السبت، 5 ديسمبر 2009

أديان العرب قبل الإسلام : الحلقة الأولى - العلوي رشيد

مدخل:
شكلت الدراسات الدينية مجالا خاصا، تعززه الحاجة إلى تعميق المعرفة بالظاهرة الدينية في مستوياتها وأبعادها الاجتماعية والسياسية. فالأديان عامة تدعي بهذا القدر أو ذاك امتلاكها (كل دين على طريقته الخاصة توحيديا كان أو وضعيا) للحقيقة المطلقة التي لا تقبل الجدل، كما تدعي الأحقية في صدق دعواتها. إلا أن الدراسة العلمية (بالمعنى البنيوي لا الاختزالي) لا تقبل هذا الافتراض الأولي الذي يخدم أهدافا إيديولوجية قدر ما يخدم أهدافا معرفية. ويظل هذا الافتراض ـ مع ذلك ـ افتراضا نسبيا قابلا لكل تأويل، فما لم يتم يكشف عن جوهر الأديان وحقيقتها التاريخية، فإن كل محاولة لادعاء الحقيقة النهائية والمطلقة تصبح باطلة وغير علمية بل ومتعارضة مع منطق التاريخ، فالتداخل بين الأديان وارد في تطور كل دين، ولا دين يستطيع الجزم على أن تطوره مستقل تمام الاستقلال عن الأديان الأخرى.
وحسبنا، أننا لا نروم في هذا العرض دراسة الظاهرة الدينية (أي كان نوعها)، دراسة علمية بمنهج دقيق وإنما غرضنا أولا هو محاولة حصر مجال من المجالات التي يبحثها علم الأديان وتاريخ الأديان، ويتعلق الأمر بالمعتقدات الدينية لدى العرب قبل ظهور الإسلام، أي المعتقدات الدينية التي سادت في "جزيرة العرب". وإن كان الاهتمام بالتراث قد أغفل وهمش هذه المسألة بحيث لم تعطى لها الأهمية التي تستحقها، فإنه على الرغم من ذلك نجد بعض الدراسات هنا وهناك حول هذا الموضوع، وإننا لنسعى إلى الإحاطة بهذه الدراسات وتقديم أهم الأفكار التي خلصنا إليها من اطلاعنا عليها مع التركيز على عرض وجيز لأهم القضايا المتصلة بالموضوع.
كلمة العرب، والجاهلية:
يطرح لفظ "العرب" إشكالا في التحديد، ذلك أن العرب اليوم تشمل العديد من البلدان التي لم تكن عربية إلا بعد الدعوة بكثير، أي بعد الفتوحات، وقد وقف عليه أغلب مؤرخي الحضارة العربية، قبل الإسلام وبعده ويعتبر في نظرنا جواد علي خير من فصل في تحديد معنى كلمة العرب، ونحن نأخذ هنا بتعريفه لهذه الكلمة، حيث يرى أن معنى "لفظة العرب تنسب إلى قوم بلاد العرب أو "العربية"، هي البوادي والخلوات الني أطلق الآشوريون ومن جاء بعدهم على أهلها لفظة "الأعراب"، وعلى باديتهم "Arabeae" و "Arabae" وما شاكل ذلك. وهي جزيرة العرب وامتدادها الذي يكون بادية الشام حتى نهايتها عند اقتراب الفرات من أرض بلاد الشام، فالفرات هو حدها الشرقي. أما حدها الغربي، فارض الحضر في بلاد الشام. وتدخل في العربية بادية فلسطين و "طور سيناء" إلى شواطئ النيل. وقد أطلق بعض الكتاب اليونان على الأرضين الواقعة شرق ال "Araxe"، أي الخابور اسم "Arabia" كما أدخل "هيرودوتس" أرض طور سيناء إلى شواطئ نهر النيل في "العربية" "Arabia"أي بلاد العرب". إننا نركز هنا على لفظ العرب كما هو متعارف عليه في التاريخ العربي ـ الإسلامي، أما اليوم فيمكننا الحديث عن العرب في كل بلد من بلدان العالم: عرب أوروبا، عرب أسيا، عرب أمريكا...
أما لفظ للجاهلية، فيرى "جواد علي"، أن الناس اعتادوا أن يسموا تاريخ العرب قبل الإسلام "التاريخ الجاهلي"، أو "تاريخ الجاهلية"، وان يذهبوا إلى إن العرب كانت تغلب عليهم البداوة، وإنهم كانوا قد تخلفوا عمن حولهم في الحضارة، فعاش أكثرهم عيشة قبائل رحل، في جهل وغفلة، لم تكن لهم صلات بالعالم الخارجي، ولم يكن للعالم الخارجي اتصال بهم، أميوّن، عبدة أصنام، ليس لهم تاريخ حافل، لذلك عرفت تلك الحقبة التي سبقت الإسلام عندهم ب "الجاهلية."
و"الجاهلية" اصطلاح مستحدث، ظهر بظهور الإسلام، وقد أطلق على حال قبل الإسلام تمييزا وتفريقاً لها عن الحالة التي صار عليها العرب بظهور الرسالة.
وردت لفظة "الجاهلية" في القرآن الكريم، في السور المدنية، دون السور المكية، فدل ذلك على أن ظهورها كان بعد هجرة محمد إلى المدينة، و اتخذت هذا المعنى بعد الهجرة.
ولفظة "الجاهلية" نعت إسلامي، نتحفظ على استعماله لأنه ينطوي على نظرة احتقار أكثر منه نظرة إنصاف للشعوب التي عاشت في الجزيرة قبل الإسلام، وهذا الأمر يتعلق بالعديد من المصطلحات الخالية من أي مدلول علمي، وعلى هذا الأساس فإننا سنستعمل لفظة "العرب قبل الإسلام" لما نرى فيه من دقة علمية، ذلك أن الشعوب التي تسمى "قريش"، "عرب الجاهلية"... كلها شعوب وحدت بينها اللغة العربية على اختلاف لهجاتها من منطقة إلى أخرى.
لم يكتفي المدونون في عصر التدوين بترسيخ هذه الألفاظ وإنما تجاهلوا الموروث الثقافي لتلك المرحلة، واعتبروه تاريخ الخرافة والأسطورة لا يستحق الذكر، وهناك من يذهب أبعد من ذلك معتبرا أن هذا التاريخ تعرض لتشويه فرضته الأغراض الإيديولوجية المتنامية مع "الدعوة المحمدية".
اختلف التدوين حول لفظ الجاهلية واتخذ تحديدات عدة، ولكنها تشير عامة إلى مرحلة ما قبل الإسلام وتشمل:
ـ العصر بين نوح وإدريس (الطبري)
- العصر بين نوح وإبراهيم.
- أيام الفترة ما بين عيسى وموسى، وما بين عيسى ومحمد، وهو ما يسمى في التدوين الجاهلية الأولى والجاهلية المتأخرة.
إن هذه التحديدات الزمنية غير حاسمة نظرا لما يحاط به زمن الأنبياء من قداسة، ونظرا لاختلاف التأويل ولضعف التوثيق، وغياب المصادر التاريخية الأكيدة. فالأديان نفسها تطرح هذه المشكلة، وهنا يصبح دور الأديان المقارن وضرورته واضحا. 
لكن ما يهمنا هنا ـ تحديدا ـ هو أن الجاهلية لم تكن عصرا محددا من عصور التاريخ، لأنها ليست زمنا ـ إذا قبلنا بهذا التوصيف التحقيبي أو التاريخي المجزأ ـ متصلا بعضه ببعض، بل هي فترات تكونت في كل فترة طائفة "وثنية" معينة لها خصائصها وشعائرها وعباداتها الخاصة.
إن اعتبار ما قبل الإسلام "جاهلية" ينطوي على خلفية إيديولوجية قائمة على منطق الثنائيات (من الجهل إلى العلم، من الظلمات إلى النور، من الهمجية إلى الحضارة...)، وذلك لتبرير الخطاب المحمدي الجديد وشرعنته، وهو يدعونا إلى التساؤل: كيف يمكن أن تظهر حضارة جبارة بكل أنظمتها: القانونية، السياسية، الاجتماعية، الثقافية... من ماض جاهل؟ كيف يمكن أن نفسر انبثاق الحضارة من اللاعقل؟ إذا كان ماض العرب "جهلا" و"ضلالة" فكيف أمكنهم أن يثوروا ثورتهم العظيمة؟ كيف أمكن لهم أن يدخلوا التاريخ إذا كان ماضيهم خارج التاريخ؟ إن هذا النوع من التحليل لا يقود ولا يفيد إلا بالقول بالمعجزة، فالمركزية الأوروبية أيضا قالت بالمعجزة لمحو أثار الحضارات الشرقية على الحضارة الأوروبية، هكذا اعتبرت الفلسفة اليونانية معجزة، حالة ينبوع أصلي وأول. فالإسلام أيضا ـ على الأقل في تأريخه وليس كدين ـ تعامل مع ماضي العرب بنفس الخلفية، إثبات المعجزة لمحو أثار العرب قبل الإسلام. ووفق هذا المنطق فأن العرب اعتبروا الجاهلية "مرحلة موحشة تافهة، ضالة مضللة، أو هي، بكلمة، جاهلية جهلاء. فعزلوها تاريخيا، أي عملوا على "تنسيقها" من وعي المرحلة التي بدأت بنشوء الإسلام". ولا نرى في ذلك إلا ثنائية "التفكير البدائي" و"التفكير المتحضر"، الذي يختزل تاريخ الشعوب من وجهة نظر أنثروبولوجية إما تاريخ بدائي أو تاريخ حضاري، الشيء الذي يرفضه كلود ليفي ستروس واصفا الشعوب البدائية بمجتمعات ما قبل الكتابة، والمتحضرة بما بعد الكتابة، فهل ينطبق هذا على العرب؟ لم نتمكن من الاطلاع على بعض الكتابات في هذا المجال، ولكننا نعتقد أن الشعوب العربية ما قبل الإسلام ـ على عكس ما هو شائع ـ كانت لها لغة وتعرف الكتابة، ولعل الكتابات القديمة تدل على ذلك، حيث يتحدث المهتمون على أن اللغة العربية هي آخر عنقود في تسلسل اللغات السامية. ومن المحتمل أن تستعمل اعتبار اللغة العربية لغة مرتبطة بالقرآن لخدمة المعجزة.
تحديد إشكالي لمسألة المعتقدات الدينية:
لماذا ينبغي أن نبحث مشكلة الدين لدى العرب قبل الإسلام؟
إن عناصر إجابة أولية تتبادر إلى ذهننا بصدد هذا السؤال، ولكن الأهم أولا هو الكشف عن عمق التعتيم الذي مارسه التراث الأصولي (كما تركه الفقهاء وعلماء الكلام)، فخطاب الأصوليين في القرن الثالث الهجري وما بعده انصب حول الاهتمام بخطاب الدعوة المحمدية وإشكالاته النظرية، غاضين النظر عن ربط هذه الإشكالات بما سبقها. على الرغم من أن التدوين والتأريخ لهذا التراث ولو في صيغته الايديولوجية، قدم لنا كتابات غنية تشهد على وجود حياة اجتماعية وثقافية وفكرية غنية في جزيرة العرب قبل الدعوة. وإن كانت بعض الكتابات عن غير وعي تحاول أن تقدم روايات ووقائع وشهادات لحل مشكلة ما ولتفسير قضية ما تحور مسار الحدث لجعله مناسبا للقالب الايديولوجي، فإنها تشهد على أن المسألة ليست كما يعتقد. إلى جانب التعتيم الذي يمارسه "الفكر الإسلامي / الإسلاموي المعاصر"، في صيغته الأصولية الجديدة.
إن مسألة الدين لدى عرب الجاهلية (كما يحلوا للبعض أن يسميهم) تفيدنا اليوم لإزاحة النقاب عن المسكوت عنه. ودون النزوع منزع البعض الذي يعتبر أن هناك إمكانات عدة لعقلنة السلوك الديني، فإننا نقر بأنه آن الأوان للأخذ بالمعرفي والكشف عنه مكان الإيديولوجي الذي يقف أمام كل موضوعية ممكنة.
هل كان لدى العرب اعتقادات في المرحلة ما قبل الإسلام؟
ليس من قبيل الصدفة أن يظهر الإسلام في جزيرة العرب، دون أن تكون هناك بوادر وشروط لقيام هكذا دعوة توحيدية. فكتب السيرة وتاريخ العرب الاجتماعي والثقافي وحتى السياسي يؤكد بجلاء الصراع الذي خاضه محمد ضد التيارات السائدة آنذاك، فجزيرة العرب كما تشهد بذلك الروايات التاريخية المكتوبة تؤكد وجود ديانات توحيدية، إلى جانب ديانات وضعية واضحة المعالم وأرست أسسها في هذا المكان، كما لا يمكن تغاضي النظر عن بعض المعتقدات في شكل طقوسي وعادات توارثها العرب، ولعل البعض يذهب أبعد من ذلك ويشهد على استمرارية تلك الطقوس حتى في عهد محمد. وهذا أمر طبيعي جدا، فإذا كان الإسلام قد ظهر فإنه لم يظهر خارج العوامل الاجتماعية والثقافية والسياسية وخارج الواقع الذي يحيط به بل على العكس من ذلك فإنه يستجيب أحيانا للشروط التي ولدته، وهو في طريقه إلى التشكل لأن الوحي لم يأتي دفعة واحدة، ولا السنة أتت يوما واحدا وإنما جاءت متقطعة، مما يجعل البعض يعتبر أن ترتيب الآيات والسور والقصص في القرآن كان ترتيبا غير منطقي وغير مبني على أسس علمية.
ليس "عرب الجاهلية" أو "عرب الجزيرة"، شعبا خارج التاريخ، ولا خارج الزمن، ولا أحد يستطيع حتى أن يبقى بعيدا مستقلا مكتفيا بذاته دون أن يدخل في علاقات جوار وحوار مع الغير، وحتى إذا افترضنا أن عقليته من نوع خاص وجنسه قائم بذاته ولا مثيل له، فإنه ليس بمبعد ولا بمنأى عن أي تأثير خارجي. فهل قدر له أن يبقى كذلك؟ كم يكفيه ليبقى وحيدا؟
ما المقصود بالمعتقدات الدينية؟
في تصورنا العام للمعتقد الديني، نعتبر أن كل ما يتم تقديسه وعبادته يعتبرا معتقدا. فالمعتقد كيفما كان (شيئا ملموسا أو مجردا) يتصل أشد الاتصال بالمقدس، وكل ما يضفى عليه طابع القداسة يحظى بالعبادة، وإن كان هذا التعميم يثير بعض التحفظات فإننا نكتفي بالقول أن المعتقدات الدينية ليست واحدة ولا مشتركة على الرغم من أن بعض الدراسات الفينومينولوجية في علم الأديان المقارن تذهب إلى وجود عبادات مشتركة لدى أغلب الشعوب حيث يتم الانطلاق من نظرة مراحلية تنهل من النزعة التاريخانية، فإن المعتقدات الدينية تظل متنوعة ومختلفة ومتعددة، وهو ما يجعل سؤال "البيئة" والثقافة حاضرا بشكل جلي وواضح في البحث عن طبيعتها. ومما لا شك فيه أن تأثيرات المحيط على المعتقدات حاضر في جل المجتمعات، فبإمكان طقس من الطقوس المتوارثة والمستحدثة أن تتحول مع مرور الزمن إلى معتقد ديني. 
المعتقدات الدينية عند العرب قبل الإسلام:
إن الإلمام بالمعتقدات الدينية التي ظلت سائدة لدى "عرب الجزيرة قبل الإسلام"، يقتضي عملا بحثيا أكاديميا، وهو ما لا يسمح به عرض كهذا، ولذلك سنركز اهتمامنا أساسا على محاولة الإحاطة بالمصادر والمراجع المتنوعة والمتعددة ـ على قلتها ـ التي عالجت مسألة التدين والمعتقدات الدينية لدى "العرب قبل الإسلام"، "عرب الجاهلية".
لا يسع المرء إلا أن يهرع إلى عمق أعماق المعرفة التراثية مسلحا بمناهج البحث العلمية، للبحث عن تأصيل الجذور التاريخية للظاهرة الدينية، نظرا لما يميز الحاضر من العودة بشكل هستيري للتدين، والتطرف الإيديولوجي – العقائدي، ذلك أن حال الإنسان المعاصر هو حال عصي على الفهم، معقد ومركب تتداخل فيه شتى العناصر، وكأنها وحدة مشدوهة إلى حبل أصلي واحد (حبل الصرة). وبالقدر الذي يتحتم علينا الغوص بكل جرأة في عمق المشكلة، فإننا نعتقد أن التحليل السطحي ليس كافيا للإلمام بالمسألة، بل ينبغي الذهاب بعيدا حتى نجعل السؤال في المفترض أنه الحقيقة الأبدية والمطلقة والمسلم بها والتي لا تقبل الجدل، سؤالا مشروعا لنزع القناع عن الوجه الحقيقي الذي لطالما تخفيه القوى المحركة للتاريخ المعاصر: الرسمية منها وغير الرسمية.
إن ضمان تحليل عميق للمشكلة يفترض تعيين أدوات التحليل الناجعة لبلوغ حد أدنى من النتائج المقبولة، ونحن لا نزعم أننا على قدر كاف من الإلمام الدقيق لمختلف المناهج العلمية المعاصرة التي تهتم بتفكيك الظاهرة الدينية المتسمة أصلا بتداخل العامل: التاريخي، السياسي، الاجتماعي، الثقافي...
ولا يفوتنا هنا التنبيه إلى أن العديد من الدراسات العلمية التي حاورت هذه الإشكالية وعملت على تفكيكها، قد قدمت عناصر هامة جدا، تعفينا من جهد مسبق (أو على الأقل تضمن الأرضية الأولية لهكذا بحث). فالكتابات في تاريخ الأديان العام، وعلم الأديان المقارن، وفلسفة الدين، دشنت في ثقافتنا العربية ـ الإسلامية بشكل بارز منذ العقد السابع من القرن الماضي، نتيجة التقدم الذي أحرزته هذه العلوم في الغرب من جهة، ونتيجة الوعي المتحصل بضرورة الخوض في هذا المجال لاستكمال المشروع الحداثي الذي دشنته الأنتلجانسيا العربية مع الهزات التي عرت واقعها.
إن ازدهار الخطاب اليساري بوجهيه القومي والماركسي إلى جانب الخطاب الليبرالي سيدفع بدراسات نقد الدين والفكر الديني، في إطار نقد العقل العربي (العقلية العربية) إلى الأمام، فليس من المصادفة أن يظهر خطاب النقد في عقد السبعينيات من القرن الماضي (ولو في شكل مشاريع مستقلة) في مشاريع المثقفين المعاصرين العرب. فالإطلالة اليوم على تلك الكتابات يوحي بأن نخبتنا كانت على وعي بما يتربص بالمستقبل القريب الذي تضعه أمام أعينها آنذاك.
لقد شكلت مشاريع فراس السواح منذ كتابه الأول "مغامرة العقل الأولى"، أهم مشروعات خطاب النقد العربي المعاصر. تنضاف إليه مشروعات جزئية وفرعية أحيانا تغذيها: صادق جلال العظم، تركي علي الربيعو، حسن حنفي، رشدي سلمان، العفيف الأخضر، محمد أركون...
لقد وضع هؤلاء مادة دسمة تحتاج إلى إعادة البناء من جديد، وإلى فحص نقدي لبناء مشروع يتغيا وضع الظاهرة الدينية في صلب إشكالاتها الحالية. ولهذا فإننا نعتبر أن ما قدمه الفكر العربي المعاصر من إسهامات ـ ولو على قلتها ـ يتيح الفرصة لرسم هكذا منطلق أولي لوضع سؤال الدين في واقعنا العربي ـ الإسلامي في سكته الحقيقية.
المقدس وتجلياته:
"المقدس هو العقبة الأولى أمام حرية الإنسان" مرسيا إلياد
لقد عرفت تجليات المقدس وأشكال التدين عبر التاريخ تنويعات لا حصر لها، تدل عليها الحفريات العديدة والاكتشافات الأثرية المتوالية، وتدل عليها معتقدات الشعوب "البدائية"، فالاعتقادات الدينية القديمة شديدة التنوع والتعقيد يصعب حصرها، تشهد هالتها على نمط معين من العيش، ففي المجتمعات الزراعية تكاد الاحتفالات والطقوس تمتد من أول المواسم الإنتاجية إلى نهايتها. بالإضافة إلى طقوس الموت والفرع والأحداث الهامة في الحياة: الولادة، الزواج، المرض، تقديس الأشجار والأماكن والظواهر الطبيعية، الشمس، الكواكب، النجوم... عبادة الأوثان والأصنام وتأليه الملوك والأساطير....
إن الإنسان أمام كل هذه المعتقدات يشده البحث إلى الكشف عن الذات والبحث عن سر الوجود والتميز. فهذه المعتقدات تدل أشد الدلالة على التطور التاريخي للثقافة ولنمط عيش الإنسان تلك الذات التي تبحث عن معرفة مصيرها والسعي ما أمكن نحو تملك المستقبل.
إن الإنسان لا يستطيع حقا أن يبقى مكتوف الأيدي أمام الظواهر التي يعايشها، يحسها، يراها، تصدمه وتخلق لديه توترا دائما خاصة حينما تكون الظاهرة غير مسبوقة في حياته، وحتى إذا افترضنا أن الإنسان عاش "حالة الطبيعة" كما يرى فلاسفة الأنوار، فإن هذه الحالة لا تعبر حقا إلا عن سعي دءوب نحو النظام، الانسجام، وسعي وراء "تبرير" حالة الوجود تلك، ولإيجاد تبرير شاف للامعقولة المميزة لحالة الطبيعة كحالة ذهول وشرود أمام الذات وأمام الموضوع معا، وكان الانسجام الذهني وسيلة للتخلص من حالة الفوضى.
لقد أفضى الصراع بين الإنسان والطبيعة إلى إنتاج الثقافة: دين طقوس، فكر، لغة ، أسطورة، رموز... والتاريخ الإنساني المكتوب لم يحفظ لنا إلا القليل من نمط الحياة المادية والفكرية التي عرفتها المجتمعات "البدائية"، وإن كان واضحا أثر تلك الحياة والطقوس والمعتقدات باديا في الديانات التوحيدية، فالإسلام على سبيل المثال ـ لا الحصر ـ ملزم باتخاذ موقف من اعتقادات العرب السائدة قبل الدعوة، وإذا كان هذا الموقف ضرورة تاريخية فإننا لا نبحث عن حكم قيمة، وإنما عن القيمة التاريخية المتمثلة في الاعتراف بوجود اعتقادات غير توحيدية. ف "وجود عناصر من المعتقدات القديمة في المنظومة التوحيدية لا ينبغي أن يحجب الجدة التي أتت بها والتي تمثل قطيعة مع ما سبقها".
إن الإسلام لا يمثل في نظرنا امتدادا طبيعيا للظاهرة التوحيدية، بل يشهد على تواصل الظاهرة الدينية عموما عبر التاريخ البشري، فلا يجوز النظر إلى "جزيرة العرب" وكأنها مجال جغرافي منعزل عما يقع خارجه، بل على العكس من ذلك، فالتبادل التجاري والطقوس المشتركة وأماكن القداسة الموحدة مجال للتأثير والتأثر، وهنا نفهم جيدا الرواية التاريخية التي تنسب عبادة الاصنام إلى لحي بن حارثة بن عمرو الأزدي، كأول من أدخل عبادة الأصنام إلى مكة، بل يعتبره ابن الكلبي: "أول من غير دين بني اسماعيل، فنصب الأوثان وسيب السائبة، ووصل الوصيلة، وبحر البحيرة، وحمى الحامية"، فالتأثيرات الخارجية بالنسبة لجواد علي واضحة وجلية وفي ذلك يقول: "يجب ألا نتصور أن أديان العرب قبل الإسلام لم تتأثر بمؤثرات خارجية".
الطوطمية عند العرب:
في معنى الطوطمية:
الطوطمية كلمة هندية أمريكية (أبجوية Objeway ) دخلت اللغة الإنجليزية سنة 1791 على يد الأستاذ ج. لانج J. lang  . وبعد تداولها تطورت إلى مفهوم أنثروبولوجي سارت تستعمل بمعنى كائنات تحترمها بعض القبائل "المتوحشة"، ويعتقد كل فرد من أفراد القبيلة بعلاقة نسب بينه وبين منها يسميه طوطمه. وقد يكون الطوطم حيوانا أو نباتا... وتقوم وظيفة الطوطم في حماية الفرد والفرد يلتزم بتقديس الطوطم وعبادته. وحسب فريزر Frazer فالطوطمية نظام قائم على قواعد السحر والطلسم، يريد به أهل الطوطم استكثار المواد لسد الحاجة.
اتخذ الطوطم طابعا دينيا وطابعا اجتماعيا، حيث يحظى بتقديس مطلق: لا يمس، لا يقتل، لا يأكل، لا يمسه كره، يدفن وفق طقوس... والطوطم الديني حظي بقداسة وباعتقادات لا حصر لها. أما الاجتماعي فيتخذ مظهر تعاقد أفراد الجماعة فيما بينهم.
تجليات الطوطم لدى العرب قبل الإسلام:
أكيد أن الطوطمية بهذا المعنى حاضرة لدى العرب قبل الإسلام، وعلى الرغم من المصادر الحديثة، فإن تتبع حضور الطوطمية لديهم غير ممكن إلا من خلال ما تتيحه المصادر القريبة جدا من الإسلام، أي من خلال ما تركه الإخباريون عن "عرب الجاهلية"، ومن خلال ما نجده في الشعر الجاهلي.
تتمثل مظاهر الطوطمية الاجتماعية عند العرب ما قبل الإسلام ـ حسب دراسة المعيد خان ـ  في:
1 – التعاون المتبادل
2 – الزواج الخارجي
3 – الأمومة
أما الطوطمية الدينية فتتلخص في الاعتبار الديني:
العرب تسمى باسم الحيوان والنبات: بنو أسد، بنو جعدة، بنو ضب، بنو فهد، ضبعة، كلب، عنزة، جحش، جراد... على الرغم من اختلاف تأويل أسماء العرب لدى المدونين، حيث نجد من يذهب إلى أن العرب تسموا بهذه الأسماء للتمييز بين القبائل، كما نجد من يقول من المستشرقين أنها شاهد على حضور الطوطمية.
اتخذ العرب من الحيوان أبا مقدسا.
يكاد تحريم الحيوان متعددا لدى العرب، ولكن ما يهم هنا هو تحريم أكل الخنزير لدى العرب، ما أصل هذا التحريم؟ ولماذا يحرم الخنزير؟ هل الخنزير طوطم مقدس؟
لقد سمى العرب بعض الحيوانات بأسماء أخرى يكاد يدل على تحريم التلفظ بالطوطم: فالنعامة تسمى بالطلع والملجم، والأسد بأبي الحارث، والثعلب بابن آوى، والضبع بأم عامر، والغراب بحاتم...
مارس العرب طقوس دفن الحيوانات، حيث أن قبيلة بني الحارث إذا وجدت غزالا ميتا كفنته ودفنته وحزنت عليه ستة أيام.
مثل الحيوان دوما دور الحارس: الكلب، الغراب والجثة. 
تجليات عبادة الطوطم عند العرب:
تذكر الأخبار أنه وجدت لدى العرب ما قبل الإسلام وحتى في ظل الدعوة المحمدية بيوت عدة بها أصنام حيوانات أو على صورة حيوانات منها أساسا:
1 – النسر: وقد وجد بوضع من أرض سبأ ويقال له بلخع، تعبده حمير. (حسب معجم البلدان).
2 – يغوث وهو على هيئة أسد، وكان بأكمة في اليمن يقال لها مذجح تعبده قبيلة مذجح.
3 – يعوق على صورة فرس، وجد بقرية تسمى خيوان تعبده همدان.
وقد قال ابن الكلبي في هذا: "كان ود وسواع ويغوث ونسر قوما صالحين".
وحسب الشهرستاني، فإن بيوت العبادة نوعان: بيوت النيران، وبيوت الأصنام، ويذكر أنها عبادة أخذها العرب من الهند، كما ذكرها أيضا الدكتور حسن إبراهيم حسن حين قال: "ولم يكن هبل وحده معبود العرب، فقد انتشرت الأصنام في أنحاء الجزيرة العربية على شكل بيوت وأشجار وحجارة مصورة وغير مصورة، حتى قيل كان حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما".
ولقد كانت لدى العرب أيضا أوثان محلية منها:
ذات أنواط: وهي شجرة كانت لدى قريش، بالقرب من مكة وذكر ياقوت أن العرب تأتيها كل سنة فيعلقون عليها أسلحتهم ويذبحون عندها ويعتكفون عندها يوما.
ذو الخلصة: كانت تسمى الولية والعملات وهي بيت من قرية ثروق، ومن البيوت التي تعظمها العرب تعظيم مكة لها سدنة وحجاب، كانت في منزلة الكعبة يقام حولها الطواف وتنحر بجوارها الذبيحة. وتشمل البيت نصبين:
مروة بيضاء (يقول الكلبي أنها منقوشة على هيئة تاج)
شجرة الخلصة: والخلصة نبت طيب الريح يتعلق بالشجر ويسمى العرب هذه الشجرة العبلاء. وعبدتها قبائل خشيم وبجيلة وأزد السراة...
سعد: كان صخرة طويلة أوردها الكلبي في البيت الشعري الذي استشهد به:
أتينا على سعد يجمع شملنا            فشتتا سعد فلا نحن من سعد
وهل سعد إلا صخرة بتنوفة           من الأرض لا يدعى لغى ولا رشد
الحتمة: صخرات مشرفات بجوار مكة
الحطم: بمكة
الإل: اسم جبل بعرفات
وبصدد الأوثان القادمة من الخارج يتم الحديث عن:
هبل: والذي يعترف جورجي زيدان أن لا وجود لهذا اللفظ في العربية، وهو فينيقي أو عبراني وأصله "هبعل" ومعناه السيد. وعند الكلدانيين ينطق "بل".
اللات: إسم من آلهات البابلين، وهي بنات رب الأرباب وأخواتها: مامناتو mamnatu وعشتار ishtar. بالإضافة إلى العزى والمناة وود وقزح...
في الحلقات التالية سنعالج المحاور التالية:
الأديان الوضعية في الجزيرة العربية قبل الإسلام.
المجوسية
المزدكية
المانوية
الوثنية والصنمية
التمييز بين الوثن والصنم والنصب،
الأصنام
الأوثان
الطقوس والعادات والنصب
التقاليد: غسل الميت، الزواج المتعدد، الطلاق الأبدي، الاحتفال ببلوغ الصبية والفتيات...
الشعائر: البذور والإيمان، الأزلام، التقدمات والنحر والقرابين والهدى،
آلهة الأماكن
الجن
الشياطين
التصديق بالرؤيا
تقليد أسماء الآلهة (حسب ابن سعد: الطبقات)
عبادات أخرى:
أديان الوحي عند العرب قبل الاسلام
الحنفية:
اليهودية:
النصرانية:
الوظائف الدينية: الكهانة. الحجابة. وظائف الحج. أماكن دينية أخرى..........
المراكز الدينية قبل ظهور الدعوة المحمدية
الجزيرة والصراع الذي خاضه محمد

المراجع والمصادر:
"تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية"، مصطفى عبد الرازق، مكتبة الثقافة الدينية. دت.
"فجر الإسلام" أحمد أمين، مكتبة النهضة المصرية، الطبعة السادسة، 1950، مع باقي أجزاء موسوعته، ضحى الإسلام، ظهر الإسلام.
المفصل في تاريخ العرب قبل الاسلام، جواد علي، الجزء الأول والرابع، دار العلم للملايين، 1978.
"تاريخ الإسلام السياسي والاجتماعي والديني"، حسن أبراهيم حسن، الجيزة 1964
"حياة محمد"، محمد حسين هيكل، مكتبة النهضة المصرية، الطبعة 15، 1968.
"موسوعة تاريخ الأديان" الجزء الثاني، فراس السواح، دار الفكر اللبناني، بيروت
"موسوعة الأديان السماوية والوضعية" الجزء الخاص بأديان ومعتقدات العرب قبل الاسلام، سميح دغيم، دار الفكر اللبناني، بيروت.
"زرادشت والزرادشتية" فارس عثمان، دار المحبة ودار آية، بيروت الطبعة الأولى 2002-2003
"المعتقد الديني في الشعر الجاهلي، هوارية لولاسي، جامعة مستغانم، الجزائر، منشور في مجلة حوليات التراث، العدد الأول 2004.
"فلسفة الشرق"، مهرارد فهرين، ترجمة محمود علاوي، المشروع القومي للترجمة، العدد 599، سنة 2003.
"العنف والمقدس والجنس في الميثولوجيا الاسلامية"، تركي علي الربيعو، المركز الثقافي العربي، بيروت، الطبعة الأولى 1994
"دين مصر العام"، محمد حسين هيكل، المشروع القومي للترجمة، العدد 26.
"الأصنام"، هشام بن الكلبي، تحقيق احمد زكي، الدار القومية، القاهرة 1965.
"الميثولوجيا عند العرب، عبد الملك مرتاض.
"في طريق الميثولوجيا عند العرب" محمود سليم الحوت.
تاريخ التمدن الاسلامي جورجي زيدان
تاريخ العرب قبل الاسلام، عبد العزيز سالم
العرب في العصور القديمة، لطفي عبد الوهاب يحيى
"أديان العرب قبل الإسلام" جرجس داود داود، مجد، بيروت، الطبعة الثانية، 1988.
"أديان العرب قبل الإسلام" جورجي زيدان،الهلال، الطبعة الثانية، 1929.
"أنساب العرب القدماء" جرجي زيدان، مطبعة الهلال، مصر، 1929.
"الأساطير العربية في الاسلام"، محمد خان.
مدخل إلى فلسفة الدين ، محمد عثمان الخشت، دار قباء للطباعة و النشر
المعتقدات الدينية لدى الغرب الدكتور عبد الراضي محمد عبد المحسن مركز الملك فيصل للبحوث والدراس
موسوعة الأديان و المعتقدات الدكتور: شاهر ذيب أبو شريخ دار صفاء للنشر والتوزيع
أديان العرب قبل الإسلام ووجهها الحضاري و الإجتماعي الأب جرجس داود داود المؤسسة الجامعية للدراسات
الإسلام و الأديان : دراسة مقارنة الدكتور: مصطفى حلمي دار الكتب العلمية
الدين في الهند و الصين و إيران أبكار السقاف مؤسسة الإنتشار العربي
دين الإنسان : بحث في ماهية الدين و منشأ الدافع الديني فراس السواح منشورات دار علاء الدي
الفضائل و القيم لدى الشعوب القديمة ذوات الأديان الإنسانية الدكتور: جلال شمس الدين مؤسسة الثقافة الجامعية
أطلس الأديان سامي بن عبد الله بن أحمد دار العبيكان
العقائد و الأديان، عبد القادر صالح دار المعرفة

 
Free Hit Counter Search Engine Submission - AddMe