السبت، 31 أكتوبر 2009

تأليف القرآن- الكشف الوافي بقلم معروف الرصافي- الحلقة 13

رياض الحبيّب

لقد ورد “اللوح المحفوظ” مرّة واحدة في القرآن وتحديداً في سورة البروج: 22 فما هو هذا اللوح وأين مكان حفظه؟
لقد جرت العادة أن أستعين بتفاسير بعض المفسّرين من أئمّة المسلمين الكبار، ثمّ القيام بالتعليق على التفاسير- وهذا في رأيي هو المنهج العلمي الصحيح للبحث، إذ لا يجوز للباحث في قضايا الدين أن يُفسّر تفسيراً خاصّاً أو على هواه، لأنّ الدين من المواضيع الحسّاسة التي تهز مشاعر المتديّنين والمتديّنات وقد تخدشها في أحيان كثيرة، لذا وجب على كلّ كاتب استقاء التفاسير من المفسّرين المعتمَدين لكتاب يُعتـَبَرُ مقدّسـّاً عند أتباعه وبعدئذ يحقّ له أن يُبدي رأياً في التفسير أو يُحلّل نظريّة ما.
وبالمناسبة؛ لقد وجدتُ أكثر الكتـّاب جهالة في الغرب والشرق بل أقلـّهم مرتبة في تقديري مِنَ الذين ينتقدون كتاباً لم يقرأوه من مصدره إنـّما قرأوا عنه ما قيل وما كـُتِب- ولا سيّما الإنجيل- وهكذا قرأتُ الحكمة القائلة: لا تحكـُمْ على كتاب من غلافه. فمن ظنّ من الكتـّاب أنّ القرّاء لا يميّزون بين كاتب قارئ وباحث وبين آخر لم يقرأ ولم يبحث يكنْ مُخطئاً وعليه تالياً أنْ يتقبّل من القرّاء انتقاداً ما لا يليق بشخصيّته وما قد يؤدّي إلى انتهاء مصداقيّته؛ لأنّ الكتابة مسؤولية أخلاقيّة كبرى وعلميّة من جهة أخرى وعلى الكاتب أن يفكـّر بما يكتب في جميع الجهات ما أمكن قبل أن يُرسل بمادّته إلى النشر مرتاح الضمير. فكفى بالكتـّاب السّذ ّج سذاجة- إن جاز التعبير- لأنّهم والقرّاء الكرام يعيشون في عصر الإنترنت أي عصر المعلوماتيّة السريعة.

هنا في البداية تفسير الإمام الطبري- المفسّر والمؤرّخ ت 310 هـ- وسوف أضع ملاحظاتي بين قوسين كبيرين [ ] كما جرت العادة:
عن مجاهد {في لوح} قال: في أمّ الكتاب-
[في معجم “لسان العرب” عن ابن عباس: أُمُّ الكِتاب القرآن من أَوله إلى آخره. وقال قَتادة: أُمُّ الكتاب أَصْلُ الكِتاب]
عن قتادة {في لوح محفوظ} عند الله
عن أنس بن مالك, قال: إن اللوح المحفوظ الذي ذكر الله {بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ} في جبهة إسرافيل-
[في القاموس المحيط: اسْرافيلُ، بكسرِ الهمزةِ: اسمُ مَلَكٍ، وقيل خُماسِيٌّ هَمْزَتهُ أصْلِيَّة- وهذا ما ورد في “لسان العرب” أيضاً. وإسْرَافِيلُ: لُغَة في إسْرافينَ، أعْجَمِيٌّ مُضافٌ إلى إيلَ- وهو قول الأخفش أيضاً]

وهنا تفسير القرطبي ت 671 هـ:
أيْ مكتوب فِي لَوْح. وَهُوَ مَحْفوظ عِنْد اللَّه تعَالَى مِنْ وُصُول الشّياطِين إليْهِ. وَقِيلَ : هُوَ أُمّ الكِتاب; وَمِنْهُ اُنتـُسِخَ القـُرآن والكُتـُب
وقال مقاتل: اللوح المحفوظ عن يمين العرش
وقال ابن عباس: أول شيء كتبه الله تعالى في اللوح المحفوظ “إني أنا الله لا إله إلا أنا , محمد رسولي , من استسلم لقضائي, وصبر على بلائي, وشكر نعمائي, كتبته صدّيقاً وبعثته مع الصدّيقين , ومن لم يستسلم لقضائي ولم يصبر على بلائي, ولم يشكر نعمائي, فليتخذ إلهاً سواي”

وهنا تفسير ابن كثير ت 774هـ:
أي هو في الملإ الأعلى محفوظ من الزيادة والنقص والتحريف والتبديل
عن ابن عباس أن رسول الله ص قال: إن الله تعالى خلق لوحاً محفوظاً من درّة بيضاء صفحاتها من ياقوتة حمراء قلمه نور وكتابه نور لله فيه في كل يوم ستون وثلاثمائة لحظة يخلق ويرزق ويميت ويحيي ويعز ويذل ويفعل ما يشاء.

وهنا تفسير الجلالين- المَحَلّي ت 864 هـ والسّيوطي ت 911 هـ:
“في لوح” هو في الهواء فوق السماء السابعة “محفوظ” بالجرّ من الشياطين ومن تغيير شيء منه طوله ما بين السماء والأرض, وعرضه ما بين المشرق والمغرب, وهو درّة بيضاء قاله ابن عباس رضي الله عنهما-
[أي رضِيَ الله عن العباس وعن ابنه]

- تعليقي: سأترك التعليق على ما تقدّم من تفاسير لذوي الألباب. ورُبّ سائل يسأل: من هو ابن عبّاس، هذا الذي لا يخلو كتاب تفسير من أحاديثه؟
ويكيبيديا أجابتْ والكاتب يتصرّف ويختصر، لأنّ المستوى اللغوي في القسم العربي من الموسوعة المذكورة ما يُرثى له وكذلك المعلوماتيّة:
{هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم، حَبْر الأمّة وفقيهها وإمام التفسير، ولد ببني هاشم قبل عام الهجرة بثلاث سنين، وقد روي له 1660 حديثا. كان مقدّماً عند أبي بكر وعثمان بن عفان، ثم جعله عليّ بن أبي طالب والياً على البصرة وكان عمره يوم وفاة محمد 13 عاماً وقيل 14} انتهى

- تعليقي: كان ابن عبّاس صغيراً بالسّنّ وفي الأقلّ لم يُعاصر زمن قيام محمد بادّعاء الرسالة ليعي ما جرى، ولا علِمَ بـ “أسباب النزول” إلّا ممّا رُويَ له فقلّ ما وعى، فكيف أصبح بهذه المكانة من الأمّة- حبرها وفقيهها وإمامها؟ سُبحان مانح المواهب وموزّع المناصب. ولله درّ لبيد بن ربيعة* صاحب إحدى المعلـّقات إذ قال في معلـّقته الموسومة:
عَفَتِ الدِّيَارُ مَحَلُّهَا فَمُقامُها *** بمِنَىً تأَبَّـدَ غـَوْلُهَا فرِجَامُهـا
فمَدَافِعُ الرَّيَّان عُرِّيَ رَسْمُهـا *** خَلَقاً كَمَا ضَمِنَ الوُحِيَّ سِلامُها
دِمَنٌ تـَجَرَّمُ بَعْدَ عَهْدِ أنِـيسِها *** حِجَجٌ خَلَوْنَ حَلالُها وحَرَامُها
إلى أن يقول:
فَوَقفتُ أَسْأَلـُها وَكَيْفَ سُؤالـُنا *** صُمَّاً خَوَالِدَ مَا يَبيْنُ كَلامُها
عَرِيَتْ وَكانَ بها الجَميْعُ فَأَبْكَرُوا *** مِنْهَا وَغُودِرَ نُؤْيُها وثـُمَامُها

والجدير ذكره بالمناسبة أنّ الأديب الراحل طه حسين، ممّا ورد في كتابه- حديث الأربعاء، كان من المعجبين بشِعْر لبيد*

--------------

وهنا بحث تفصيلي شامل ودقيق عن لوح القرآن “المحفوظ” ممّا قام القمّص زكريا بطرس في قناة الحياة الفضائية في خلال بحثه بجهد مميّز، معلومات كثيرة وأدلّة علميّة موثـّقـَة، هذا عَبْر برنامجه الأسبوعي- حوار الحق- والحلقة المرقمة 109 والتي يمكن مشاهدتها من الرابط التالي:
http://islamexplained.com/Programs/TruthTalk/tabid/136/Default.aspx

وقد ورد في هذه الحلقة ما يوثـّق أنّ “اللوح المحفوظ” من عقائد السومريّين والأيزيديّين ما زاد عن 3000 سنة قبل الميلاد. وقد عُرف اللوح المذكور بين عرب الجزيرة نتيحة للإحتكاك مع أقوام البلاد ما بين النهرين، كما ورد أيضاً توضيح للفرق ما بين لوحَي التوراة وبين اللوح القرآني الذي فسّر المفسّرون. وهنا بعض ما ورد في التوراة عن اللوح:
خروج 12:24 - وقال الربّ لموسى: ((إصعدْ إليّ إلى الجبل وكنْ هناك فأعطيَكَ لوحَي الحجارة والشريعة والوصيّة التي كتبتـُها لتعليمهم))
أمّا الجبل فهو جبل سيناء [خروج 16:24] وأمّا وصايا الله العشر فمذكورة في سِفـْر الخروج سلفاً [الأصحاح 20] وأمّا من يريد قراءة الشريعة الموسوية بل الكتاب المقدّس بعهديه القديم والجديد- باللغة العربيّة- فهنا الرابط:
http://www.albishara.org


أمّا الرصافي فقد أثار موضوع اللوح المحفوظ في كتابه الموسوم "الشخصيّة المحمّديّة" بما يلي:
هل القرآن كان في اللوح المحفوظ، وأ ُنز ِلَ على محمد دفعة واحدة، وما المقصود باللوح المحفوظ وما هو تعريف القرآن في المفهوم الديني وفي مفهوم اللغة؟
من الأمور التي شط ّ بها علماء الدين عن الحقيقة واليقين ما قالوه في اللوح المحفوظ من الأقوال الواهية فقد قال جماعة منهم إن القرآن أنزل جملة في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى بيت السماء الدنيا ما يقال له بيت العزة فحفظه جبريل (الإتقان 40:1) وغشي على أهل السموات من هيبة كلام الله فمرّ بهم جبريل وقد أفاقوا وقالوا: ماذا قال ربّكم؟ قالوا: الحق، يعني القرآن، وهو معنى قوله تعالى (حتى إذا فزع عن قلوبهم) (سبأ: 23) فأتى جبريل إلى بيت العزة فأملاه على السفرة الكتبة، يعني الملائكة، وهو معنى قوله تعالى: (بأيدي سفرة * كرام بررة) (عبس: 15-16)

وأضاف الرصافي موضحاً معنى اللوح في لسان العرب:
يطلق اللوح في اللغة على كل صحيفة عريضة من خشب أو عظم أو غير ذلك، وكانوا في الزمان الأول يكتبون فيما وجدوه من ألواح الحجارة والخشب والعظام وغيرها لفقد القرطاس عندهم أو لقلـّته، فيقال كتب في اللوح، حتى قيل إن اللوح مأخوذ من أن المعاني تلوح فيه بالكتابة وهذا القول صحيح بالنظر إلى استعمالهم اللوح للكتابة كالقرطاس، وإلّا فاللوح في أصل اللغة لا يطلق إلّا على ما فيه عرض واتساع، ولذا يطلق اللوح (بفتح اللام وبضمّها) على ما بين السماء والأرض من الهواء أي الفضاء لاٌنبساطه واٌتساعه. ولما كان اللوح يُستعمل للكتابة عندهم، صحّ في الاستعمال اللغوي إطلاقه على الكتاب كما هو في هذه الآية [البروج: 22] ويدلّ على ذلك أن القرآن اٌستـَعمل الكتاب بدل اللوح في آية أخرى من سورة الواقعة: 77-78 فقال (إنـّه لقرآن كريم * في كتاب مكنون) أي مصون، فاللوح والكتاب في الآيتين شيء واحد.

- تعليقي: أعيد كتابة آخر ما ورد في سورة البروج (بل هو قرآن مجيد * في لوح محفوظ) لأقول، بالإضافة إلى قول الرصافي، ليس من البلاغة بشيء تكرار الكلام؛ أفما كانت فكرة مؤلّف القرآن لتصِل سواء بقوله (إنـّه لقرآن كريم * في كتاب مكنون) أو بقوله (بل هو قرآن مجيد * في لوح محفوظ) وهذا من جهة- ومن جهة أخرى، ما ضرّ مؤلّف القرآن لو أبدل (إنّه لقرآن كريم) التي في الواقعة بـ (بل هو قرآن مجيد) التي في البروج أو العكس؟ والحال عينها مع الآية الأخيرة لو اكتفى المؤلف بإحداهما، مَنْ كان ليعترض عليه؟ وهل كان عدد آيات القرآن سيُنقـَص، مع الأخذ بنظر الإعتبار ما ضاع من القرآن وأ ُسقِط وأ ُنسي، ما تمّتْ مناقشته في بعض حلقات هذه السلسلة.

أمّا معنى الكتاب وتالياً تقاربه مع معنى القضاء (الأزلي) والقدر فقد وضّحهما الرصافي بما يلي:
الكتاب مصدر كتب كتباً وكتاباً وكتبة وكتابة، فهذه أربعة مصادر قد أطلقوا الثاني منها وهو الكتاب على المكتوب أيضاً تسمية بالمصدر، وهو كثير في كلامهم
أما المعنى المصدري لكتاب في أصل اللغة فنستطيع أن نفهمك إيّاه بثلاث كلمات متقاربة في معانيها: وهي الجمع والضبط والحفظ. قالوا: كتب الكتاب إذا صوّر فيه اللفظ بحروف الهجاء، ولا ريب أنّ تصوّرَ الألفاظ بالحروف يتضمن جمعها وضبطها وحفظها من الضياع أو النسيان. وقالوا أيضاً: كتب السقاء إذا خرزه أي خاطه بسيرين، وكتب القربة إذا شدّها بالوكاء وهو الرباط الذي يربط فيه فمها، وقالوا: كتب الناقة إذا ظأرها أي عطفها على ولد غيرها فخرم منخرَيها وشدّها بشيء لئلا تشمّ البو (أنظر “لسان العرب” و”القاموس المحيط” في معنى: كتب) إلى غير ذلك مما يطول إذا استوعبناه- وكل هذا نفهم منه ما هو معنى الكتابة في أصل اللغة.

أضاف الرصافي:
إذا علمنا هذا ونظرنا في المعنى المراد من قضاء الله في الأزل (سيأتي الكلام عن القضاء) رأينا بينه وبين الكتاب تقارباً في المعنى وتشابهاً في القصد، فالكتاب يُجمَع ويُضبَط ويُحفـَظ، وكذلك القضاء الأزلي، فإنّّ الحادثات الكونية بأسرها مجموعة فيه مضبوط أمرها محفوظ من التخلف حدوثها، فلذلك: نعم استـُعمِل الكتاب في القرآن بمعنى قضاء الله في الأزل.

وقد أشرنا [والكلام لا يزال للرصافي] فيما مرّ إلى أن القرآن له اصطلاح خاص في استعمال الكلمات فقد يخرج في استعمالها بعض الخروج عن معانيها اللغوية المعروفة؛ ومن ذلك إطلاقه الكتاب على قضاء الله في الأزل، على أن الكتاب قد أطلق في اللغة أيضاً على الفرض والحكم وعلى القدر، كما هو مسطور في كتب اللغة، فبهذا قد علمنا ما هو اللوح المحفوظ، وها نحن نذكر لك بعض ما جاء في القرآن من استعمال الكتاب بمعنى قضاء الله في الأزل:

قال في سورة الحجر: 4 (وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم) فكتابها هنا أجَلـُها الذي سبق قضاء الله به في الأزل. وقال في سورة الأنعام: 38 (وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء) ما تركنا وما أغفلنا شيئاً من الكائنات في قضائنا الأزلي الذي مشينا فيه بكل كائن يكون. وفي الأنعام أيضاً: 59 (وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين) أي في قضائه الأزلي فهو عالم بكل شيء، وكيف لا يعلمه وقد جرى به قضاؤه وقدره في الأزل. وفي سورة الإسراء: 58 ( وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذاباً شديداً كان ذلك في الكتاب مسطوراً) أي مقضياً به في الأزل لا يتبدل ولا يتغير كأنه مسطور في كتاب. وفي سورة هود: 6 ( وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين ) أي كل ذلك مضبوط في قضائنا الأزلي. وفي سورة فاطر: 11 (وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب) أي قضاء قضاه وقدر قدره. وفي سورة الحديد: 22 (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها) أي هي قضاء قضى به الله في الأزل من قبل حدوثها ووقوعها.
فالكتاب في هذه الآيات لا معنى له سوى قضاء الله في الأزل، وإنما سمّاه كتاباً لأن معنى الكتاب من أصل اللغة: الضبط والجمع، كما مر ّ آنفاً، والكائنات بأسرها مضبوطة في قضاء الله وإرادته، فهو أي قضاء الله بمنزلة الكتاب الذي كتبت فيه الألفاظ والحروف أي جُمِعت وضُبطت لكي لا تـُنسى ولا تضيع. أما وصفه هذا الكتاب بأنه محفوظ أو مكنون أي مصون فلأنه لا يقبل التبديل و التغيير، فهو منزّه من أن تناله يد بشيء من ذلك، لا كما يقولون من أنه محفوظ من وصول أيدي الشياطين إليه! فمن هذا تعلم أنه ليس عند الله لوح أو كتاب بالمعنى الذي تفهمه عامة الناس، وأنه ليس لهذا الكتاب كتبة يكتبونه ويستنسخونه، وهم السفرة البررة أي الملائكة- كما تقول الحشوية.

- تعليقي: يعرف الرصافي سلفاً بأنّ القرآن قد طرأ عليه التبديل والتغيير- والأدلّة كثيرة ومنها ما أ ُسقِط من القرآن عند جمعه واختلاف القراءات، كما علم الرصافي أيضاً أنّ القرآن لم يكن منزّهاً من أن تناله يد بشيء بقناعته بأنّ القرآن من تأليف محمّد بحسب ما أوحيَ إليه معنىً، بالإضافة إلى أقوال الصحابة والكفـّار ممّا جعل منها قرآناً يُقرَأ وغيرها ممّا ذكرت في حلقات سابقة. قلتُ: لا يقولنّ أحد أنّ القرآن كتاب في لوح محفوظ. المكتوب منه والملفوظ. قلْ وأيْمِ الله إنْ هذا إلّا ادّعاءٌ غليظ. إنّ الله منْ ضياع كلامه لحفيظ. وإنّ قول الحقّ لا يَغيظ.

وهنا حديث الرصافي عن القضاء والقدر:
فإنْ قلتَ: قد فهمْـنا هذا ولكنْ ماذا يراد بالقضاء الذي جعله محمد كتاباً مكتوباً فيه كل كائن يكون، وماذا يراد بالقدر؟ قلتُ: إنني كتبت رسالة في آراء أبي العلاء المعري في لزومياته، فتكلمت فيها عن الجبر وعن القضاء والقدر، وها أنا أنقل لك ههنا ما قلته لأنه كافٍ لأنْ يكون جواباً لسؤالك هذا:
إنّ كلّ حادث في الكون لا يكون إلا مسبّباً عن حادث آخر قبله، إذ لا يأتي شيء من العدم إلى الوجود، كما لا يذهب شيء من الوجود إلى العدم، فكلّ حادث لا يحدث إلا مسبّباً عن حادث آخر قبله يكون سبباً لحدوثه، وعندئذٍ يكون السبب هو الحادث الأول والمسبَّب هو الثاني. ويجوز أن يكون السبب خفياً غير ظاهر لنا فلا نراه ولا نعلم به، ولكن لا يجوز ولن يجوز أن يكون معدوماً لا موجوداً، بل هو ضروري الوجود لا بدّ منه، لأن بداهة العقل تحكم حكماً جازماً بأنه لا يكون مسبّب بلا سبب. ثم إن ذلك الحادث الأول الذي كان سبباً للثاني لا يكون أيضاً إلا مسبّباً عن حادث آخر قبله يكون سبباً له، وهكذا تمتد الأحداث في جهة الماضي متسلسلة إلى الأزل فيكون كل واحد منها حلقة من حلقات تلك السلسلة وتكون كل حلقة منها مسبّبة عمّا قبلها وسبباً لما بعدها، وهكذا حتى تصل السلسلة في الأزل إلى السبب القديم الأول الذي هو سبب الأسباب كلـّها وهو الله.
فبهذا قد حصلتْ لنا سلسلة من الحادثات ذات طرفين؛ أحدهما: هو الطرف الأخير عندنا، والآخر: وهو الطرف الأول في الأزل. أما الأزل (بفتحتين) فهو القِدَم، ويطلق في الماضي على ما يقابل الأبد في المستقبل، وهو مأخوذ من الأزل (بفتح فسكون) بمعنى الضيق، فجُعِل اسماً لما يضيق القلب عن تقرير بدايته، كما أن الأبد اسم لما ينفر القلب من تقدير نهايته مأخوذ من الأبود وهو النفور.

أتدري أيها القارئ الكريم ما هو القضاء والقدر؟ هما طرفا هذه السلسلة التي صوّرناها لك؛ فالطرف الذي في الأزل هو القضاء الصادر عن مسبب الأسباب وعلى العلل كلها، والطرف الذي عندنا هو القدر. قال علماء الكلام: إن تعلق الله بأمر من الأمور في الأزل هو القضاء، وإن إيجاد ذلك وإظهاره في الوجود على الوجه الذي أراده الله في الأزل هو القدر، فالسبب القديم الأول الذي ليس له ابتداء كما أنه ليس له انتهاء هو الله، وتعلق إرادته في الأزل هو القضاء الذي هو مسبّب الأسباب، والأقدار كلها مسبَّبَة (بفتح الباء) عنه بالتسلسل على الوجه الذي ذكرناه.

هذا ما نقوله في اللوح المحفوظ وفي الكتاب المكنون الوارد ذكرهما في القرآن؛ أما ما يقوله علماء التفسير ورواة الأحاديث فلا نطيل عليك فيه، وإنما نلخـّصه لك في أنه لوح، وأنه محفوظ من أن تصل إليه الشياطين، وأنه فوق السماء السابعة تحت العرش، وأن القرآن مكتوب فيه، وأنّ أحرف القرآن مكتوبة فيه كل حرف منها بقدر جبل قاف، وأن تحت كل منها معانيَ لا يحيط بها إلا الله، إلى غير ذلك من الأقوال التي ذكرها صاحب الإتقان (43:1) ولنذكر لك بعد هذا بعض ما قالوه في كيفية إنزال القرآن من اللوح المحفوظ تكملة لما ذكرناه: لقد تعددت أقوالهم في كيفية إنزال القرآن من اللوح المحفوظ، فقال الطيبي- كما في الإتقان- لعل نزول القرآن على النبي أن يتلقفه الملك من الله تلقـّفاً روحانياً، أو يحفظه من اللوح المحفوظ فينزل به إلى الرسول فيلقيه عليه.

وكانت للرصافي الملاحظة التالية:
نرى الطيبي متردداً في أن يأخذه الملك من اللوح المحفوظ , وما أدري إلى أي دليل يستند في الوجهين اللذين تردّد فيهما، فإن كان الذي حمله على القول بأخذه من اللوح المحفوظ هو امتناع أخذه من الله ولو بطريق التلقف الروحاني كما قال، فلا بد أنّ أخذه من اللوح لا يكون إلّا بأمر من الله، فكيف تلقـّى الأمر من الله وبأيّ طريق أخذه؟ ويظهر من قول الطيبي هذا أنـّهُ ليس من القائلين بإنزال القرآن في أوّل الأمر جملة واحدة إلى السماء الدنيا، لأنه يقول: إن الملك يتلقفه من الله أو يحفظه من اللوح فينزل به إلى الرسول لا إلى السماء الدنيا!

وفي الإتقان قال القطب الرازي في حواشي الكشاف: الإنزال لغة بمعنى الإيواء، وبمعنى تحريك الشيء من علو إلى أسفل، وكلاهما لا يتحققان في الكلام، فهو مستعمل فيه بمعنى مجازيّ، فمن قال القرآن معنى قائم بذات الله فإنزاله أن يُوجـِد الكلمات والحروف الدالة على ذلك المعنى ويثبتها في اللوح المحفوظ، ومن قال القرآن هو الألفاظ فإنزاله مجرد إثباته في اللوح المحفوظ. وهذا المعنى مناسب لكونه منقولاً على المعنيين اللغويين. ويمكن أن يكون المراد بإنزاله إثباته في السماء الدنيا بعد الإثبات في اللوح المحفوظ، وهذا مناسب للمعنى الثاني- الإتقان 43:1

إنّ كلام القطب الرازي هذا لم يتجه بمعناه إلى قطب ثابت، بل هو يجري جريان الريح المتناوحة لا يعلم من أية جهة تهب وإلى أيّة جهة تتجه، فإنه على كلا القولين (قول إنّ القرآن هو المعنى، وقول إنه الألفاظ) قد جعل الإنزال بمعنى الإثبات في اللوح المحفوظ، إلّا أنـّه زاد في المعنى الأوّل إيجاد الكلمات والحروف وإثباتها في اللوح المحفوظ، وهذا لا يلائم كون القرآن معنى قائماً بذات الله، لأنّ الله إذا أوجد الكلمات والحروف وأثبتها في اللوح المحفوظ كان القرآن ألفاظاً لا معنى قائماً بذات الله. والصواب أن يكون الإنزال (على المعنى الأوّل) بمعنى الإلهام لا بمعنى الإثبات في اللوح المحفوظ، لأنّ مجرّد الإثبات في اللوح لا يتمّ به المراد، إذ لا شكّ أنّ المُراد من إنزال القرآن إيصاله إلى النبي ليبشـّر به ويُنذِر. وحينئذ تكون ألفاظ القرآن لمحمد ولا داعيَ إلى القول بأنّ الله أوجدها وأثبتها في اللوح المحفوظ كما يقول الرازي.
وأمّا قوله: ويمكن أن يكون المراد بإنزاله إثباته في السماء الدنيا... إلخ فلا يتمّ به المراد أيضاً، لأنّ القائلين بأنّ القرآن هو الألفاظ لا بدّ من وقوعهم في مشكلة الإنتقال من علوّ إلى أسفل، لأنّ الألفاظ أصوات تنتقل بواسطة الهواء من مكان إلى آخر، فكيف يكون على رأيهم الإنزال بمعنى مجرّد الإثبات سواء في اللوح المحفوظ أو في السماء الدنيا؟ نعم، إنّ إثبات الألفاظ في السماء الدنيا يتحقق به الإنتقال من علوّ إلى أسفل بحسب الظاهر، بأن تكون الألفاظ نـُسِختْ من اللوح المحفوظ وأ ُثبـِتتْ في السماء الدنيا، ولا معنى لإثباتها سوى كتابتها فيها، فيكون الإنزال بمعنى الكتابة، وإذا كان كذلك فماذا يقولون في إنزالها من السماء الدنيا إلى النبي محمد، أيكون إنزالها حينئذ بالإثبات أم بالتلفظ أم بماذا؟ فالصحيح أنّه لا محيد من جعل القرآن هو المعنى القائم بذات الله ووجه الإنزال بمعنى الإلهام.

ومنهم من قال إنّ القرآن هو اللفظ والمعنى وأنّ جبريل حفظه من اللوح المحفوظ ونزل به. فمن قولهم هذا يلزم أنّ جبريل لم يتلقّ القرآن من الله، إنما أخذه من اللوح المحفوظ فحفظه ونزل به، ويلزم أيضاً أنّ جبريل ألقاه على النبي بالتلاوة فسمِعه النبي وحفظه. وقد علمتَ ممّا ذكـَرْنا في صُوَر الوحي أنها ليست فيها صورة من هذا النوع.

ومنهم من قال إنّ جبريل ألقى إليه وأنه (أي جبريل) عبّر بهذه الألفاظ بلغة العرب، وأنّ أهل السّماء يقرأونه باللغة العربية، ثمّ إنّه (أي جبريل) نزل به كذلك بعد ذلك، فهو الذي صاغ ألفاظه وسَبَك جُمَله وتراكيبه باللغة العربية، ولم يبق لمحمد فيه شيء. وإنّ جبريل على قولهم هذا لم يأخذ القرآن من اللوح المحفوظ كما قال غيرهم، بل تلقـّى معناه من الله رأساً، ثمّ نزل به إلى النبي، وعبّر له عن ذلك المعنى بألفاظ عربيّة من عنده.

ومنهم من قال، وعزا صاحب الإتقان هذا القول إلى البيهقي، إنّ معنى قوله (إنـّا أنزلناه) أي إنّا سمِعنا الملَك وأفهمناه إيّاه، وأنزلنا الملك بما سمع، فيكون الملك منتقلاً من علوّ إلى أسفل. فجبريل على هذا القول لم يتلقّ المعنى وحده عن الله، بل تلقـّى الألفاظ أيضاً فسمعها وأ ُفهـِم معناها، ثم نزل بما سمع وما فهم إلى النبي. فالقرآن معناه وألفاظه من الله، إلى غير ذلك من الأقوال التي هي أقلّ من أنْ نطيل عليك الكلام في إيرادها.

وهنا يستطرد الرصافي متسائلاً:
إنّ هؤلاء يتكلمون بما عنّ لهم وخطر على قلوبهم من دون أن يستندوا في ما قالوه إلى عقل أو نقل، وإلّا فإنْ كان المقصود من هذه الأقاويل كلّها هو توجيه إنزال القرآن على وجه يقبله العقل الصحيح ويستسيغه الذوق السليم، فلماذا لا يقولون بأنّ الإنزال استـُعمِل مجازاً بمعنى الإلهام، وأنّ القرآن هو المعنى القائم بذات الله، خصوصاً بعدما صرّح القرآن بما يتضمّن كون الإنزال بمعنى الإلهام من قوله في سورة الشعراء: 193-194 (نزل به الروح الأمين * على قلبك) ولمْ يقلْ: على سَمْعِك.

ومن الغريب أنـّهم قالوا بأنّ اللوح المحفوظ قد كـُتِب فيه كلّ كائن يكون، ولكنهم مع قولهم هذا جعلوا من فضل القرآن ومن شرفه أنه مكتوب في اللوح المحفوظ. وما أدري أيّ فضل للقرآن في كونه مكتوباً في اللوح المحفوظ، وقد كـُتِب فيه كلّ كائن يكون حتـّى الحمير ونهيقها. فسُبحان واهب العقول ومُعميها.
* تنويه من الرصافي: إعتمد المؤلّف في هذا الفصل على كتاب “الإتقان في علوم القرآن” ج 1 ص 39-44


- تعليقي أخيراً: إنّ تخبّط الفقهاء في معاني الإنزال يصطدم بقوة مع مفهوم البلاغة في القرآن.

---------------------

في الحلقة 14: هل القرآن مُعْجـِز؟
_____________________

من ويكيبيديا: لَبيد بن ربيعة العامِري (ت 41 هـ/ 661 م) أحد الشعراء في الجاهلية، من أهل عالية نجد، مدح بعض ملوك الغساسنة ومنهم عمرو بن جبلة وجبلة بن الحارث. أدرك الإسلام ووفد على محمد مسلماً، لذا عُدّ من الصحابة ولكنْ من المؤلـّفة قلوبهم! ترك الشعر، لم يقل في الإسلام إلّا بيتاً واحداً. سكن الكوفة وعاش عمراً طويلاً ما زاد على مِائة سنة.

 
 
Free Hit Counter Search Engine Submission - AddMe