الجمعة، 30 أكتوبر 2009

المثليّة الجنسيّة (21)

بقلم ثائر العربي

تميل بعض الدراسات التي تتقصّى تاريخياً جذور المثلية الجنسية في أثينا، وقد كانت مثل هذه العلاقات شائعة وبالتحديد العلاقات بين الذكور إذ قلما تتوافر المصادر التي تتحدث عن العلاقات المثلية بين النساء، إلى انكار البعد الشهواني والعاطفي بين طرفي العلاقة. وتعمد إلى تفسير هذا السلوك الجنسيّ افتراضياً كنوع من علاقة ذات أهداف تربوية وتلقينيّة؛ أي لواطة تربوية. حيث يكون الفاعل الإيجابيّ بمثابة الأب البديل للمفعول به السلبيّ، وذلك لكي يساعده في بلوغ الرجولة والنضج. وهي تستند بذلك إلى الصور والرسومات التي نقشت على الزهريّات \vases، ومعظم تلك الصور تجسّد الشخص الذي يقوم بدور الفاعل \Erastes بصورة الرجل البالغ الملتحي، بينما المتلقي \Eromenos يكون مراهقاً أصغر سنّاً لم تنبت لحيته وتظهر عليه ملامح الخجل. ولا يبدو أنّ هذا المراهق كان يستمتع بالعلاقة الجنسية بدليل أنه لا يبلغ مرحلة الانتصاب، حتى عندما يلمس الرجل البالغ أعضاءه الجنسية. كما تستند إلى الأدبيات اليونانية التي كانت ترى أنّه من المعيب أن يبقى الرجل البالغ سلبياً، وأن يسمح لنفسه أن يلاط به من قبل رجل بالغ آخر، ومثل هؤلاء كانوا عرضة للسخرية من الآخرين وبالتحديد كتّاب الكوميديا.
إلا أنّ واقع أثينا لم يكن بهذه الانتقائية، ومن جملة الاعتراضات التي تقف في وجه التفسير الأوّل أنّه ليس بالضرورة أن يكون لكلّ رجل بالغ لحية. كما أنّه من المعروف أنّ الأثينيين كانوا يقيمون شأناً كبيراً للجمال حتى عند الذكور، وبالتالي فإنّ شغف الرجال البالغين تجاه اليافعين ذوي الأجساد الجميلة كان طبيعياً. وقد تمّ العثور على كثير من الزهريّات التي تجسّد اليافعين في حالة الانتصاب القضيبيّ، وهم في اتصال جنسيّ مع بعضهم أو مع الأكبر منهم سنّاً، وكذلك رجال بالغون يمارسون الجنس مع بعضهم رغم أنّ العلاقة بين الرجال البالغين كانت مكتومة لأنها عرضة للسخرية والتهكّم.
ورغم المثالية الأخلاقية التي تناول بها فلاسفة اليونان وحكماؤهم العلاقة العشقية بين المعلّم الفيلسوف والتلميذ، كمثال أفلاطون الذي يرى أنّ المعلم الحقّ هو الذي يفضّل جمال الروح على جمال الجسد، والحبّ المثليّ الصافي بين المعلّم والتلميذ يكون روحياً فقط ويتعلّق بالتعليم وتحصيل المعرفة، إلا أنّه لم يخف ولع وافتتان أستاذه سقراط بالأولاد، ويصف كيف كانت تنتابه نوبات من الهوس في حضور بعض الأولاد وخصوصاً الجميل منهم. ويقول على لسانه أنّه كان عاجزاً أمام بعض المراهقين عن ضبط نفسه، ولا يمكنه تخطّي هذه الحالة إلا بعد طرح الأسئلة الصعبة على هؤلاء الذين وقع في هواهم وتعليمهم الفلسفة. وفي ذلك دلالة بالغة على أنّ الاتّصال الجنسيّ بين الرجل البالغ الحكيم والمراهق لم يكن له أيّ صلة باللواطة التربوية، وإنّما كان عشقاً خالصاً بذاته.
أمّا في روما فقد ذكرت بعض المصادر التاريخية أنّ الإمبراطور نيرون تزوّج أكثر من رجل. كما عرفت بعض المجتمعات كالصين وأمريكا الشمالية وافريقيا الزواج المثليّ بين الذكور، وكانت تقام الاحتفالات لحضور مراسيم الزفاف التي تتطابق تماماً مع الاحتفالات التي تقام بمناسبة الزواج من امرأة.
من الواضح أنّ البشرية عبر تاريخها الطويل كانت ولا تزال تفرز رجالاً ونساءً ممّن وجد متعته الجنسية مع مثيله من نفس الجنس رغم قلّة عددهم نسبياً. لكن لماذا لم ينل هؤلاء الرضا المجتمعيّ على الدوام؟ ما هي المعايير الدينية والاجتماعية التي صبغت أحكامنا عليهم؟ وهل تمثّل المثلية الجنسية هويّة شاذّة نفسياً وعقلياً؟ وما هي ماهية التقييم العلميّ لهم اليوم والعالم يشهد ثورة علمية في ميدان العلوم النفسية والبيولوجية؟
ممّا لاشك فيه أنّ النظرة التقليدية الاجتماعية منذ أقدم الجماعات البشرية كانت توظّف المتعة الجنسية للغاية الإنجابية وزيادة عدد أفراد الجماعة لأغراض إنتاجية أو حربية؛ ذلك يعني أنها كانت ترى في الجنس المثليّ ميلاً فردياً أنانياً لا يخدم مصلحة الجماعة. كما أنّ العلاقات الجنسية المثلية أصبحت ممقوتة بشدّة في المجتمعات التي خضعت لتأثير الديانات السماوية، فقصّة هلاك قوم لوط الذين كانوا يمارسون هذه العادة وردت مراراً في الكتب المقدسة كما تتكرر الإشارة إلى عاقبة الذين يضاجعون الذكور مضاجعة النساء. فقد ذكر في سفر اللاويين من العهد القديم "وإن ضاجع أحد ذكراً مضاجعة النساء فكلاهما فعل أمراً معيباً فليقتلا ودمهما على رأسيهما". ومنذ ذلك الحين اعتبر الأشخاص المثليّون مذنبين تحقّ عليهم لعنة الله والبشر ويستحقّون العقاب، أي أنّ المثلية أصبحت بالمعيار الدينيّ جريمة بحقّ المجتمع؛ أي أنّها وضعتهم في سلّة واحدة مع اللصوص والقتلة ويجب تطهير المجتمع بالكامل من أمثال هؤلاء.
لكنّ الاهتمام العلميّ بالمثلية الجنسية بدأ مع بدايات اهتمام علم النفس بدراسة الشذوذ الجنسي، وبسبب تأثير نظريات فرويد في التحليل النفسي فقد ساد الاعتقاد أنّ المثلية هي اضطرابات جنسيةSexual disorder وخلل في نموّ الوظيفة الجنسية، وذلك بسبب اضطرابات نفسية Psychological disorder في مرحلة الطفولة المبكّرة. إلا أنه قد ظهر في العقود اللاحقة لذلك عدد من الباحثين النفسيين لم يكن مقتنعاً تماماً بهذا التفسير، وحاولوا إجراء دراسات اختبارية على عينات من المثليين ومن غير المثليين من الجنسين، وعند مطابقة نتائج الاختبار مع الأشخاص المختبرين لم تقدّم النتائج مؤشّرات تميّز من هو مثليّ أو ليس مثلياً، فوجدوا أنّ الظروف النفسية السيّئة في الطفولة قدّمت نفس الاحتمالات للأشخاص المثليين وغير المثليين على حدّ سواء ولكن لم يصبح الجميع مثليّي الجنس، وكذلك ففي الحين الذي يمكن تبيّن الاضطراب النفسيّ عند بعض المثليين يصعب تمييزه عند الآخرين، ووجدوا أنّ الكثيرين ممّن يعتبرون أنفسهم مثليّي الجنس كانوا في الوقت نفسه يميلون إلى الجنس الآخر. وهذا ما عزّز القناعة بأنّ السلوك المثليّ لا يمثل خللاً نفسياً أو عقلياً، ولكنّ احتمالية أن تكون الاضطرابات النفسية سبباً تبقى قائمة عند دراسة كلّ نموذج فرديّ باستقلال.
كما أنّه ثبت فشل الأطباء والمعالجين النفسيين في معالجة المثليين وتحويل الميول الجنسية من الجنس ذاته إلى الجنس الآخر. وهذا ما يؤكّده المثليون أنفسهم بإصرارهم على أنّ المثليّة ليست اختياراً ولا هي نمط حياة خاصّ، بل هكذا وجدوا أنفسهم ولا يملكون خياراً آخر.
ومنذ العام 1973 قد ألغت "الجمعية النفسية الأمريكية" المثليّة من دليلها التشخيصيّ والإحصائيّ، وأنهت بذلك التصنيف الرسمي للمثليّة كمرض نفسي. كما ألغت الجمعية الأمريكية لطبّ الأمراض العقلية تصنيف المثليّة كمرض عقليّ في العام ذاته.
إنّ الجدل الكبير حول الطبيعة المعقدة للنفسية الإنسانية وانعكاسها على الميول الجنسية أغرى الباحثين في حقل البيولوجيا بدراسة المسألة. وتشترك في هذا ثلاثة فروع علمية وهي علم التشريح وعلم وظائف الغدد وعلم الوراثة، ويحاول عدد من العلماء إثبات الأصل الفطريّ للمثلية من خلال الفحوص التشريحية على بنية الدماغ، وكذلك بالاعتماد على دراسة التوزّع الجيني في السلسلة الوراثية لاكتشاف الفروقات بين المثليين والطبيعيين. ومع أنّه توجد بعض النتائج التي تؤكد هذا الزعم إلا أنها غير مقبولة علمياً بعد بشكل حاسم.
وقد كان من نتيجة تلك الجهود العلمية، وأحياناً بفعل الضغط والنشاط الإعلاميّ لحركة دعم حقوق المثليين الجنسية، أن استبدلت منظمة الصحّة العالمية في العام 1992 تعريف المثلية الجنسية كمرض عقليّ إلى تعريفها كنقص الإثارة في العلاقة الجنسية مع الجنس الآخر. وكذلك فعلت حكومة المملكة المتحدة في العام 1994 ومن ثمّ وزارة الصحة في روسيا الاتحادية في العام 1999 والمجمع الصينيّ لطبّ الأمراض العقلية في العام 2001.
بالوقوف على حال المجتمعات العربية نجد أنّ المثليين يعانون من اضطهاد مكثّف. فالتجريم القانونيّ والدينيّ يدفع بهم إلى السجن. وفي المستوى دون التشريعيّ، ونتيجة دور الثقافة الدينية في تشكيل الوعي الاجتماعيّ، فإنّ المثليّة أي اللواطة، ولا ننسى هنا أننا نتحدّث عن اللواطة الذكورية طالما أنّ الحضور النسوي لا يشكّل أهمية اجتماعية في ظلّ تلك الثقافة، كان لا بدّ أن تثير السخرية والنفور والاشمئزاز عند الآخرين. وهذا ما وضع المثليين في وضعية نفسية تشعر بالدونية والحرج باستمرار، إضافة إلى الإحساس بالذنب. ومن الطبيعيّ أن تفرز هذه النفسية القلقة في محيطها الاجتماعي عند البعض آليات دفاعية تتمثّل بالنرجسية والتعالي أو الحقد والكراهية لتغطية الإحساس بالدونية والذنب، وقد يدفعهم شعورهم بالنبذ والعزلة إلى تعاطي الكحول والمخدّرات وارتكاب الجرائم أحياناً.
هذا ما يدفعنا إلى الاعتراف بأنه لحلّ هذه الإشكالية التي تنخر النسيج المجتمعي، إذ من المحتمل أن يكون في كلّ عائلة فرد مثليّ وهو أيضاً جزء فاعل في الحياة اليومية المشتركة لنا، لا بدّ أن تشترك الفاعليات والمنظمات المجتمعية الإعلامية والتربوية والثقافية والحقوقية، ويتم ذلك من خلال زيادة الوعي والتعريف بالمثلية والدعوة إلى احترام الأفراد على أساس العمل والصدق مع الآخرين لا على أسس الميول الجنسية. وكذلك الدعوة إلى نزع مشاعر الخوف والنفور من مشاركة المثليين في أماكن الدراسة والعمل، وإعداد دراسات طبية وقانونية متخصصة حول المثليين، وإقامة مراكز الاستشارة النفسية والعناية بالصحة النفسية وتزويدها بالكوادر العلمية المتخصصة.
إنّ مثل هذه الإجراءات تسهم أيضاً في التعاطي الإيجابي من المثليين أنفسهم تجاه الاضطرابات النفسية والجنسية التي يختبرونها في مرحلة معينة من العمر، ويسمح لهم بالاعتراف الصريح بميولهم الجنسية دون خجل وشعور بالنقص.
ويجب الإشارة أخيراً إلى أنّ التأكيد على حقوق المثليين والقبول بهم كأفراد طبيعيين في بنية مجتمعاتنا ذات الخصوصية، والقدرة على جعل ذلك أصيلاً، يستلزم كفّ بعض التكوينات التي تتنادى لتكوين جماعات من المثليين عن اعتبار أنفسهم ذوي هوية ثقافية خاصة غريبة ومستقلة عن ثقافة مجتمعهم العربية.





 
Free Hit Counter Search Engine Submission - AddMe