الأحد، 27 ديسمبر 2009

تاريخ الملائكة

بقلم نبيل فياض

في هذه الحلقة من "تاريخ الملائكة"، نحاول أن نثبت أنّ ملائكة اليهوديّة، وبالتالي المسيحيّة والإسلام، مأخوذون عن ديانات قبلها، خاصّة الزرادشتيّة. ونحن هنا نعتقد أن اليهوديّة، في شكلها البدئي، كانت ترى أن العلاقة إلهي- بشريّ مسألة أقلّ من عاديّة، ولا حاجة لوسيط بين الطرفين. ففي ميثة خلق العالم، النسخة اليهوية، من سفر التكوين ( 4:2 – 24:3 )، نجد آدم في الجنّة يسمع "خطى الرب الإله وهو يتمشّى "، فنادى الربّ الإله الإنسان وقال له: "أين أنت؟"، قال الإنسان: "إنّي سمعت وقع خطاك في الجنّة"؛ وفي ميثة الطوفان يخاطب الربّ نوح دون وسيط؛ " قال الله لنوح: ادخل السفينة أنت وجميع أهلك" ( تك 1:7 ). ورغم أنّ اليهوديّة أقحمت المفهوم "ملاك" في نصوص مبكّرة إلى حدّ ما من التكوين، حيث يظهر "ملاك الربّ" أوّل مرّة في الآية 7:16 في رواية هاجر وابنها اسمعيل، نجد أن الله ذاته يصارع يعقوب، في رواية يهودية شهيرة، فيخلع حق وركه، ويسميه إسرائيل، لأنه " صارع الله " (23:32 ). لكن يبدو أن اليهود وجدوا أنه من الأكثر احتشاماً أن يكون ثمة وسيط بين الإلهي والبشري، خاصة مع التقائهم بثقافات ما بين النهرين وفارس، فازداد انتشار الملائكة في الأسفار العبرانيّة، وتحديداً في تلك التي تنتمي إلى زمن لاحق.
الملائكة تعريفاً:
في الديانات القائمة على مفهوم الوحي، الإله والبشر بعيدون عن بعض. من هنا، فالملائكة تجسّر الهوّة بين الطرفين. الملائكة تسبّح بحمد الله، تنفّذ إرادة الله، وتحمل كلام الله. كذلك فالملائكة تساعد الناس في الوصول إلى الخلاص أو أن تنال امتيازات خاصّة. أكثر من ذلك، فحين تعمل الملائكة نيابة عن الله، يمكن لها أن تؤثّر بقضايا بشريّة عبر أفعال مثل مكافأة المؤمنين ومعاقبة الآثمين ومساعدة المحتاجين.
في كثير من الديانات العالميّة، الملائكة كائنات روحانيّة تعمل وسائط بين الله والبشر. كرسل لله، يمكن للملائكة أداء أغراض كثيرة. ودورهم يمكن أن يكون تعليم أمر، أو إفهام البشر حول مصيرهم. كذلك تلعب الملائكة دوراً هامّاً جداً في اللاهوت الخلاصي حين تقوم بتدوين أفعال المرء الصالحة أو الطالحة في هذه الدنيا، وتمكّن الإله في الحياة الأخرى من أن يدين بعدل هذا الإنسان وفق سجلاته.
بالمقابل، تميل الملائكة لأن تلعب أدواراً أقل شأناً في الأديان ذات الآلهة العديدة. وفي الديانات التي تعتبر أن الكون كلّه مقدّس وأنّ الإله والإنسان لهما الجوهر ذاته، الملائكة أقل أهمية. فليس هنالك ثمة حاجة لهم من أجل تجسير الهوة بين الآلهة والبشر. مع ذلك، حتى في هذه الديانات، ثمة كيانات روحانيّة تشبه الملائكة يمكن لها مساعدة الناس فيما يتعلّق بالإله.
اليهوديّة والزرادشتيّة:
في عام 586 ق.م.، غزت قوات الإمبراطوريّة البابليّة اليهود، فدمّروا هيكلهم وحملوا معهم جزءاً من السكّان اليهود إلى السبي. وكان المسبيون مشكلين على نحو خاص من المتعلمين ومن الطبقة العليا إضافة إلى أفراد من العائلة المالكة. استمر " السبي البابلي " خمسين عاماً تقريباً. عام 539 ق.م.، غزا الفرس، بقيادة الملك كوروش الأخميني، بابل، وعام 538 ق.م.، أصدر الملك قراراً قال فيه إنه يسمح لليهود بالعودة إلى وطنهم الأم. لم يُطلق فقط سراح المسبيين، بل قام كوروش، وإلى حد ما بعض خلفائه من الأخمينيين، بدعم إعادة بناء الهيكل أيضاً. وكان الدافع لسياسة كوروش هذه ليس فقط تسامحه الديني ( شجّع أناساً آخرين من الوثنيين على التمسّك بدياناتهم الخاصّة ) بل حكمته السياسيّة أيضاً؛ ومن يتم التعامل معه بنوع من الكرم لا يرجّح له أن يثور. لكن لم يكن كل اليهود راغبين بالعودة إلى الوطن. ففي سنوات السبي، وضع الشعب اليهودي من الذين تكيّفوا مع العيش هناك في بلاد ما بين النهرين أسساً لعيشه، مستقرين هناك ومنغمسين في الأعمال وحتى في السياسة. وهكذا، فإن يهوداً كثر لم يعودوا إلى وطنهم الأم، مع أنهم أبقوا على تمسكهم بيهوديتهم الدينيّة. فواصلوا حياتهم في وطنهم الجديد، ومع ترسيخ دعائم الإمبراطوريّة الفارسيّة، ارتقى بعض اليهود المسببين إلى مناصب عليا في خدمة البلاط الإمبراطوري.
ثمة ملاحظة مغرقة في الأهميّة تتعلّق بالتاريخ الديني للشعب اليهودي، وتحكي عن تقسيم ديانة هذا الشعب زمنيّاً: ديانة إسرائيل القديمة، ويهوديّة ما بعد السبي. ومنذ منتصف القرن العشرين، أعلن ماثيو بلاك بشكل لا لبس فيه في الـ Peake’s Commentary، أن " ما نعرفه عن اليهوديّة، باعتبارها متميّزة عن ديانة إسرائيل القديمة، أنها ظاهرة ما بعد سبيية ". وكونها " ما بعد سبيية " يعني أنها مدينة بالكثير للملوك والوزراء الزرادشتيين الفرس الذين منحوا اليهود فرصة " العودة " من السبي. لكن الحقيقة أن بلاك ليس أول من أدلى بهذا الرأي. فقبله نجد الأستاذ الأمريكي في كامبردج، لورنس هـ ميلز، الذي ترجم كثيراً من الأفستا إلى الإنكليزية ونشر عملاً عنوانه، زرادشت، فيلو، الأخمينيون وإسرائيل، عام 1903، وعملاً آخر حمل عنوان، ديانتنا نحن في فارس القديمة عام 1913، والكتابان أشارا إلى مديونيّة اليهوديّة لزرادشت والفرس. بل إن سي دبليو كينغ، قبل ميلز بأعوام، كتب عام 1887 قائلاً، إن اليهود أخذوا ملائكتهم، إيمانهم بخلود النفس، اعتقادهم بالحياة ما بعد الموت، الدينونة الأخيرة وفكرة الثواب والعقاب بعد الموت، " الأخيرة تتم على بحيرة مشتعلة "، من " مخطط زرادشتي " . وهو ما أوصل جي ف موور إلى الاستنتاج عام 1927: " إن علماء كثر مقتنعون أن منظومة الأفكار اليهوديّة برمتها استولى عليها اليهود من الزرادشتيين ".
إن الديانة الفارسيّة التي أسسها زرادشت، والتي كان أنبياؤها يدعون بالماجي، كان لها أثر على العالم وهو ما لا يعترف به إلا قلة اليوم. إن الزرادشتيّة هي أول ديانة ظهرت على الأرض وادعت أنها منزلة، وهكذا فإذا تمكنا من إثبات اعتماد هذه الديانة التي تدعي أنها منزلة على الأخرى، فسوف تكون الزرادشتيّة هي المعطية لا المتلقية.
في سفر إستير من الكتاب المقدّس العبراني، نجد أفضل تأريخ لا يخلو من ميثولوجيا لقصّة العلاقة الفارسيّة-اليهوديّة. فقد كان اليهود المقيمون في بلاد فارس معرضين للإبادة بسبب حقد وزير اسمه هامان – من أخطاء محمد الشهيرة ربطه هامان بفرعون - ، فتمّ خلاصهم بفضل تدخّل استير، وهي يهوديّة أصبحت ملكة، يرشدها عمها مردخاي. فانقلب السحر على الساحر، وشنق هامان وحلّ مردخاي محلّه، وقتل اليهود أعداءهم. وأقيم عيد البوريم للاحتفال بذكرى هذا الانتصار، وأوعز إلى اليهود أن يحتفلوا به كل سنة. وما زالت عادتهم هذه قائمة في ربيع كل عام.
بعودة إلى عالم الحقائق يمكننا القول، إنه أثناء نهاية حقبة السبي، كان أوّل احتكاك هام بين الثقافتين اليهوديّة والفارسية، وذلك من خلال اليهود الذين كانوا يعيشون وقتها في الإمبراطوريّة الفارسيّة. ومن الواضح في التوراة أن التفكير اليهودي تغيّر بعد السبي. والسؤال هو التالي: هل أن هذه التغييرات كانت نتيجة للقاء الثقافي بين المفكّرين اليهود والإيرانيين، أو أن مرد هذه التغييرات صدمة السبي في الوعي الجمعي اليهودي؟ فخلال السبي، كان على اليهود ليس فقط أن يبدّلوا كيفيّة عبادتهم، كونه لم يعد لديهم هيكل أو قرابين حيوانيّة والتي كانت مركز إيمانهم، بل كان عليهم أيضاً أن يغيّروا كيفية تفكيرهم بالله. فالمفهوم اليهودي عن الله كحام قبلي، والذي كان سينقذهم من أن يغزوا أو يسبوا، كان عليه أن يجتاز إعادة نظر ( أجمل من عالج مفهوم اليهوديّة للإله، وإن بلغة فلسفيّة- شعريّة، كان نيتشه في " عدو المسيح ").
في اعتقادنا أن العنصرين الحاضرين هنا، واللذين أوحيا بالتغييرات في يهودية ما بعد-السبي: ليس فقط التفكير اليهودي الجديد المتعلّق بالله والإنسانيّة، بل أيضاً التماس مع الزرادشتيّة، ديانة الإمبراطوريّة الفارسيّة. لكن من ثم يطالعنا سؤال جديد: كيف وصل اليهود القدامى إلى تعلّم الزرادشتيّة؟ من غير المرجح تماماً أن يكون العلماء والمفكّرون اليهود عرفوا على نحو مباشر يوماً الكتب الزرادشتيّة المقدّسة، أي الغاثات ( النص المؤسس للديانة الزرادشتيّة، والذي يعزا إلى النبي زرداشت بالذات ) أو الياشتات ( تراتيل تمتدح العديد من الآلهة الوسيطة والأرواح الحارسة، متبناة من الميثولوجيا ما قبل الزرادشتيّة ). إن الاستخدام الكهنوتي للأفيستا ولغتها القديمة كان سيبدو عائقاً بين اليهود وهذا النص المقدّس. لكن معظم تراث الديانة الزرادشتيّة، الذي يعرفه ويمارسه معظم الناس العاديين، موجود في التقليد الشفوي: أي عبر كلمة الفم، لا دراسة الأسفار المكتوبة. هذا التقليد الشفوي كان يتضمّن قصصاً حول الله، الخليقة، الصراع الأخلاقي والكوني بين الخير والشر، الدينونة الإلهية ونهاية العالم. كان التقليد الشفوي سيتضمن أيضاً كل الرموز الزرادشتية المعروفة كالنار، النور والظلمة، إضافة إلى صلوات وقصص حول اليازاتات أو الكائنات الروحيّة الوسيطة والنبي زرادشت. وهذه هي كل العناصر المكوّنة لما يمكن أن ندعوه بالزرادشتيّة " الكلاسيكيّة " ( كما تطوّرت عن زرادشتيّة الغاثات " البدئيّة " ). هذه هي الطريقة التي التقى بها اليهود الزرادشتيّة – عبر الحوارات الخاصّة والتجارب المدنيّة والسياسيّة، وليس من خلال الدراسات الدينيّة المعياريّة. وكونه أعيد تصنيع الديانة اليهوديّة بعد كارثة السبي، فقد بدأت هذه التعاليم الزرادشتية بالتسرّب إلى الثقافة الدينيّة اليهوديّة. بالمناسبة، تسرّب الثقافة الزرادشتيّة الشفويّة يمكن أن يذكّرنا بتسرّب الثقافة اليهوديّة الشفويّة إلى الإسلام، عبر شخص محمد الذي عرفنا من أكثر من مرجع إسلامي أنه كان يزور بيت المدراس ( بيت ها-مدراش ) حيث كان يتحاور مع الربانيين هناك، أو عبر من اعتنق الإسلام من اليهود، مثل ابن سلام وغيره.
إن غاثات زرادشت، التي تسبق كوروش بنحو من ألف سنة تقريباً، تصف الله بتعابير شاملة ومجرّدة؛ لكننا زمن الاحتكاك اليهودي-الزرادشتي، لا يبدو واضحاً على وجه الدقة نمطيّة التوحيد التي كان يؤمن بها الزرادشتيون. فهل كانت توحيدية حقيقية والتي تعبد إلهاً واحداً فحسب، والذي بالمقارنة معه تبدو الآلهة الأخرى إما شياطين شريرة أو أنها غير موجودة؟ هذا ما تبدو عليه توحيديّة زرادشت، لكنها ليست توحيديّة الملوك الأخمينيين الذين حكموا الإمبراطوريّة الفارسيّة، الذين كانوا قادرين على دمج توقير الآلهة الثانويّة ضمن عباداتهم، مادامت هذه الآلهة الثانويّة كانت تعتبر خلائق الإله الأوحد وليست آلهة بحد ذواتها. وقد كان اليهود ينظرون إلى الملائكة كوسائط شبه-إلهيّة، لكنهم لم يمضوا بعيداً كالزرادشتيين في تبجيل هؤلاء الوسطاء بتراتيل مدائحيّة كالياشتات.
لابد أن نشير هنا إلى أن التوحيد لم يأت إلى ديانة العبرانيين مرة واحدة. كان اليهود في فترة من تاريخهم يؤمنون بما يسمى علميّاً Henotheism، بمعنى عبادة إله أوحد والقبول في الوقت ذاته بوجود آلهة أخرى عديدة. يقول الباحث ك.ل. نول، إن " التوراة تحتفظ لنا بحديث يقول إن يهوه اعتاد أن " يعيش " في الجنوب، في أرض أدوم، وأن إله إسرائيل الأصلي كان إيل شدّاي ". وتلمّح قصص توراتيّة عديدة إلى الاعتقاد القائل إن الآلهة الكنعانيّة موجودة كلها وفي أيديها معظم السلطات في الأراضي التي تعبدها أو في أغراضها المقدّسة؛ فسلطانها فعلي ويمكن التضرّع إليها من قبل من يعتبرونها نصيرتهم. وهنالك روايات عديدة حول خوف الأمم المحيطة بإسرائيل من إله إسرائيل أو إجلالها له رغم استمرارها، أي الأمم، في عبادتها متعددة الآلهة ( أنظر مثلاً: 1 صم 4؛ 2 مل 5 ). لقد حظر على الإسرائيليين عبادة آلهة أخرى غير يهوه، لكنهم لم يكونوا موحدين بالكامل قبل السبي البابلي. ويشير الباحث مارك س. سميث إلى هذه المرحلة على أنها أحد أشكال monolatry ( عبادة إله واحد مع عدم إنكار وجود آلهة أخرى ). بل يبرهن سميث أن يهوه اجتاز صيرورة اندماج مع إيل وأن القبول بعبادات عشيراه كانت شائعة في حقبة القضاة. ويتم تفسير الاية 27:3 من سفر الملوك الثاني على أنها تصف قرباناً بشريّاً قاد الجيش الإسرائيلي الغازي إلى الخوف من شيموش.
إن الوصايا العشر لا تنكر ولا تؤكّد وجود آلهة أخرى. مع ذلك، وكما هو مدون في التاناخ، وعلى الرغم من تعاليم التوراه، غالباً ما يعبد الإله الشفيع يهوه مقترناً بآلهة أخرى مثل بعل أو عشيره أو إيل. وبمرور الوقت، انتحل الإله القبلي كل أسماء الآلهة الأخرى في عيون شعبه. ومن ثم اعتبر دمار الهيكل والسبي إلى بابل عقاباً إلهياً على عبادة آلهة أخرى. ومع نهاية السبي البابلي، صارت اليهوديّة في التاناخ توحيديّة صارمة. مع ذلك ظل هنالك على ما يبدو عناصر من " التعددية الإلهيّة " في أسفار توراتيّة بعينها، مثل استخدام دانيال المتكرر لعبارة " ربّ الأرباب "، خاصّة في المزامير. إضافة إلى ما سبق، كلمة إله في العبريّة (إيلوهيم) هي أيضاً بصيغة الجمع، وتعني " الأقوياء " أو " الحاكمين "، إن في العبرية أو في اللغات الكنعانيّة ذات الصلة. وهكذا " إيلوهيم " يمكن أن تشير إلى مجموعة من "الحكّام"، كالملائكة، الآلهة الكاذبة، بل حتى أصحاب السلطات من البشر بمن فيهم المسئولون أو القضاة ضمن إسرائيل، كما يصفهم سفر الخروج 6:21 و 8:22، دون انتهاك لمقاييس التوحيد في التوراة. في الترجمة العربيّة للنص العبراني يضيع المعنى الكامل للنص الأصلي حين يترجم إيلوهيم بمعنى الله في حين هو يعني هنا قاضيا أو حاكما. ويعتقد بعض الباحثين أنّ النص 3: 13- من سفر الخروج يصف اللحظة التي يخبر فيها يهوه موسى أنه هو إيل، الكائن الأسمى.
خلقت غزوات الإسكندر المقدوني في القرن الرابع قبل الميلاد أوّل ثقافة "عالميّة" (بالنسبة للعالم الغربي على الأقلّ)، استطاعت خلالها الشعوب والآلهة والأفكار الانتقال من جنوب أوروبا، عبر الشرق الأوسط، إلى إيران والهند، والعكس صحيح. وفي هذا العالم الكوزموبوليتاني، الهيليني، ازداد الاحتكاك بين اليهود والفرس، وصار تأثير الزرادشتية على اليهوديّة أكثر قوّة. ويتراءى لنا هذا التأثير بوضوح في الكتابات اليهوديّة المتأخرة مثل سفر دانيال وأسفار المكابيين، التي كتبت في القرن الثاني ق.م. في سفر المكابيين الثاني (غير موجود في التاناخ اليهودي، لكنه موجود في النسخة الكاثوليكيّة-الأرثوذكسيّة من الكتاب المقدّس)، تطالعنا رواية كتابيّة حول التماس اليهودي-الزرادشتي، إضافة إلى الشهادة الأولى حول نفط الشرق الأوسط. تعود هذه الوثيقة إلى العام 124 ق.م.، وهو ما يجعلها ضمن أحدث أسفار العهد القديم – تأخرها جعل القانون اليهودي لا يعترف بها. وفي الإصحاح الأول من هذا السفر، هنالك قصّة حول كيفيّة إعادة نار المذبح اليهودي إلى الهيكل بعد السبي. وقد كانت أعراف الهيكل اليهودي تتطلّب وجود نار مشتعلة على الدوام في المذبح (سفر الخروج 20:27)، مع أن هذه النار لا تمتلك الصفة " الأيقونيّة " الخاصة بالنار الزرادشتيّة المقدّسة. مع ذلك، وخلال تجديد الهيكل اليهودي، ظهرت هذه القصة وتم تكريرها في سفر المكابيين، بعدها بأربعمائة سنة: "فشاع ذلك (تجديد النار) وأخبر ملك فارس أنّ المكان الذي خبّأ فيه الكهنة النار حين جلائهم قد ظهر فيه ماء طهّر به نحميا والذين معه تقادم الذبيحة. فسيّجه الملك بعد التحقيق وجعله مقدّساً " (2 مك 1: 32-33). (نلاحظ هنا أنّ نحميا هو الذي أنشأ مع عزرا، في حوالي السنوات 445\425، جماعة اليهود الجديدة. وهناك مذكرات منحولة (2\13) تنسب إليه إعادة بناء المذبح والهيكل، مع أنّ المذبح قد دشّن منذ عام 538 والهيكل منذ عام 515 (عز 3\1 ت و 6\14 ت )). وفي الآية 20 من الإصحاح ذاته؛ يقال: "أرسل ملك فارس (يقال إنه أرتحششتا الأوّل ( 464-424 )) نحميا إلى هنا، فأرسل سليلي الكهنة إلى الذين خبّؤوا النار للبحث عنها". هذا يظهر دون لبس أنّ الكتّاب اليهود، زمن توليف سفر المكابيين الثاني على الأقل، كانوا يعرفون أن الزرادشتيين يبجلون النار – وهكذا، إذا كان الأمر برمّته صحيحاً، فهذا يعني أن الزرادشتيين عرفوا واحترموا التشابهات بين ديانتهم وديانة اليهود. والسائل المشتعل الذي يتحدثون عنه هنا هو البترول، حيث يدعى "نفطا"، وهي كلمة مكونة من كلمتين عبرية وفارسيّة.
يواصل التأثير الإيراني في دلائله البينة في الكتابات اليهوديّة التي تأتينا من الحقبة المعروفة بفترة "ما بين العهدين"، أي، بعد توليف آخر سفر قانوني من العهد القديم وقبل توليف العهد الجديد. وهذه الفترة تغطي زمناً يمتد من العام 150 ق.م. تقريباً، إلى العام 100 م. تقريباً. كتابات ما بين العهدين هذه تصف هرميّة معقدة من الكائنات الملائكيّة، الأمر الذي يمكن اعتباره صدى للمفهوم الزرادشتي حول بلاط اليازاتات المقدّس. أما الفكرة اليهوديّة حول رؤساء الملائكة الرئيسين السبعة، فلربما تكون مستوحاة من الأمشا سبنتا السبعة، وهم أرفع الأرواح الحارسة في الاعتقاد الزرادشتي، كما لاحظنا من الحلقة الأولى في هذه السلسلة. كان لليهود أفكارهم الخاصة حول الملائكة قبل أن يلتقوا الزرادشتية بزمن طويل، وفي اعتقادنا أن هذا المفهوم البدئي مأخوذ برمته عن شعوب بلاد ما بين النهرين؛ لكن الملائكة هنا كانوا بلا أسماء، تمثيلات غير مشخصنة لرسالة الله وفعله. مع ذلك، وبعد السبي، كان للملائكة اليهود أسماء وشخصيّات، كما تم الحديث عنهم أيضاً كحرس لظواهر طبيعيّة عديدة، مثل اليازاتات الزرادشتية تماماً، التي تناولناها بالبحث في الحلقة الثانية من هذه السلسلة. كذلك فإن الفكرة اليهوديّة- المسيحية حول "ملاك حارس"، ربما تكون مستلهمة من شخصيّة الفرافاشي الزرادشتية، وهو ملاك حارس لكل كائن بشري فرد.
تتعايش كلّ من الثنويّة dualism" الكونيّة" و"الأخلاقيّة" في الفكر الزرادشتي عبر تاريخ الديانة الطويل؛ فتاريخهم ليس تاريخ فكرة ثنويّة أخلاقيّة "بدئيّة" والتي "خلفتها" أو "أفسدتها" فكرة ثنويّة كونيّة. وانعكاس النمطين الثنويين موجود على حدّ سواء في التفكير اليهودي. فسفر التثنيّة التوراتي، مثل الأسفار الأولى الأخرى من العهد القديم، كان قد أعيد تحريره وربما أعيدت كتابته خلال السبي وبعده. وفي مقطع هام من سفر التثنية نلمح نسخة يهوديّة من الثنويّة الأخلاقيّة:
" أنظر! إني قد جعلت اليوم أمامك الحياة والخير، والموت والشر. إذا سمعت إلى وصايا يهوه إلهك التي أنا آمرك بها اليوم، محبّاً يهوه إلهك وسائراً في سبيله وحافظاً وصاياه وفرائضه وأحكامه، تحيا وتكثر ويباركك يهوه إلهك في الأرض التي أنت داخل لترثها. وإن تحوّل قلبك ولم تسمع وابتعدت وسجدت لآلهة أخرى وعبدتها، فقد أعلن لكم اليوم أنكم تهلكون هلاكاً ولا تطيلون أيامكم في الأرض التي أنت عابر الأردن لتدخلها وترثها. وقد أشهدت عليكم اليوم السماء والأرض بأني قد جعلت أمامكم الحياة والموت، البركة واللعنة، فاختر الحياة لتحيا أنت ونسلك… " ( تث 30: 15-19 ).
لكن رغم هذه الانعكاسات اليهوديّة للثنوية الأخلاقيّة، فإن مذهب " الثنوية الكونيّة "، بمضمونه الرمزي والميثولوجي، هو الذي أثّر بأكثر ما يمكن بالمفكّرين اليهود المتأخرين. وحتى قبل السبي، وبفعل تهديد الدمار الذي قد يلحق بالشعب اليهودي من قبل الامبراطوريات الغريبة، فقد كان الأنبياء اليهود يقدّمون الرؤيا تلو الرؤيا حول حرب وكارثة ليستا فقط سياسيتين، بل أيضاً كونيتان. وهذا النمط من النبوءات، بعد السبي، تطوّر إلى ما يعرف بالأدب الأبوكاليبتي. وهو نوع من القصص الديني، يتضمن الشعر والنثر للتبشير باستخدام مستوى رفيع من الرمزيّة الميثولوجيّة لوصف حرب ليست فقط كونيّة بين قوى الخير والشر، بل يمكن أن نجد هناك أيضاً مخططاً لنهاية الزمان القادمة.
منذ بداياتها، كانت التعاليم الزرادشتيّة تقول إنّ للزمن ولخليقة الله بداية ووسطا وزمنا نهائيّا، سوف تحاكم فيه كلّ الأنفس. ومن ثم طوّرت تعاليم زرادشت ووضّحت عبر مجموعة من المقولات الميثولوجيّة، التي استعير كثير منها من الآلهة والآلهات ما قبل الزرادشتيّة والهندو-إيرانيّة، إضافة إلى ميثات الصراع الكوني من بلاد ما بين النهرين. من ثم راحت الزرادشتيّة تعلّم أيضاً حول زمن مقدّس بعينه، بنياناً تاريخيّاً للعالم المخلوق. وغالباً ما يعزا للزرادشتيين إدخال الأخرويات، أو معرفة نهاية الزمان وأحداثه، في العالم الديني للغرب والشرق على السواء.
يقول بعض النقّاد إن اليهوديّة لا تدين للزرادشتيّة بشيء، بل العكس. وتوخيّاً للحياد والموضوعيّة البحثيّة نقدّم هنا مختصراً لرأي من هذا النوع. فقد دافع الراحل جيمز دارمستتر عن الرأي المعاكس تحديداً، مؤكّداً بالتالي أن الفكر الفارسي الأولي تتأثّر للغاية بالأفكار اليهوديّة. فقد أصرّ أن الأفستا التي بين أيدينا، ترجع إلى زمن متأخر وأنها أشبعت كثيراً بالعناصر الغريبة، خاصة تلك المأخوذة من اليهوديّة، إضافة إلى تلك المستمدة من الأفلاطونيّة الجديدة عبر كتابات فيلون. وقد أطلقت هذه الآراء قبيل وفاة الباحث الفرنسي عام 1894 بزمن قصير. ومنذ ذلك الوقت، تصدّى لها اختصاصيّون كبار، فحاربوها بقوّة. بالمقابل، ثمة من يقول إنه لا يمكن الوصول إلى قرار حاسم في صالح أي من الطرفين المتنازعين. ويضيف إنه ربما أن الحقيقة تكمن بين الطرفين الراديكاليين المتطرفين، ومن الممكن أنه حين نصل إلى تحديد دقيق لتفاصيل الديانة الآشوريّة والبابليّة، فلربما أن ذلك يلقى مزيداً من الضوء على معضلة مصدر هذه التشابهات، وربما تظهر أرجحيّة لتأثير مشترك فعل فعله على الديانتين الفارسيّة واليهوديّة.
وإذا كان ما طرحه هذا الباحث صحيحاً، لدينا كل المبررات للتساؤل عن السبب الذي يمنع المدارس الدينية والكنائس والكنس أن تروّج لحقيقة كهذه؟ وأية ديانة هي هذه اليهوديّة، والتي استطاعت أن تتحكّم وتسيطر على حكّام وكهنة واحدة من أعظم الامبراطوريات التي عرفها عالمنا حتى اليوم؟ وأن أولئك الذين قاموا بنشرها كانوا مجموعة ضئيلة من اليهود الأتقياء الذين أسرتهم امبراطوريّة سابقة مترامية الأطراف وقويّة. لكن الحياديّة البحثيّة تدفعنا إلى الاعتراف بأن المعضلة الحقيقية التي قد تواجهنا في بحثنا هنا هي في تحديد ما كانت عليه تعاليم زرادشت الأصليّة:
1 – كيف يمكن أن نميّز بين إصلاحات زرادشت وديانة القبائل الإيرانيّة قبله؛
2 – كيف يمكن أن نميّز بين ديانة زرادشت والديانة التي تقدّمها لنا الكتب الزرادشتيّة التي بين أيدينا الآن، مثل الأفستا.
لم تحلّ هاتان المسألتان إلى اليوم بالكامل، لكن ما نعرفه حتى الآن كاف لأن نقول بثقة تؤهلنا لأن نربك المتعصبين من اليهود والمسيحيين: الديانة اليهودية – وبالتالي المسيحية والإسلام – تضرب بجذورها في تربة الغزاة الفرس الذين أقاموها ليسوغوا مكانتهم كملوك للعالم.
بالمناسبة، فإن ما واجهنا في بحوثنا حول الأصل اليهودي للإسلام – ونحن نعارض ما يقوله الأب جوزف قزي في "أعربي هو أو قس ونبي" وكريستوف لوكسنبورغ في " القراءة السريانيّة الآرامية للقرآن" – يشابه تماماً ما واجهنا في بحوثنا حول الأصل الزرادشتي لليهوديّة: ماذا كان عليه شكل اليهوديّة عندما ادّعى محمد نبوته؟ وكيف وصلت إليه هذه المعلومات التي تبدو في غالبيتها من أصل أغادي غير تاناخي؟
تتشارك الزرادشتيّة واليهوديّة والمسيحيّة بسمات كثيرة للغاية إلى درجة أنه يبدو أن ثمة رباطاً بينها. فهل هذا الرباط موجود بالفعل؟ إذا كان الأمر كذلك، كيف حصل؟ وكم من التشابه بين هذه الديانات يمكن ردّه إلى تطوّر متواز، أكثر منه تماساً وتأثيراً مباشرين؟
أبسط إجابة على السؤال الأول هي، نعم، هنالك تأثير كبير للزرادشتيّة على اليهودية والمسيحيّة؛ لكن المعضلة هي صعوبة توثيق هذا بدقّة، خاصة في مراحل اليهوديّة الأولى. الدليل هناك، لكنه دليل "ظرفي" بالكامل وهو غالباً لا يصمد أمام المحاكمة البحثيّة الصارمة. مع ذلك، يمكن للمرء أن يتجرّأ ويقدّم هذه الأفكار بنوع من اليقين، والتي تحمل سمة أن الأرجح أن لا تكون ثمة طريق محددة لإثبات أنها حقيقية أو غير حقيقية.
كل الديانات تستعير من الديانات التي سبقتها وتتبنى موادّ قديمة لشريعتها الجديدة، واليهودية غير مستثناة هنا. والعالم الإيراني المتعلّق بالملائكة والشياطين، النور والظلمة، الله ونقيضه، وخط الزمن المقدّس، يدخل عالم الأبوكاليبس اليهودي. إن كثيراً من هذه الكتابات الأوكاليبتيّة موجود من حقبة "ما بين العهدين"، مثل سفر أخنوخ، وهو توليفة لرؤى تتعلّق بالملائكة، الشياطين، والدينونة الأخيرة. فالفكرة الأبوكاليبتيّة حول نهاية الزمان، إضافة إلى الدينونة الأخيرة من قبل الله مع حلول النهاية، تدينان بالكثير للفكر الزرادشتي.
هرميّات الملائكة التراتبيّة:
الملائكة في منظوماتها المختلفة، أو سوياتها المختلفة، كانت جزءاً من ميثولوجيا بلاد ما بين النهرين القديمة. ولاحقاً في العام 400 تقريباً للميلاد، وصف الفيلسوف اليوناني ديونيسيوس الأروباجيتي هرم الملائكة؛ واعتماداً على كتاباته، تصنّف الملائكة تقليديّاً في تسعة منظومات. المنظومة العليا من الملائكة هي السرافيم، يتلوها الكروبيم، العروش، السيطرات، الفضائل، القوى، المبادئ، رؤساء الملائكة والملائكة. ووفقاً لهذا المخطط، تكرّس الدائرة الأولى من الملائكة – السرافيم، الكروبيم، والعروش – وقتها لتأمّل الله. الدائرة الثانية - السيطرات، الفضائل، والقوى – تحكم الكون. والدائرة الثالثة - المبادئ، رؤساء الملائكة والملائكة - تنفّذ أوامر الملائكة الأعلى.
رؤساء الملائكة هم ملائكة فائقون أو ملائكة من سويّة أعلى موجودون في عدد من التقاليد، بما فيها اليهوديّة، المسيحيّة، الإسلام والزرادشتيّة. كلمة رئيس ملائكة باللغة اللاتينيّة مشتقة من كلمتين يونانيتين، "أرخه" بمعنى حاكم، و"أنخيلوس"، بمعنى مرسل. يقوم الملائكة بمجموعة من الوظائف في الهرم السماوي بما فيها القيام بالواجبات السماويّة والإدارة اليوميّة للأكوان. غالباً ما يوصف رؤساء الملائكة أيضاً بأنهم منغمسون في معارك روحانيّة مستمرّة مع الشياطين، أو أنهم رسل الربّ للتفاعل مع بني البشر.
بحسب التقليدين اليهودي والمسيحي، فإن عدد رؤساء الملائكة هو سبعة، مع أن المراجع تختلف فيما بينها في أسماء وهويات هؤلاء السبعة السماويين المرافقين لله. رؤساء الملائكة الأربعة المقبولون مسيحيّاً؛ هم: ميكائيل، جبرائيل، رفائيل، وأوريئل؛ أما الاختلاف فيدور حول وضعية كلّ من، راغوئيل، رميئل، حموئيل، جوفيئل، زادكيئل، سيميئل، أوريفيئل، زاخريئل، سيلافيئل، جيغوديئل، وبراحيئل. وكل اسم من هذه الأسماء المختلف على مكانتها اقترح بأنه بقية أحد رؤساء الملائكة في التيارات المختلفة إن ضمن اليهوديّة أو المسيحيّة.
بمرور القرون، راح الناس يصفون وظائف الملائكة بطرق مختلفة. وتطوّر دور الملائكة ليحظى بتفاصيل هائلة في الأديان القائمة على الوحي – نقل أو إفشاء الحقيقة أو الإرادة الإلهيتين للكائنات البشريّة.
لا بدّ أن نلاحظ هنا أنّ أسماء الملائكة كلّها مستمدة من اسم الإله "إيل" في اليهوديّة، الذي غالباً ما يرد بصيغة الجمع، إيلوهيم؛ وهو إله غير أصيل عبرانيّاً. هذا يعني أن الملائكة غير ذات ترابط وثيق باسم الإله اليهودي القبلي، يهوه؛ كبعض أنبياء التوراة، يصحاك (إسحق) مثلاً. لقد قلنا في مقالات عديدة أنّه كان ثمة تنافس بين الإلهين، الأصلي والمستورد، وجد أفضل صيغه في الصراع بين إسحق (يصحاك: يهوه يضحك) وإسمعيل ( يشماعإيل: إيل يسمع)، حيث انتصر يهوه بوضوح على إيل. لكن التسوية لم تحصل إلا في زمن لاحق، وهو ما عبّرت عنه الشخصيّة الأسطوريّة الأبرز في تاريخ الميثولوجيا اليهوديّة، أي، إيل ياهو النبي. والذي يعني اسمه حرفيّاً، إيل هو يهوه. إذن، الملائكة، كما يدلّ اسمها بوضوح، مفاهيم مستوردة أقحمت في اليهوديّة لأنه لا يعقل احتشاماً أن تظل العلاقة مباشرة بين الإله وأنبيائه.
يرى غالبيّة الباحثين اليوم، أنّ مفهوم الملائكة ورؤساء الملائكة ظهر أولاً في الديانة الزرادشتيّة. لكننا نعتقد أن المفهوم أقدم من ذلك، وكما أشرنا في القسم الأول من هذه الدراسة، كان لدى شعوب بلاد ما بين النهرين مفاهيمها للملائكة. وربما أنّ الكشوفات الأثريّة تدخلنا أعمق في التاريخ من الحقبة السومريّة. لكن ما بين أيدينا اليوم ينتهي عند السومريين، كنصوص مدوّنة. مع ذلك، نعتقد أن هذا التصنيف الهرمي المنظّم جاء فقط مع الزرادشتيّة، ومنها انتقل إلى اليهوديّة والمسيحية والإسلام. وكما أشرنا، تقول تعاليم الزرادشتيّة إن هنالك سبع قوى أو سلطات سماويّة، معروفة باسم الأمشا سبنتا، تعمل مع الله، أو تنبثق منه، لإدارة الكون. وجلّ الباحثين اليوم يرون أنّ هذه الفكرة تشرّبتها اليهوديّة أثناء السبي البابلي.
ليس ثمّة إشارة صريحة إلى رؤساء الملائكة في الأسفار القانونيّة في الكتاب المقدّس العبراني. مع ذلك، باستثناء أعمال متأخرة مثل دانيال، الإشارات إلى الملائكة غير شائعة. وأوّل إشارة إلى رؤساء الملائكة ترد في الأدب من فترة ما بين العهدين، كما في سفر عزرا الرابع 36:4. أما أول إشارة إلى سبعة رؤساء ملائكة فنجدها في سفر أخنوخ الأثيوبي (ترجمناه إلى العربيّة ولم ننشره)، حيث ترد قائمة السبعة كما يلي: ميكائيل، جبرائيل، رفائيل، أوريئل، راغوئيل، زراحيئل، ورميئل. من هنا جاءت الفكرة المقبولة اليوم على نطاق واسع في الدوائر الأكاديميّة الرصينة، بأن الاهتمام اليهودي بالملائكة تم تعلمه خلال حقبة السبي البابلي. يقول الحاخام شمعون بن لاقيش الطبراني (230 – 270م. تقريباً)، ( وهو أمورا بارز للغاية ) إن كل الأسماء الخاصة بالملائكة أحضرها اليهود معهم من بابل. في تقليد القبالة الربّاني، الرقم الذي يعطى لرؤساء الملائكة لا يقل عن سبعة عادة: اسم واحد جديد هنا، ساريئل. أحياناً نجد اسماً جديداً آخر هو حنيئل.
الزرادشتيّة واليهوديّة:
تأثر الرأي المتعلّق بالملائكة في اليهوديّة بالزرادشتيّة. فالميثولوجيا الزرادشتيّة تصف صداماً كونيّاً بين أهورا مزدا وأهريمن – قوتا الخير والشر مع جيوشهما من الملائكة والشياطين. ومثل أهورا مزدا، إله العهد القديم يهوه له جيش ملائكة. وهؤلاء الملائكة المحاربون يخوضون غمار حرب ضدّ قوى الشرّ بقيادة الشيطان، الذي يشبه أهريمن. وفي أعقاب الرأي الزرادشتي، تقسم اليهوديّة الكون إلى ثلاثة أقسام: الأرض، السماء (الجنّة) والجحيم. الأرض هي وطن البشر. السماء محجوزة لله وملائكته. الجحيم هو العالم المظلم للشيطان وأتباعه. والملائكة تقوم بدور متشابه في الديانتين، حيث أنها تربط السماء بعالم البشر وتكشف لهم خطط الله وقوانينه. إن وظيفتهم هي خدمة الله وتنفيذ إرادته. فهم يكافئون على الخير ويعاقبون على الشر والجور. كذلك فهم يساعدون الناس على فهم إرادة الله، ويأخذون أنفس الأخيار إلى الجنة.
مختصر إجمالي:
نحاول في هذه الفقرة أن نختصر الأفكار الكثيرة الواردة في مقالتنا هذه، دون أن نشيؤ بالطبع إلى ضرورة متابعة السلسة من باديتها. لاشك أن مواضع التشابه بين الزرادشتيّة واليهوديّة، ومن ثم بين الأولى من جهة والمسيحيّة والإسلام من جهة أخرى، تبدو كثيرة وملفتة. فأهورا مزدا، إله إيران الأعلى، كلّي العلم، كلي الوجود، والخالد، المعطى قوّة الخلق، والتي يمارسها بشكل خاص عبر وساطة سبنتا مانيو ("الروح القدس")، ويحكم الكون بوساطة الملائكة ورؤساء الملائكة، يمدّنا بأقرب مواز ليهوه، إله اليهود، ومن ثم الله، إله المسلمين، يمكن أن نجده في العالم القديم. لكنّ قوة أورموزد (أهورا مزدا) معاقة من قبل عدوّه، أهريمن، والذي ستدمّر سطوته مع نهاية العالم. الشيطان، بجيشه من الملائكة الساقطين أو الأبالسة، يقدّم لنا الموازي الفعلي والحقيقيّ في اليهودية- المسيحيّة- الإسلام لأهريمن (أنغرا مانيو) الزرادشتي. بل يبدو لنا أحياناً أنّ قوّة الشيطان تتفوّق على قوّة يهوه- الله في ما يسمى بالديانات السماويّة. هذا يعني، رغم زعم ما يسمى بالأديان السماوية أنها توحيدية بالمطلق، أن الثنوية غير غائبة فيها عبر نقيض إله الخير، الشيطان. وقد أشار الباحثان الربّانيّان اليهوديّان، شور وكوهوت، واللاهوتي المسيحي، ستيف، إلى كثرة التشابهات بين الديانتين محط دراستنا.
بقي أن نقول، إنه ربما ساعدت الثنويّة الإلهية في الزرادشتيّة علماء اليهود في التخلّي عن شكل وحدانيتهم الملتبس، إن عبر الـ Henotheism أو الـ monolatry ، من أجل الوصول إلى وحدانيّة تبدو مطلقة، لأن شيطانها يشوبها برائحة الثنويّة إياها.

http://www.alawan-sa.org/%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%84%D8%A7%D8%A6%D9%83%D8%A9-4-3.html
 
 
Free Hit Counter Search Engine Submission - AddMe