الأربعاء، 2 ديسمبر 2009

البيوطيقا : سلطة التّقنية وتنافر القيم

بقلم رجاء بن سلامة

ما الحدّ الفاصل بين الآمال التي يسمح تطوّر التّقنيات البيولوجيّة بتحقيقها لتخفيف الألم والبؤس الجسديّ، والأوهام التي تغذّيها هذه التّقنيات، عندما تلغي المستحيل، وتلغي الإنسان باعتباره نقصا-في- الوجود (manque- à- être)، وتعد بتحقيق السّعادة التّامّة والصّحّة الدّائمة والشّباب المتجدّد، وتغذّي أوهام فراديس السّيطرة؟
لقد حقّق التّطوّر الطّبّيّ نتائج مدهشة في تحسين الصّحّة، ورفع معدّلات الأمل في الحياة، والتّخفيف من الألم والمعاناة، بالقضاء على الكثير من الأوبئة والأمراض التي كانت تذلّ وتقصي وتفني الأعمار وتمحق المدن. كما نجح هذا التّطوّر في مواكبة استقلاليّة الفرد وقراره عن طريق فصل الجنسانيّة عن الإنجاب بالتّحكّم في الإنجاب وموانع الحمل… لكنّ التّقنية هي السّحر الذي قد ينقلب على السّاحر، وهي الصّنيعة التي قد تلغي صانعها، على نحو ما تجسّده أسطورة فرانكشتاين. وهل فرانكشتاين مجرّد سرديّة تخييليّة، إذا ما فكّرنا في وطأة إيديولوجيات النّجاعة والمردوديّة، ومخاطر الاستنساخ البشريّ، والتّلاعب الجينيّ، وواقع الاتّجار بالأعضاء والسّوائل الحيويّة، واختزال الذّات البشريّة في البيولوجيّ القابل للتّطبيب والتّشريح والعلاج الكيمياويّ؟ أليست أسطورة فرانكشتاين أسطورة معرفيّة، تشير بغلوّ إلى بنية نفسيّة قائمة وممكن تقنيّ بشريّ يمكن أن يتحقّق على نحو قد يكون مرعبا، وقد يكون مدمّرا؟
إلغاء المستحيل وتحويله إلى ممكن عبر التّقنيات البيولوجيّة، وتصنيع الجسد الحيّ هو أساس سؤال البيوطيقا في تقديري.
البيوطيقا مصطلح مركّب من "الحياة" (بيو) والأطيقا، ظهر منذ السّتّينات، ليطرح مجال بحث جديد وتفكير مستحدث يستوجبه تطوّر التّقنيات الطّبّيّة الحديثة على نحو غير مسبوق. هكذا يعرّف بعض المختصّين هذا الحقل من التّفكير الذي يحاول مواكبة واقع التّقنية المطبّقة على الجسد الحيّ : "هي الدّراسة متعدّدة الاختصاصات لمجموعة الشّروط التي يفرضها التّسيير المسؤول للحياة البشريّة (أو للشّخص البشريّ) في إطار التّطوّرات السّريعة والمعقّدة للمعارف وللتّقنيات الييوطبّيّة." (تعريف دافيد روا، مدير مركز البيوطيقا بمونريال).
إنّه مبحث معياريّ استشرافيّ بالضّرورة، لأنّه يروم توجيه الواقع، وحماية الفرد والمجتمع والبيئة، ولكنّه ينتسب إلى الأطيقا لا إلى الأخلاق : الأطيقا باعتبارها تفكيرا ديناميكيّا إشكاليّا انعكاسيّا، يسائل الماقبليّات الأخلاقيّات، وباعتبارها مبادئ تنفتح على إمكانيّات التّأويل الذّاتيّ الفرديّ. والأخلاق باعتبارها منظومات دوغمائيّات قائمة على الثّوابت، ومفروضة على الأفراد، دون إمكانيّة الترجمة الذاتيّة الفريدة.
الأطراف والفاعلون المساهمون في هذا التّفكير متعدّدون : الأطبّاء، والفلاسفة، والحقوقيّون، والمشتغلون بقضايا النّفس البشريّة، وعلماء الاجتماع، ورجال الدّين، والسّاسة، والهيئات الحكوميّة والمدنيّة والدّوليّة… وقد ساهمت اليونسكو على نحو ما في النّقاش البيوطيقيّ بإصدارها "الإعلان العالميّ بشأن المجين البشريّ وحقوق الإنسان" يوم 11 نوفمبر/ تشرين الثّاني 1997. وهذا الإعلان يعتبر المجين البشريّ "تراثا للإنسانيّة" "بالمعنى الرّمزيّ"، ويمنع الاستنساخ البشريّ، ويدعو إلى احترام التّنوّع البشريّ في مجال علم الوراثة، ويمنع استخدام المجين البشريّ لغايات ربحيّة، ويقيّد البحث حوله بالإفادة الصّحّيّة المباشرة، وباحترام "حقوق الإنسان والحرّيّات الأساسيّة والكرامة الإنسانيّة لأيّ فرد أو مجموعة من الأفراد."
مجالات هذا التّفكير يمكن أن نجملها في ما يلي، دون ادّعاء الاستيعاب :
- الإنجاب والتّحكّم فيه، ومدى مشروعيّة الإجهاض والتّبرّع أو الاتّجار بالسّائل المنويّ واقتراض الرّحم، ومدى مشروعيّة اختيار جنس الجنين، ومدى مشروعيّة إخصاء المعاقين والمرضى النّفسانيّين..
- نقل الأعضاء وتبعاته وشروطه، وواقع الاتّجار بها في الكثير من البلدان..
- إشكاليّة تطبيق قوانين الملكيّة وإثبات البراءات في ما يخصّ علم الوراثة..
- التّجريب على الأشخاص، والاستنساخ البشريّ لغايات شتّى..
- الإصرار الطّبّيّ ومقابله القتل الرّحيم، والمساعدة على الانتحار..
- عمليّات التّجميل التي لا يقصد منها تدارك العيوب أو التّشوّهات، بل الاستجابة إلى هوامات الأشخاص، وإدامة الشّباب..
- الإفراط في تطبيب الذّات البشريّة، والإفراط في اللّجوء إلى العلاج الكيمياويّ النّفسيّ، ومدى شرعيّة اعتماد هذا العلاج لدى الأطفال..
- تبديل الجنس، دون وجود مبرّر بيولوجيّ يعود إلى التباس فيزيولوجيّ وتشريحيّ..
التّفكير الإيطيقيّ في هذه المجالات ليس بالهيّن، لأنّ احترام "حقوق الإنسان والحرّيّات الأساسيّة والكرامة الإنسانيّة لأيّ فرد أو مجموعة من الأفراد" مسألة معقّدة عند التّطبيق، تواجه معضلة التّوفيق بين مصالح متعارضة، بل وبين قيم متنافرة أحيانا : هل نحترم حقّ الحياة، أم نحترم مطالبة الأشخاص بما يسمّى "الموت الكريم"؟ هل نحترم مبدأ الكرامة المتأتّي من التّفكير الكانطيّ الذي يقرّ بأنّ الإنسان غاية في حدّ ذاته لا وسيلة، أم نحترم حرّيّة الأفراد، حرّيّة المرأة مثلا بأن تقرض رحمها أو تتّجر به؟ هل نحترم حرّية الفرد في تغيير جنسه، أم نفكّر في مخاطر التّشويه، وفي استحالة تغيير الجنس البيولوجيّ، وفي ضرورة القبول بجنس واحد باعتباره وجها من وجوه المحدوديّة البشريّة، ووجها من وجوه الإخصاء الضّروريّ؟ من يمتلك الجسد البشريّ ومن صاحب القرار بشأنه، وهل تنطبق مبادئ السّيادة والاستقلاليّة على كلّ الحالات؟ ثمّ كيف نعرّف الحياة نفسها، وكيف نعرّف الموت، وكيف نعرّف الشّخص؟ متى تبتدئ حياة الشّخص ومتى تنتهي؟ متى يكون الجنين البشريّ شخصا يمتنع قتله؟ ما هو الموت طبّيّا وإيطيقيّا : هل هو موت الدّماغ الذي فرض نفسه حديثا؟ ولكن هل يمكن إثبات توقّف نشاط الدّماغ بلا رجعة، لدى الأشخاص الذين يتواصل اشتغال أعضائهم عن طريق التّقنية الطّبّيّة؟
ثمّ ما علاقة الإنسان ببقيّة الكائنات الحيّة؟ ألا يعاب اليوم على المنظومات التّيولوجيّة القديمة، وعلى مفهوم الكرامة نفسه، تكريس المركزيّة البشريّة التي جعلت الكائنات الحيّة إلى اليوم مسخّرة لخدمة الإنسان، وجعلت الإنسان مؤتمنا عليها، وفي الوقت نفسه مستغلاّ مفسدا لها؟
أجوبة البيوطيقا ليست بسيطة، وليست واحدة، لأنّ اتّجاهاتها التّفكير البيوطيقيّ متعدّدة، متراوحة بين البراغماتيّة التي تبحث عن الوفاق والتّوفيق بين المصالح المختلفة، ونوع من "المثاليّة" التي تنشد فرض المحاذير، متراوحة بين الإعلان عن المبادئ العامّة، والنّظر في الحالات الخاصّة باعتبارها مخصوصة ومظروفة..
أسئلة الملفّ الذي نفتحه في الأوان هي أسئلة البيوطيقا نفسها، نضيف إليها أسئلتنا الخاصّة "المظروفة" هي الأخرى :
- ما موقع البيوطيقا في العالم العربيّ، وما هي الهيئات التي يتوفّر فيها هذا التّفكير، وما مدى تأثيرها؟
- ما واقع الممارسة الطّبّيّة التّقنيّة في البلدان العربيّة، وما محاذيرها، وما هي التّشريعات القانونيّة التي تتّصل بها؟
- ما مرجعيّات التّفكير في هذه المسائل، وما العلاقة بين المنظومات البيوطيقيّة في العالم والمنظومات المعياريّة الدّينيّة الإسلاميّة وغيرها؟
- ما وضعيّة الفتاوى التي تهتمّ بجديد الصّناعة البيولوجيّة، لكنّها تستبدل التّفكير البيوطيقيّ المعقّد بتقديم أجوبة متعارضة بين التّحليل والتّحريم؟
 
 
Free Hit Counter Search Engine Submission - AddMe