السبت، 31 أكتوبر 2009

تأليف القرآن- الكشف الوافي بقلم معروف الرصافي- الحلقة 12


رياض الحبيّب
r_hbeyyib@hotmail.com


تناولت في الحلقة الحادية عشرة من هذا البحث تساؤل الرصافي المشروع: هل القرآن مُنزل من السماء؟
وتوصلنا- الرصافي وأنا- إلى أنّ قصّة جبريل وهميّة إنها من خيال محمد الذي كانت له القدرة المميّزة على التصوّر وتجسيد الخيال لدرجة جعله حقيقة ناطقة ومسموعة! وقلت في نهاية الحلقة: فلا نزل جبريل ولا صعد وليس له اتجاه فلا أتى صوب الأرض من جهة الزّهَرَة ولا من جهة المرّيخ! ووعدت القرّاء الكرام بكتابة المزيد عن النزول والإنزال والتنزيل في حلقة قادمة وهي هذه الحلقة.
أمّا نهاية هذه السلسلة من البحث فتشتمل على دحض إعجاز البلاغة في القرآن وتفنيده بأدلّة من القرآن ذاته لا من سواه، بمساعدة كتاب الرصافي “الشخصية المحمّديّة” لكني آثرت تناول بعض تساؤلات الرصافي المشروعة حول مفاهيم الإنزال واللوح المحفوظ والقضاء والقدر وأخيراً ما يسمّى بالإعجاز في القرآن، ما قبل البدء بتناول موضوع البلاغة، بسبب تعلق التساؤلات المذكورة بالبلاغة ما يساعدني بالدخول إلى قضيّة البلاغة في القرآن من أوسع باب ممكن.


يستطرد الرصافي في ص 877 من كتابه أو ص 586-587 عبر صفحات pdf على الإنترنت حول موضوع الإنزال بالقول:
{فإن قلتَ: إن كان القرآن قد استعمل الإنزال في عباراته استعمالاً مجازيّاً فما تقول في قوله (وأنزلـْنا من السّماء ماءً طهورا- الفرقان: 48) فقد استعمل الإنزال هنا على وجه الحقيقة لا المجاز لأنّ إنزال الماء من السماء حقيقة؛ قلتُ أوّلاً: إنّ استعمال البليغ كلمة على وجه المجاز في موضع من كلامه لا يحظر عليه استعمالها على وجه الحقيقة في موضع آخر، وقد قيل: لكل مقام مقال، ثانياً: قالوا أنّ السماء في اللغة هو كلّ ما علاك فأظلّك، فسقف البيت سماء والسحاب سماء، لكننا في بحثنا هذا لا نريد بالسماء هذا المعنى العام، إنما نريد بها ما سوى الأرض من الأفلاك العلوية. والسحاب وإنْ سُمّيَ سماءً ليس من هذه السماوات. فالماء ليس بنازل من السماء بل هو نازل من السحاب المتكوّن من بخار الهواء الصاعد من الأرض في الهواء، كما قال في سورة النبأ: 14 (وأنزَلْنا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثـَجَّاجًا) ولم يقل: من السماء! والْمُعْصِرَاتُ هي السحاب التي حان لها أن تعصرها الرياح وتدرّها بالمطر، فإنّ الريح هي التي تدرّ السحاب كما تقرر في علم الطبيعة... [إلى أن يقول الرصافي] فمياه الأمطار ليست بنازلة من السماء التي نزل منها القرآن، بل هي تنزل من السحاب الذي هو في الأرض لأن الكرة الهوائية جزء من الأرض. غاية ما هنالك انها تنزل من مكان إلى آخر في الأرض، بعبارة أخرى إنها تنتقل من مكان عال في الأرض إلى مكان سافل فيه.
ومن غرائب الأقوال الدالة على غفلة قائلها ما قاله بعض علماء الإسلام من أنّ مياه الأمطار تنزل أولاً من السماء إلى السحاب، ثم يُلقيها السحابُ مطراً على الأرض- كما ذكره الزمخشري في كتابه “الكشاف” عند الكلام على تفسير المُعصِرات- فسُبحان واهب العقول ومُعميها} انتهى

تعليقي:
لقد دافع الرصافي- رحمة الله عليه- فيما تقدم عن رأيه بأنّ «القرآن عبارة عن المعاني دون الألفاظ، وأنّ الإنزال معناه الإلهام، وإنما عبّر بالإنزال مجازاً لتعظيم المُنزل أي المُلهم» ثمّ دعم رأيه بما هو مذكور في كتاب “الإتقان في علوم القرآن” لمؤلّفه جلال الدين السيوطي حول كيفية الإنزال- وهو ما سأذكر بعد قليل. وانتهى الرصافي في نهاية كلامه إلى خلاصة أفادت بأنّ الصحيح الذي يوافق القرآن ويساير المعقول وينطبق على الواقع- بحسب رأيه في ص 592 من كتابه الموسوم- هو أنّ «القرآن كان ابتداء نزوله في ليلة القدر على الوجه الذي تقدم بيانه في بدء الوحي والخلوة في حِراء ثم استمرّ ينزل متفرّقاً في عشرين سنة أو ثلاث وعشرين أو خمس وعشرين على حسب الخلاف في مدة إقامة النبي بمكة بعد البعثة» علماً أنّي في الحلقة السابقة (أي الحادية عشرة) قد كتبت قصة بدء الوحي والخلوة في حراء باختصار.

لكنّ رأي الرصافي يُفنـّد قيام جبريل بأيّ دَور في الرسالة المحمّدية إذ يصطدم بقوّة مع قول القرآن في سورة الشعراء: 193 بما في تفسير الجلالين {“نَزَلَ بهِ الرُّوح الْأَمِين” أي جبْريل} وفي تفسير الطبري {إن الروح الأمين هو الذي نزل بالقرآن على محمد، وهو جبريل} وتفسير القرطبي {إن القرآن لتنزيل ربّ العالمين نزل به جبريلُ إليك؛ كما قال تعالى “قل من كان عدوّاً لجبريل فإنه نزّله على قلبك”- البقرة: 97 أي يتلوه عليك فيَعـِيْهِ قلبُك. وقيل: ليثبت قلبك} لأنّ الرصافي لا يؤمن أساساً بخرافة نزول جبريل وطلوعه، لأنّ الأرض جزء من السماء عينها وأنّ الله مالئ الكون وغير محدّد بمكان ما.
في وقت استغرب الرصافي من علماء الإسلام الذين زعموا أنّ “جبريل علّم محمداً قراءة القرآن” وأنّ “القرآن هو المعاني والألفاظ معاً” وهنا كلام الرصافي في ص 587-588:

{يؤيد قولنا هذا ما ذكره صاحب الإتقان في كيفية الإنزال. قال: قال الأصفهاني في أوائل تفسيره: اتفق أهل السّـنـّة والجماعة على أن كلام الله مُنزل واختلفوا في معنى الإنزال؛ فمنهم من قال: إنه إظهار القراءة، ومنهم من قال: إنّ الله ألهم كلامَه جبريلَ وهو (أي جبريل) في السماء في عالٍ من المكان، وعلّمه قراءته ثمّ أنّ جبريل أدّاه في الأرض وهو يهبط في المكان- الإتقان ج1 ص 43- ولنقف عند هذا الكلام قليلاً لننظر فيه فنقول: لا ريب أنّ الفريق الأول القائلين بأنّ معنى الإنزال إظهار القراءة هم من القائلين بأنّ القرآن هو المعاني والألفاظ معاً، ولذا أرادوا أن يجعلوا الإنزال بمعنى يشمل الألفاظ أيضاً فقالوا هو إظهار القراءة، فيكون معنى قولنا إنّ الله أنزل القرآن أنه أظهر للناس قراءته. وعلى قولهم هذا قد انتفى من الإنزال معنى الهبوط من علو إلى أسفل. وهذا هو الذي أرادوا أن يتخلّصوا منه بجعلهم الإنزال بمعنى إظهار القراءة. ولكنّ الأرجح الذي تطمئنّ إليه النفس ويقبله العقل الرجيح ويستسيغه العقل السليم هو ما ذهب إليه غيرهم من أنّ القرآن هو المعاني دون الألفاظ، وعندئذ يكون الإنزال بمعنى الإلهام [أي رأي الرصافي الذي ذكرت في تعليقي] وأمّا أهل القول الثاني فهؤلاء أيضاً من القائلين بأنّ القرآن هو المعاني والألفاظ معاً، وقد أرادوا أن يحققوا في الإنزال معنى الهبوط من علو إلى سفل. فماذا يصنعون والله تعالى مُنزّه عن المكان، وكيف يهبط كلامه من علو إلى سفل وهو منزه عن الجهات. فتخلّصاً من هذا جاءوا بجبريل ليجعلوه واسطة لانتقال كلام الله من علو إلى سفل، لأنّ جبريل كسائر خلق الله ينتقل من مكان إلى مكان، فقالوا «إنّ الله ألهم كلامه جبريل وهو (أي جبريل) في السماء من عالٍ من المكان» ولم يكتفوا بالإلهام لأنه لا يشمل الألفاظ فقالوا «ثمّ جبريل أدّاه في الأرض وهو يهبط في المكان» فلله درّهم ما أذكاهم وما أقدرهم على تصوير المحال!

وتعليقي مرّة أخرى:
إنّ من معاني البلاغة هو وضوح المعنى بأبسط ما يكون من كلمات ملفوظة أو منطوقة أو مكتوبة ولا سيّما في كتاب يوصف كلامه بأنه كلام الله؛ من هذا المُنطلق لو كان في القرآن بلاغة حقيقية لما اختلف فقهاءُ المسلمين وعلماؤهم على معاني القرآن. فمثالاً لا حصراً يستطيع ربّ الأرزاق {الذي دينيّاً لا رازق سواه} أن يقول: ورزقـْناهُمُ المَنّ والسّلوى كُلُوا مِنْ طيّبَاتِ ما رزَقناكُم- وهذا ما اقترح الرصافي على مؤلّف القرآن- بدلاً من قوله في الأعراف: 160 (وَأَنزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقنَاكُمْ) بدون أن يُنتـَقـَصَ من تعظيم الخالق شيء، هذا لكي يميّز بين معاني الإنزال الذي ورد في آيات قرآنيّة عدّة. ومن جهة أخرى، لو كان القرآن كلام الله- كما يزعمون- فهل تستعصي على الإله الحقيقي كلمات يفرّق بها القارئ ما بين المعنى الحرفي والمعنى المجازي؟
لكنّ في القرآن اعترافاً خطيرا- هو ما ورد في سورة النساء: 82
(أفلا يتدبّرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيرا)
أفلا يدلّ الإختلاف الكثير الموجود في القرآن، حرفيّاً ومجازيّاً، ناسخاً ومنسوخاً، على أنّ القرآن من عند غير الله؟
- أمّا الجواب فمتروك للقرّاء الكرام.

---------------------

قريباً جدّاً: رأي الرصافي باللوح المحفوظ - مع تعليقي


 
Free Hit Counter Search Engine Submission - AddMe