الأحد، 6 ديسمبر 2009

طرد الموريسكيين: مأساة إنسانية في عز النهضة الأوربية

بقلم إدريس جنداري


من يعتقد أن هناك نوع واحد من الهولوكوست، مارسته النازية في حق اليهود في ألمانيا، فيجب عليه أن يعود إلى قراءة التاريخ الأوربي، قبل أربعة قرون فقط ،و سيعثر من دون شك على مأساة أكثر وحشية مما مورس على اليهود.
و تصادف هذه السنة 2009 الذكرى المئوية الرابعة لطرد آلاف المسلمين من الأندلس، بعد ما مورست عليهم أبشع أنواع خروقات حقوق الإنسان، في عز النهضة الأوربية، و يعتبر هذا الحدث في نظر الكثير من المؤرخين أول تصفية عرقية في تاريخ الإنسانية، قبل تصفية مسلمي البوسنة في عز الحداثة الأوربية و ميثاق حقوق الإنسان، الذي يقر بأن جميع الناس متساوين .
و "الموريسكي" أو "الموريسكيون" من الأسماء المتداولة في اللغة العربية، كما إن التاريخ الإسلامي يؤرخ لمأساة طردهم، و يقصد بهذا الاسم المسلمين الذين عاشوا في شبه الجزيرة الأيبيرية ( إسبانيا و البرتغال حاليا) بعد فتحها على يد الفاتح العظيم طارق بن زياد، و الذين طردوا منها بصدور مرسوم، في التاسع من أبريل/نيسان 1609، ينص على طرد كل المسلمين الذين لم يعتنقوا الدين المسيحي على النهج الكاثوليكي .
كما نجد في القاموس الإسباني أن مصدر كلمة موريسكي هو "مورو" باللاتينية، و تعني سكان شما إفريقيا، و انتقلت الكلمة إلى موريسكي morisco التي كانت تحيل على المسلمين الذين بقوا في إسبانيا بعد سقوط غرناطة، كآخر إمارة إسلامية في الأندلس، سنة 1492 .
و يذهب الخبير في التاريخ الأندلسي مانويل باريوس أغليرا من جامعة غرناطة، إلى أن الوضع القانوني للموريسكيين، ظهر رسميا في غرناطة و في باقي المملكة الإسبانية، يوم 12 فبراير/شباط 1502، و يتعلق الأمر بمرسوم يخير المسلمين بين اعتناق المسيحية أو الطرد .
من هنا جاء اسم الموريسكي ليحيل على المسلمين الذين اعتنقوا المسيحية ظاهريا للنجاة من النفي ، بينما بقوا ملتزمين بقيمهم الدينية الإسلامية، الشيء الذي سيقودهم إلى الطرد النهائي من الأندلس بصدور مرسوم 1609 .
و للإشارة فقط فإن اتفاقية غرناطة التي وقعت بين المسلمين و الكاثوليك سنة 1491، و التي طبقت ابتداء من 1492 سنة سقوط غرناطة ، كانت تنص على احترام الكاثوليك المسيحيين لممتلكات المسلمين و معتقداتهم، كما نصت على اعتماد الشريعة الإسلامية كمصدر للقضاء عند المسلمين، بل و أكدت على إمكانية عودة المسلمين الذين غادروا الأندلس إلى موطنهم الأصلي .
لكن رجال الدين الكاثوليك وعلى رأسهم الكاردينال سيسنيروس، حالوا دون تطبيق بنود هذا الاتفاق، و دفعوا في اتجاه مغاير تماما لروح الاتفاقية الموقعة .
و يعتبر سيسنيروس من رجال الدين الكاثوليك الذين مارسوا أبشع الجرائم في حق المسلمين و معتقداتهم، فقد أجبر جميع المسلمين على اعتناق المسيحية، و أقدم على إحراق جميع الكتب الإسلامية –باستثناء كتب الطب- و ذلك في ساحة باب الرمل في غرناطة، في محاولة منه لوضع حد للثقافة الإسلامية في الأندلس.
و قد طرد الموريسكيون إلى وجهات مختلفة ، لكن أغلبهم استقر بشمال إفريقيا ، و خصوصا في المغرب ، حيث شيدوا مدنا بأكملها ، مثل مدينة شفشاون ، التي توجد شمال المغرب ، كما تواجدوا بمدن طنجة و تطوان و سلا و الرباط … و هي مدن ما زالت إلى الآن تحمل معالم الحضارة الأندلسية، التي نقلها الموريسكيون عند استقرارهم بها .
و تؤكد الوثائق الإسبانية أن عدد المسلمين الذين طردوا من الأندلس، وصل خلال تلك الفترة إلى حوالي 272000، و ذلك حسب التوزيع التالي : 117464 موريسكيا من منطقة فالنسيا، 60818 من منطقة أراكون، 440625 من كاستيا و اكستيمادورا، 30000 من غرب الأندلس 13552 من مورسيا، و 3716 من إقليم كاتالونيا و 2026 من غرناطة .
لكن الوثائق العربية، و المغربية خصوصا تتحدث عن أكثر من مليون منفي ، و يبقى هذا الرقم الضخم في حاجة إلى الإثبات عبر الوثائق التاريخية، و إذا ثبت فإن هذه المأساة المسكوت عنها، ستكون أبشع بكثير مما تعرض له اليهود في ألمانيا النازية .
و لذلك يجب ألا يستمر السكوت عن هذه المأساة ، خصوصا إذا علمنا أن الطرد شمل كذلك يهود الأندلس، لكن تهمة معاداة السامية كانت لإسبانيا بالمرصاد، و صدر اعتذار رسمي من الملك الإسباني خوان كارلوس سنة 1992، بالإضافة إلى تمكين أحفاد اليهود المطرودين من الحصول على الجنسية الإسبانية بعد عامين من إقامتهم في إسبانيا .
و كل هذا لم يحصل مع المسلمين المطرودين بالآلاف، والذين استقروا في الأندلس لثمانية قرون، و أخرجوا سكانها الأصليين من الوحشية إلى الحضارة، و بنوا مؤسسات الدولة، و شيدوا العمران، و أبدعوا الفنون، و طوروا العلوم، وحافظوا على التنوع الثقافي و الديني للأندلس، باعتبارها نموذجا حضاريا متقدما يضم جميع أنواع الاختلاف و التعددية.
بعد كل هذا المجهود الحضاري المشهود، سيجد الموريسكيون أنفسهم في مهب ريح عاصفة، ستقتلعهم من الأرض التي ولدوا و نشأوا فيها، و لا يعرفون غيرها. و إلى حدود الآن لم تقدر إسبانيا (الديمقراطية) كل هذا الإرث الحضاري العظيم الذي تركه المسلمون في الأندلس، و الذي يذر على خزينة الدولة ملايير الأوروهات .
إلى حدود الآن ما يزال أحفاد الموريسكيين المطرودين ينتظرون على الأقل اعتذارا من الدولة الإسبانية، يرد إليهم كرامة أجدادهم المهدورة، و يقر لهم بدورهم الريادي في المساهمة في بناء حضارة شبه الجزيرة الأيبيرية، و في نفس الآن يمكنهم من العيش على أٍرض الأجداد بكل حرية، عبر تمكينهم من الجنسية الإسبانية، التي يستحقونها عن جدارة و استحقاق، كغيرهم من اليهود .
و تحقيق هذه المطالب –بالطبع- يبقى رهين وعينا بتاريخنا العربي/الإسلامي المشترك، بأمجاده و نكساته، لأن الغرب يسبقنا في ذلك، رغم ادعائه الارتباط بالحاضر و الانفتاح على المستقبل، كمنطق للحداثة التي لا تؤمن سوى بالتقدم و الاستمرارية .
إن الغرب يوظف مأساة الأرمن التي تعود للماضي، في علاقته بتركيا، و لذلك تبقى تهمة إبادة الأرمن سيفا مسلطا على تركيا ، يهددها في كل حين، و تنظم المظاهرات في العواصم الأوربية و الأمريكية الكبرى تنديدا بتركيا في فترتها العثمانية .
لماذا –إذن- هذا الكيل بمكيالين؟ و لماذا هذا المنطق المزدوج في التعامل؟
أليس من حقنا كذلك أن نعود إلى الماضي للتنديد بالهمجية الغربية في حق آلاف المسلمين ؟
لماذا لا ننظم نحن كذلك وقفات احتجاجية في عواصم الغرب الكبرى تنديدا بما اقترفه الغرب المسيحي في حق الموريسكيين ؟
لماذا لا نعلن يوم تاسع أبريل/نيسان من كل سنة كذكرى أليمة تنكس خلالها الأعلام ، و تقام المظاهرات المنددة بهمجية الغرب المسيحي ؟
لماذا لا يتحرك المجتمع المدني في اتجاه الضغط على الدولة الإسبانية قصد الاعتذار الرسمي عن الجرائم ضد الإنسانية التي اقترفتها في حق الموريسكيين، مع المطالبة بتمكين أحفاد الموريسكيين من الحصول على الجنسية الإسبانية من دون شروط مسبقة كمواطنين إسبان كاملي المواطنة، وكمساهمين في بناء إسبانيا الحديثة ؟
كلها أسئلة تدفعنا جميعا إلى الوعي بذواتنا، هذا الوعي الذي يتطلب بالضرورة الوعي بتاريخنا ، الذي هو جزء من حاضرنا و مستقبلنا كذلك ، لأن من لا تاريخ له ، لن يمتلك أبدا الحاضر و المستقبل .

 
Free Hit Counter Search Engine Submission - AddMe