السبت، 5 ديسمبر 2009

العرب وإشكالية الخروج من وضعية التخلف المركبة - عبد الجبار الغراز

تعيش المجتمعات العربية,  تخلفا حضاريا جد مركب, جعلها في وضع بين الأمم و الحضارات الأخرى لا تحسد عليه.  تخبطت فيه منذ قرون عديدة. وقد ظهر هذا التخلف بصور و أشكال مختلفة , بحسب طبيعة و خصوصية كل فترة تاريخية من فترات هذه الحقبة الطويلة المظلمة .كان أبرزها دخول هذه المجتمعات, منذ الاستقلال حتى الآن, في مسلسل " تحديث « للبنيات العتيقة, السياسية, والاقتصادية و الثقافية و الاجتماعية التي تتسم بها, حاولت فيه تطبيق نماذج حضارية غربية شملت مختلف مظاهر الحياة العصرية ( إدارة, عسكر, تعليم... ) بشكل تعسفي جعل, في النهاية, التعايش ما بين "العصري" و "التقليدي" العتيق يتسم بالمفارقة, و جعل, بالتالي, المشهد الحضاري العربي الآني يبدو قاتما يثير السخرية و الشفقة في نفس الوقت.
 فمنذ أن استفاق  العرب من " كومتهم العميقة " التي سببتها ضربات  " الغزو المغولي "  الموجعة وما أعقب ذلك من قضاء نهائي على الإمبراطورية العربية و الإسلامية , انتهجوا طرقا  و سياسات و استراتيجيات مختلفة بغية التقليص من هذه المسافات و التباعدات الحضارية  بينهم وبين المجتمعات المتحضرة . فمنهم من فتح شرفات الوطن لتهب نسمات الغرب بنكهة ليبرالية و رأسمالية , و منهم من أوصد كل المنافذ و سد جميع الثغرات و اكتفى بمغازلة الحاضر على إيقاعات نوستالجية  ماركسوية  , و منهم من توسد " عقائديات " خالدة و افترش أمجاد و بطولات الأجداد , و راح في نومة " دوغماتية " عميقة لم يستفيق بعد منها  إلى حد  هذه الساعة .
          كل هذه الأصناف , تمثلت لها صورة الغرب , على أنه ذلك"الآخر المزعج " الذي تغلغل في النسيج الثقافي و فجره تفجيرا , و استباح المعايير والنظم الأخلاقية والمقدسات المصونة . بعيدا عن كل التصورات الواقعية و الحقيقية التي  ستخرجها من مأزق تنمية  غير محسوبة النتائج و العواقب , لم  تقدها إلى السبل الحقيقية للتحديث الحقيقي المستدام . و لم تكلف نفسها عناء النظر إلى مختلف تمثلانها عن ذاتها ..
           وقد ازدادت حدة مفعولات هذه "الإستيهامات " الرافضة , لا شعوريا , للغرب و عصرنته , مع بداية هذه الألفية الثالثة ,  نتيجة ما  عرفته الحضارة الغربية الرأسمالية من طفرات و فجوات رقمية استجابة للتطورات التي شهدتها  الثورات العلمية في مجال الاتصالات و التكنولوجيات الرقمية . 
فالعدد الكثير من الدراسات العربية  التي قامت برصد تقاطعات هذا التخلف مع الحداثة الغربية , فد انصب جهدها , على المستويين الموضوعي و  المنهجي , لفهم البنية النفسية و الذهنية  الحالية التي تشكل عليها الإنسان العربي   المعاصر , انطلاقا من رصد أهم  ميكانيزمات  هذه الأزمة الحضارية .
          فإذا كان  مفهوم" الحضارة " , كما عرفه الأنثروبولوجيون ,  يعني الإنتاج المادي و الروحي لدى شعب من الشعوب , و الذي تأسس انطلاقا من مواجهة الإنسان لعناصر الطبيعة و السيطرة عليها , انطلاقا من اكتشاف قوانينها  , و العمل على توريث هذه المكتسبات الثقافية للأجيال اللاحقة  . فإن هذا التعريف يقدم فكرة أساسية ألا وهي, أن بناء الحضارة هو من بناء الإنسان. وهنا ينبغي طرح التساؤلات  التالية : هل يمكن الحديث عن حضارة ما و إغفال ذلك الإنسان الذي قام ببنائها و كلفه , ذلك تضحيات جسام في سبيل تجديدها عبر تثوير عناصرها بغية أن يستفيد منها الجيل اللاحق و ينهل منها كقاعدة تنظيمية و حياتية تنير له طريقه و تجعله قادرا , في النهاية , على مجابهة تحديات العصر ؟ كيف يمكن, إذن, فهم بناء حضارة دون فهم بناء ال إنسان ؟ وهل يمكن فهم الإنسان دون فهم دقيق لعالم الطفولة ؟  ألا تشكل الخصائص  و السمات النفسية , التي يكتسبها الأطفال ,  في المراحل الأولى و المتوسطة و المتأخرة من طفولتهم , بنيات تحتية و قاعدة مرجعية لوجودهم الفكري و الروحي و الأخلاقي الإنساني  يصعب , مستقبلا , تغيير مواقفها و اتجاهاتها التي تستند عليها ؟ وهل السلوك الإنساني هو ترجمة, إجرائيا و عمليا, لتلك التصورات الذهنية التي تتشكل, مند الطفولة إلى الرشد, من ثقافة المجتمع .
         فبناء على هذه التساؤلات , يمكن تحليل وضعية  التخلف الحضاري المركب , التي انطلقنا منها في بداية هذا المقال , بالقول أن أطفال العالم العربي , يتعرضون  لتنشئة اجتماعية , قد قلبت موازين و معادلات نسقهم التربوي الذي كانوا يخضعون له , والذي يتجلى في دور كل من  الأسرة أو البيت و المدرسة و الإعلام , بحيث أصبحت تستند ,  الآن , على وسائل جد متطورة فرضتها العولمة , أثرت في  عقولهم و أنظمة إدراكهم , و أدت إلى تذويب الخصوصيات الثقافية , باسم" التنوع الثقافي " و" التثاقف "و" المثاقفة ".  وهذا مبعث تساؤلنا التالي : ألا يشكل هذا الإجراء المنهج من قبل العولمة ,  تهديدا للمقومات الحضارية التي تستند عليها كل حضارة ما ,  تروم التجديد و التجدد , و بالتالي نسفا لتلك التي يسميها "كلود لفي ستر وس " , ب"القاعدة الثقافية " التي تتأسس عليها هوياتهم و مرجعياتهم الثقافية و الروحية و الحضارية ؟  

        فإذا كانت العولمة , في مظهرها العام , هي تعميم للنموذج الثقافي الغربي و جعله " عالميا " عبر نقله من مجال  "الخصوصية " إلى  مجال "العمومية "و "الكونية ", وإذا كانت هذه العولمة , أيضا , تشكل تعبيرا  عن  " ما بعد الحداثة " كمرحلة تعيشها الدول الغربية , على مستويات عدة : اقتصادية و تكنولوجية و اجتماعية و سياسية و ثقافية ... هي في انسجام , كما يقول" عبد الله العروي " , مع تاريخها , فإنها لا يمكن أن تبدو لنا ، نحن العرب , المنتمون لثقافة مغايرة لثقافة الغرب , إلا  " تسويقا " لنموذجها الثقافي و الحضاري يتعارض مع ما يرفع من مستوى الفعل الثقافي الخصوصي لدى الشعوب المستضعفة .
          لا يقتضي منا,  و الحالة هذه, لكي نخرج من وضعية التخلف المركبة, الاستهانة و الاستخفاف بثقافة الأطفال.  فطابعها البنائي المتجه صوب تنمية  مختلف القدرات و المهارات في الشخصية , يعزز الفعل التكويني للثقافة  .هذا الأخير الذي لا يمكن بتاتا ,  رده إلى مجرد مكتسب معرفي , كما دأبت المقررات الدراسية في العالم العربي  على ترسيخه في الفعل الديداكتيكي  و البيداغوجي التربوي , بل يجب اعتباره نتاجا لتكثيف ثقافي ينحت الهويات في جسم الطفولة  و يِؤصلها . فالإنسان هو صانع الحضارة و العكس أيضا صحيح. 
 
Free Hit Counter Search Engine Submission - AddMe