسلام، كما في هذه المعلّقة وغيرها]

والآن أعيد كتابة نصّ الآية القرآنيّة- محور البحث- مجدّداً:
ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهدُ الله على ما في قلبه وهو ألدّ الخصام.

أمّا بَعْدَ الإسلام فاخترت الأبيات التالية حول النفاق أو الرّياء؛ إنها للشاعر صالح بن عبد القدوس الأزدي الجذامي وهو- عن ويكيبيديا- شاعر حكيم، كان متكلّماً يعِظ الناس في البصرة، وشعره كله أمثال وحِكـَم وآداب، اتـّهـِمَ عند المهدي- الخليفة العباسي- بالزندقة، فقتله في بغداد. هنا الأبيات- وهي من بحر الكامل:
لا خيـر فـي ودّ اٌمـرىء متمـلّـق *** حُلـْو اللسـان و قلـبُهُ يتلـهّـبُ
يلقـاك يحلـفُ أنـّهُ بـك واثــقٌ *** وإذا توارى عنـك فهـو العقـربُ
يُعطيك من طـرف اللسـان حـلاوة ً *** ويروغ منـك كمـا يـروغ الثعلـبُ

وأمّا الآن، أي بعد كتابة ثلاثة نماذج عن الظاهر والباطن من شعر زهير بن أبي سُلمى وواحداً قرآنيّاً وأخرى من شعر صالح بن عبد القدّوس والتي تفصل بينها حقبة من الزمن، مكتوبة بالعربيّة الفصحى، بليغة أي واضحة للعامّة ومفهومة، أتوجّه إلى القرّاء الكرام للحكم على بلاغة كلّ منها والمفاضلة بينها؛ تالياً يحقّ لكلّ سائلٍ أنْ يتساءل- ولكلّ سائلة- في زمن حريّة الرأي والتعبير التساؤل التالي: لماذا يُعتبر تعبير القرآن عن الظاهر والباطن مختلفاً عن تعبير زهير بن أبي سلمى وصالح بن عبد القدّوس من جهة الوحي، أي لماذا يظنّ بعض القرّاء الكرام بأنّ النصّ القرآني موحىً به من الله؟ وإن كان الذي أوحى إلى مؤلّف القرآن هو الله فمن الذي أوحى إلى هذين الشاعرين؟ ذلك إنْ جازت المقارنة والمفاضلة.

2 ما نسبة عامّة العرب- ممّن في المستوى الدراسي الجامعي ومن غير المتخصصين في اللغة العربيّة- الذين يدركون أنّ النصّ القرآني المذكور يعبّر عن النفاق أوالرّياء- بدون الرجوع إلى كتب التفسير؟ فإنْ قلّت النسبة عن 80% فتـُعتبَر الآية غير بليغة، علماً أنّ من التخصّصات الدراسيّة ما تـُعتبَر فيها الدرجة- أو العلامة- التي يحصل عليها المتقدّم ما دون 80% غير مؤهِّلة للنجاح- وهذا هو سبب اختياري لهذه العلامة.

3 لو أنّ تلميذاً معروفاً بنشاطه وشطارته ولا اختلاف على أنّه من المتفوّقين في مادّة ما كاللغة العربيّة، تأخر عن الحضور إلى قاعة الإمتحان في نهاية فصل من فصول الدراسة بسبب مرض مفاجئ أو مشكلة ما، لا جدل في أنّ العلامة التي يستحق قانونياً هي الصّفر. فلو جاز هذا التشبيه فإنّ الحكم على نصّ ما بأنّه بليغ أو خلافه يستوجب حضور النصّ كاملاً لا لبس فيه. فما هو النصّ الأصلي المطلوب حضوره إلى قاعة الإمتحان؛ هل هو مع (ويشهد الله- مصحف عثمان) أم (والله يشهد- قراءة ابن عبّاس) أم (ويستشهد الله- قراءة أبَيّ واٌبن مسعود) أم أنّ هناك قراءة أخرى؟ وأيّة قراءة (حُفِظتْ) من تلك القراءات وما هي الحجّة؟ فإني أتكلّم عن نصّ منسوب الوحي فيه إلى الله- في نظر الأحبّاء من المسلمين والمُسْلمات- ولهذا السبب لا أستطيع غضّ الطرف عنه!

4 ما هي المناسبة التي أوحى بها المُوحي لكي تنزل تلك الآية القرآنيّة، هل هي تعبير حقيقي عن فكر الله أم كانت تعبيراً صادراً من فكر مؤلّف القرآن بعدما جاءه أحد المنافقين كما في التفاسير المعتمَدة الآتية:
أوّلاً: الطبري- القول في تأويل قوله تعالى (ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه) وهذا نعت من الله تبارك وتعالى للمنافقين، بقوله جلّ ثناؤه: ومن الناس من يعجبك يا محمّد ظاهر قوله وعلانيته، ويستشهد الله على ما في قلبه، وهو ألد الخصام، جدل بالباطل. ثم اختلف أهل التأويل فيمن نزلت فيه هذه الآية، قال بعضهم. نزلتْ في الْأَخْنَس بْن شَرِيق الثَّقَفِيّ، قدِمَ على رسول الله ص، فزعم أنه يريد الإسلام، وحَلَفَ أنه ما قدِم إلا لذلك، ثم خرج فأفسد أموالاً من أموال المسلمين.
وقال آخرون: بل نزل ذلك في قوم من أهل النفاق تكلّموا في السرية التي أصيبت لرسول الله ص بالرَّجـِيع. وقال آخرون: بل عنى بذلك جميع المنافقين.

ثانياً: وهنا تأكيد من القرطبي- وقال ابن عباس: (نزلت في قوم من المنافقين تكلموا في الذين قتلوا في غزوة الرجيع: عَاصِم بْن ثَابِت، وَخُبَيْب، وغيرهم، وقالوا: ويح هؤلاء القوم، لا هم قعدوا في بيوتهم، ولا هم أدّوا رسالة صاحبهم) فنزلتْ هذه الآية في صفات المنافقين، ثم ذكر المستشهدين في غزوة الرجيع في قوله: "ومن الناس من يَشْرِي نَفْسَهُ اِبْتِغَاءَ مَرْضَاتِ الله" - البقرة: 207 وقال قتادة ومجاهد وجماعة من العلماء: نزلت في كل مبطن كفراً أو نفاقاً أو كذباً أو إضراراً، وهو يظهر بلسانه خلاف ذلك، فهي عامة.

---------------------

* تنويه: لاحظ أنّ “مَرْضَات” ليستْ على القياس: مَرْضاة، مثلما وردتْ “نعمت” كما في المائدة: 11 وغيرها بدلاً من “نعمة” كما في المائدة: 7 و”رحمت” كما في البقرة: 218 وغيرها بدلاً من “رحمة” في بعض الآيات القرآنيّة، ليت شِعْري ما هو الصواب في اللوح المحفوظ! لكنّ اللافت ورود “رَحْمَة رَبِّك” و”رَحْمَت رَبِّك” في الآية القرآنية عينها (الزخرف: 32) وفي الإمكان العودة إلى رسمَي التـّائـَين في نصّ الآية لمَنْ يريد التأكد- ولمن تريد:
أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ....... وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُون.
_____________________

وفي الحلقة العشرين إلقاء ضوء على بلاغة قوله في سورة الرعد: 8 (وكلّ شيء عنده بمقدار) من الأمثلة التي رآى الرصافي أنها في الذروة العليا من البلاغة في القرآن، ممّا يأتي قريباً- بعَـون الله عَـزّ وجَلّ.

 
Free Hit Counter Search Engine Submission - AddMe